عام 1936، بلغت الحرب الأهلية في إسبانيا الزبى، واضطر أنطونيو ريفيرا للتحصن مع بعض الوطنيين في قلعة الكازار. في البداية، رفض داعية السلام الدفاع عن الحصن بشدة، وهو ما عوقب عليه بفظاظة حين اضطره رفقاء المحبس لتنظيف المراحيض. لكن الموقف لم يلبث أن تدهور، وبدأ المدافعون عن الحصن يتساقطون كالفراش المحترق، وهو ما اضطر ريفيرا إلى التخاذل عن موقعه، والتقدم نحو مقدمة الحصن للدفاع عما تبقى من رجال. لكن الرجل يومها آلى على نفسه أن لا يقتل أحدا بدافع الكراهية. كان الرجل يزود المدفع الرشاش بالذخيرة الحية وهو يتمتم ساخطا: "بارود .. بلا كراهية." وبعد تسعة أيام من العنت، وصلت قوات التحالف الوطنية، واستطاعت إخراج الرجل ورفاقه من قبضة المحاصرين. لكن الرجل الذي قاوم ببسالة ودون كراهية، خرج من المعركة بذراع واحدة وقلب كسير، ولم يلبث في بيت أبيه شهرين كاملين حتى وافته المنية. كيف كان شعور الرجل يا ترى وهو يحمل بين يديه أحزمة الرصاص ليحشو بها فوهات المدافع المسلطة على أكباد أهله وبني وطنه؟ هل كان يشعر بما شعر به السفلة الذين رفعوا سيوفهم في وجه الحسين يوم قالوا كذبا: "قلوبنا معك وسيوفنا ضدك؟" وهل خرج الرجل من حصاره الممض ملوحا بشارة النصر وهو ينظر إلى أشلاء قومه عن يمين وشمال؟ للحرب إذن سوءاتها، وأسوأ ما فيها أنها تختبر أنبل ما فينا من عواطف، وأثمن ما فينا من قيم. يقبل المرء على الحرب الأهلية بجملة من الشعارات المخاتلة، والادعاءات المرائية، لكنه لا يلبث تحت وطأة الحصار أن يتخاذل شيئا فشيئا ليفقد ما لديه من مروءة. وحين تضع الحرب أوزارها، ويعود ذوو الأشلاء والأرحام المبعثرة إلى ديارهم الخاوية على مبادئها، تبدأ الذراع التي بترت والرحم التي قطعت والبقايا المتناثرة في زوايا الذاكرة في التحول إلى حصار دائم وهم مقيم. لم تنفع ريفيرا شعاراته الفارغة، ولم تقلل من وخز رصاصاته المدببة تمتماته المضحكة وهو يلقم أفواه المدافع بالخراطيش الموجهة نحو الرؤوس والصدور. ألم يكن رسول السلام يدرك أن برادة الحديد المتساقطة من بين يديه ستسكن عما قريب صدور ذوي القربي لتخلف في أفئدة ذويهم الوجع والحسرة، وتترك ذويهم نهبا للفقر والجوع والمرض؟ في الحرب تتحول الشعارات الكاذبة إلى بارود يحوقل حول الجثث الباردة. وفي الحرب تتغير اللافتات، ويجد المقاتلون دوما ما يبرر عنفهم وهمجيتهم، فتراهم يتمتمون وهم يمررون أصابعهم الرقيقة فوق أمشاط الرصاص: "بارود بلا كراهية!" أيها الكاذبون المراءون المدافعون عن طهر نواياكم بالجحيم المذاب، كذبتم والله، وكذبت نواياكم، فلا بارود بلا كراهية، ولا رصاص مع حسن الطوية. ليتكم تلقون أقنعة الشهامة التي لا تواري سوءاتكم، أو تلقون أسلحتكم قبل أن تقتلوا الحسين آلاف المرات بدعوى حبه. تلعنكم كل الدماء، وكل الأرحام وكل الديانات أيها الخارجون على سلطان المروءة بتعاويذ لم تعد تقنع طفلا غريرا بدعاواكم الباطلة. يمكنكم أن تخلطوا دماء المصابين والشهداء بدموع الحسرة كيفما شئتم، ويمكنكم أن تحوقلوا وتديروا وجوهكم حتى لا تروا عدد الجثث المتناثرة فوق ميادين الخيانة ذات اليمين وذات الشمال. ويمكنكم أن تدكوا عشرات الأحلام وأنتم تصلون جهرا لشياطينكم. لكن لا تطلبوا منا أن نصدق أن المدافع التي توجه إلى صدور الأقربين تحملها أياد بيضاء، ولا تطلبوا منا الجلوس على موائدكم أو السير في ركابكم، وأنتم تقتلون الحسين وقلوبكم معه.