من المسالك التي تواقعها أنظمة عديدة في عالمنا العربي، في معرض مواجهتها واحتوائها مد جماعات وتيارات إسلامية تتمتع بقواعد جماهيرية واسعة وعريضة، اللجوء إلى إنشاء وتأسيس أحزاب إسلامية يقوم على تشكليها إسلاميون لهم سابقة في العمل الإسلامي، لكنهم لأسباب مختلفة فارقوا جماعاتهم، فوجدوا أنفسهم خارج ما اعتادوه وألفوه من العمل المنظم والمبرمج، فلما لاحت فرصة التأسيس لعمل جديد مع ما طرأ على النفوس والأفكار من تحولات وتغيرات، وجدوا أنفسهم منخرطين في أعمال التأسيس والبناء لهياكل جديدة إسلامية الظاهر، حكومية الباطن. إنشاء أحزاب إسلامية يقوم عليها إسلاميون سابقون، بدعم وتمويل حكومي، خطوة معلومة النتائج مسبقا، وهي غالبا ما تفشل في المهمة التي أنشأت من أجلها، ولا تستطيع في أحسن أحوالها أن تستقطب جمهورا واسعا، بل تجد عامة الناس عنهم منفضين مبتعدين، وغالبا ما تكون نشاطاتها وفعالياتها ضعيفة الحضور والظهور، ومهما حاولت التزين بشعارات إسلامية، وأسماء إسلامية، إلا أنها في المحصلة النهائية تفشل فشلا ذريعا في مهمة الاستقطاب والتوجيه والحشد. للدول بحكم السياسات البراغماتية التي تتبعها أن تلجأ إلى كل الوسائل المتاحة بين أيديها، لمواجهة خصومها السياسيين، واحتواء المعارضات وتقليم أظافرها، لكن المستهجن والمستغرب هو تطويع أولئك المعارضين ومن بينهم الإسلاميين، كي يصبحوا أدوات بيد الأنظمة تشكلهم كيفما شاءت، وتضعهم في المكان الذي تريده، وتحملهم على أن يمارسوا الدور الذي ترسمه لهم بدقة متناهية، كيف ينقلب أولئك على أفكارهم ومبادئهم التي عاشوا يدافعون عنها سنين من عمرهم؟ كيف يرضون لأنفسهم أن يمارسوا دورا كانوا يصفونه بالقميء والقذر؟ كيف يتحول الرجل المفكر إلى أداة تنفيذية يتعطل فيها عقله ليفكر له غيره؟ تَعْجب من شخص ذي فكر ورأي، يكون في سابق عهده مجتهدا مجدا في دعوته وحركته، صارما في مواقفه من النظام، فإذا به بعد مرور سنوات، يصبح أداة من أدوات النظام، بعد أن تم تطويعه فأرخى عليه النظام عباءته ليكون طوع بنانه، ورهن إشارته! عجيبٌ أمر تلك النفوس التي ترضى بأن تكون كذلك، هَبْ أن الواحد منهم اختلف مع جماعته أو حزبه، أو مع أشخاص منهم، هل يؤدي ذلك إلى الارتماء في حضن النظام مرة واحدة؟ وهل يعني ذلك التنكر لسابق العهد، وللحظات الوداد والصفاء والنقاء؟ لو نظر أولئك المفارقون جماعاتهم وأحزابهم وتياراتهم، أنفسهم في مآلاتها وقارنوها بما كانوا عليه في أيامهم الخوالي، لوجدوا أنهم قد انسلخوا من جلودهم، فحينما تقارن بين حال شخص كان في سابق عهده شيخاً داعية، حراً في فكره ومواقفه، ثم ما لبث حينما انضوى تحت عباءة النظام أن أصبح شخصاً آخر مختلفاً تماما، إذا رأيته وعاشرته في نسخته الجديدة لا تكاد ترى فيه معلما مما كنت تعرفه عنه في صورته القديمة السابقة. قد يجد المرء من بين تلك الأحزاب التي يقوم على تشكليها إسلاميون سابقون، من تلبس بمفاهيم إسلامية راقية، ومن تدثر بشعارات ومسميات زاهية، ورفع عقيرته بالترويج والتبشير لتلك المفاهيم والشعارات، وقد تكون كلها في ذاتها حقاً لا مرية فيه، لكن القائمين عليها بدل أن يكسبوا بها قلوب الناس، ويقوموا باستقطابهم لإطارهم الحزبي، تجد عامة الناس مجرد أن يعلموا أن ذلك الحزب أو تلك المؤسسة تستمد ماء حياتها -ولو كان في الباطن- من الدولة والنظام، ينفضوا عنها، ويفارقوا مجالسها وفعالياتها. ثم إن من الملاحظ أن الإخلاص في العمل، والتجرد للفكرة، يكاد أن يغيبا عن غالب العاملين في تلك الأحزاب الإسلامية «الحكومية»، فيصبح العمل ميدانا للصراعات الشخصية، وحلبة للتنافس على المغانم والمكاسب المادية والوظيفية؛ الأمر الذي يؤثر في طبيعة العمل، وجودة الأداء، ويعكس حقيقة ما يقوم في النفوس، من تنافس غير شريف، وحرص شديد على المواقع الوظيفية، والمكاسب والامتيازات المادية، لقد ماتت في النفوس تلك الدوافع الإيمانية المحركة للعمل الطوعي الخالص، الذي لا يرجو شيئا من الدنيا وحطامها، وغاية ما يرجوه رضا الله والثواب في الآخرة. لو أن الأنظمة تعقل حقا لأقلعت عن مسالكها تلك؛ لأنها بلا جدوى، وإنفاق للمال في غير محله، وتجارة خاسرة، فعامة المواطنين يتحسسون ويتوجسون خيفة من كل شيء يُدمغ بخاتم الأنظمة -ولو كان في الباطن- وهي محاولة فاشلة تتوسل بأشخاص فقدوا مصداقيتهم في أحزابهم وجماعاتهم من قبل، والأولى من ذلك كله فتح باب الشراكة الحقيقية مع المعارضة بكل ألوانها وأطيافها، وعدم اللجوء إلى إيجاد بدائل لضرب الحركات والأحزاب والتيارات الأصيلة؛ لأن الدخيل مهما كان شأنه لن يستطيع أن يسد مكان الأصيل.