اختيار بشار الأسد لقناة روسيا اليوم لبث "خطاب الوداع" يعادل إعطاء المقابلة لتلفزيون المنار أو دنيا. فهو ومستشاروه الإعلاميون يدركون أن الغرب، بعد كل هذه المجازر، لم يعد أذنا صاغية له. هو يخاطب حلفاءه الذين يشاركونه في الجرائم، ويحاول أن يستنهض هممهم لتقديم المزيد من الدعم. وفي نداء الاستغاثة، يحذر بشار من مغبة سقوطه، "خصوصا أننا المعقل الأخير للعلمانية والاستقرار والتعايش في المنطقة، فإن ذلك سيكون له أثر "الدومينو" الذي سيؤثر في العالم من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي". في أسلوب الأستذة الذي يمارسه، لم يكشف لنا ما هي العلمانية والتعايش والاستقرار بعد عقود من أسوأ نظام طائفي دموي حطم دولة الاستقلال التي تأسست على ركني العروبة والإسلام. وفيها تحولت الأقليات الدينية والإثنية إلى أكثريات سياسية في ظل دولة المواطنة. في سورية وبدون افتعال وصل المسيحي والكردي إلى موقع رئيس الوزراء، وفتح الجيش أبوابه لأبناء الطوائف كافة ولم يكن جيش العرب السنة. وبسبب التسامح هذا تمكن الطائفيون من اختراق الجيش والهيمنة عليه، هؤلاء الضباط ومنهم حافظ الأسد هم من أنهوا تجربة الوحدة العربية مع مصر، كما أنهوا تجربة الديمقراطية. السوري قبل النظام الطائفي، كان منسجما مع إرثه الحضاري، ومع الديمقراطية، وصنع وحدة وطنية مع ذاته وعربية مع مصر بدون بساطير العسكر. دستور سورية الاستقلال، كما يكشف الباحث في مركز دراسات الوحدة العربية عبدالرحمن باروت، ويؤيده في ذلك المراقب العام للإخوان المسلمين سابقا علي صدر الدين البيانوني كان من أبرز من صاغوه مؤسس الإخوان في سورية وعميد كلية الشريعة الدكتور مصطفى السباعي. وفي مداولات الدستور كان الشيخ السباعي تقدميا، كما يكشف باروت وهو بعثي سابق، في صياغة علاقة الدين بالدولة وبناء مفهوم المواطنة. وهذا الرأي التقدمي لم يكن في مقابلة صحفية وإنما في مداولات الدستور. جاءت انتخابات الجمعية العامة واللجنة التنفيذية والرئيس في المجلس الوطني السوري، منسجمة مع إرث السباعي، عندما انتخب المناضل جورج صبرا في تجربة هي التجربة الديمقراطية الأولى للشعب السوري بعد سنوات طويلة، واعتبرها صبرا درسا في الوحدة الوطنية، و"بروفة" للانتخابات المحلية والعامة وانتخاب رئيس الجمهورية في سورية بعد رحيل الأسد. وأضاف: "دعم حركة الإخوان المسلمين لمرشح مسيحي من أجل رئاسة المجلس الوطني دليل على نضجها ووعيها لإمكانية عيش الفئات المختلفة معًا"، لافتا إلى أن المسلمين والمسيحيين في سورية عاشوا بسلام على مدى قرون، وأن أحد وزراء الأوقاف في سورية، قبل عهد الأسد، كان مسيحيا. صحيح أن العلمانية بمفهوم آل الأسد انتهت. وليس مطلوبا اليوم الدخول في سجال حول العلمانية. المطلوب العودة إلى سورية الحقيقية التي ينتخب فيها فارس الخوري وجورج صبرا وميشيل كيلو وغيرهم. لا سورية التي تفرض طائفة نفسها بالحديد والنار والمجازر. إن سورية الغد ستكون لكل أبنائها، والعلويون سيكونون الكاسب الأكبر من سقوط النظام. سيكتشفون أن قوة المواطنة التي قدمت طوعا ورضا أوباما ابن الأقلية السوداء ورومني ابن أقلية المورمون أبقى وأقوى من قوة أجهزة الأمن والشبيحة، وسيفاجؤون بأن العدالة والتنمية هي التي تنهض بمناطقهم وتعطيهم خيارات واسعة. أما احتكار الأمن والجيش فلم يعد لمناطقهم بغير الفقر والبؤس. يحتاج بشار الأسد لقراءة الواقع قبل قراءة التاريخ. من الواضح في مقابلته الوداعية أنه يجهل أو يتجاهل تاريخ سورية وواقعها ومستقبلها أيضا. [email protected]