في أثناء دراستي في كلية الحقوق بجامعة دمشق في الخمسينيات من القران الماضي -وبالتحديد في شهر أيلول من سنة 1954، وهي سنة التخرج، قال بعض الطلبة إنهم سيشترون بذلات كحلي خاصة للتخرج؛ لأن ذلك من التقاليد المعمول بها في مثل هذه المناسبة. واستهوتنا الفكرة أنا وزميلي السيد سالم مساعده، فذهبنا إلى محل بيع أجواخ -بذلات- في سوق الحميدية، اعتدنا الشراء منه بذلة في كل سنة، وطلبنا منه قماشاً كحلياً لبذلة التخرج، وقلنا له إننا سنشتريها بالتقسيط كالعادة؛ لأن ميزانيتنا لا تسمح بدفع الثمن كاملا، وقلنا له: «صحيح أننا سنتخرج وقد لا نأتي للشام لدفع الأقساط، ولكن سنجد طريقة لتسديد الثمن إذا أردت»، وقال لنا التاجر: «أنتم زبائني من أربع سنوات وإذا تمكنتم من دفع الأقساط فبها، وإن لم تتمكنوا فاعتبروها هدية تخرج مني». وفوجئنا بالموقف النبيل من هذا التاجر الشهم الذي أوفى ما تعهد به وأعطانا قماش البذلتين، حيث جرى خياطتها في مكان آخر، ودفعنا ثمن الخياطة نحو خمسة دنانير لكل واحد لخياط قريب من محل التاجر. وهكذا لبسنا بذلات كحلي عند التخرج، وكنا الأردنيين الوحيدين اللذين لبسا هذه البذلة من تسعة طلبة حقوق، وثلاثين طالبا أردنيا تخرجوا في شتى الاختصاصات الأخرى. وبعد حفلة التخرج عدنا إلى عمان وما تزال ذمتنا مشغولة للتاجر بنحو عشرة دنانير لكل واحد. واستطاع سالم الحصول على وظيفة في ديوان المحاسبة على ما أعتقد بعد سبعة أشهر من التخرج وتمكن من سداد الدين. أما أنا فلم أتمكن من العثور على وظيفة إلا بعد سنتين من التخرج، حيث التحقت بالجيش كملازم أول في شهر أيلول سنة 1956.. وعندما استلمت أول معاش وكان نحو سبعة وعشرين دينارا على ما أذكر وفي يوم جمعة يصادف عطلة ذهبت إلى الشام ووجدت محل التاجر ويدعى أنس الغبره -إذا لم تخنِ الذاكرة- مغلقاً، واضطررت للمبيت إلى اليوم التالي، حيث ذهبت في الصباح ودفعت له العشرة دنانير وفوجئ الرجل عندما علم أنني أنتظر ذلك من الأمس. وقال لي: يا بني ألم أقل لك إنها -هدية التخرج- فأصررت على الدفع، وهكذا كان.. وقال لي الرجل: إن ثقتي بكم في محلها، فأنا أعلم خلق الإنسان من تعامله.. وقد تعاملت معكم أربع سنوات فكنتم مثالاً للالتزام. فشكرته وعدت إلى عمان بعد أن برئت ذمتي من دين مضى عليه عامان. لا أكتب هذا الموضوع لأمدح نفسي.. فمادح نفسه غير مصدق في أقواله.. وقديماً قيل: الفضل ما شهدت به الأعداء. ولكنني أقرر واقعة حدثت ووقعت في زمن كنا فيه ما نزال نتمسك بالأخلاق والمثل والمبادئ. ولكن للأسف فإن بعض من كانوا منا يتمسكون بهذه المثل والمبادئ قد انحرفوا وأصبحوا حكاما متسلطين وموظفين فاسدين، عرف عنهم قبض الرشاوى وتعيين الأقارب والمحسوبين.. وغير ذلك من أصناف الفساد. وإذا كنا في هذه الأيام نرى أن القابض على مبادئه وأخلاقه -كالقابض على جمره- وأن الفاسدين والمنافقين أصحاب المناصب العليا والظهور في المجتمع وهم الذين بيدهم مقاليد السلطة لوجدنا أننا في الزمن الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة». هذا الزمان الذي نعيشه هو ما قصده الرسول في حديثه. ونرجو الله أن تتخطى الأمة هذا الوضع وأن تعود إلى سابق مجدها وعزها. لأن هذه الأمة -هي خير أمة أخرجت للناس- وعليها أن تحافظ على وضعها ومكانتها لتثبت أنها تحظى بالحديث النبوي الشريف وبأنها خير أمة أخرجت للناس..