كتاب ممتاز وهو أحد الكتب المفضلة لدي بلا جدال .. هو عبارة عن مذكرات قرصان اقتصادي دولي .. ويحكي الرجل تجربته مع هذه الوظيفة. يتحدث الرجل عن أنه بينما لجأت القوى القديمة (بريطانيا وفرنسا) للاحتلال العسكري المكلف مادياً وبشرياً؛ نهجت الولاياتالمتحدة نهجاً مختلفا تماماً وهو ما عُرف ب(سياسة الاحتواء الاقتصادي) والتي تتلخص في مبدأ بسيط جداً ألا وهو استخدام المؤسسات الدولية مثل "البنك الدولي" في تقديم مساعدات اقتصادية وقروض إعمار لدول العالم الثالث مقابل أن تقوم الشركات الأمريكية بتنفيذ المشروعات الكبرى في الدولة المستدينة مثل محطات طاقة ومطارات وشبكات طرق وشبكات اتصالات؛ وفي الوقت الذي تستدين هذه الدول من البنك الدولي تكون فوائد القروض أكبر من قدرة هذه الدول على السداد ومن ثم تتراكم فوائد القروض وتعجز هذه الدول عن السداد. هنا تتدخل الولاياتالمتحدة "لمساعدة" هذه الدول مقابل قواعد عسكرية أمريكية على أراضي هذه الدولة أو لتمرير قرارات معينة في مجلس الأمن أو القيام بإصلاحات اقتصادية داخلية معينة (خصخصة القطاع العام، الضريبة العقارية، الكويز، .. الخ) تساهم في زيادة الطين بللاً. بهذا يكون البنك الدولي فاز بفوائد القرض وفازت الشركات بأموال عقود الإعمار وفازت الولاياتالمتحدة بالسيطرة السياسية على الدولة المستدينة ولا يوجد خاسر في هذه اللعبة سوى المستدين. تكرر هذا الأمر في دول كثيرة جداً مما يطرح سؤالاً مهما؛ لماذا تستدين هذه الدول أصلاً؟؟ عملت سياسة الإنجليز (المستعمر القديم) على تنصيب ما يسمى بالواجهة المحلية في الحكم. هذه الواجهة تظل في الحكم مادامت محافظة على مصالح الاستعمار وعندما تفشل في الحفاظ عليه يتم التنكيل بها كما حدث مع (نورويجا في بنما؛ صدام حسين في العراق؛ مبارك في مصر) وبالتالي فموافقة صانعي القرار في الدول الصغرى على الاستدانة بقروض لن تحتاج إليها دولهم ولن تصبح مشكلة كبيرة لأن هذه الواجهة المحلية تدين ببقائها في السلطة للولايات المتحدة؛ مما يعني أنها ستوافق على أي قرض ما دامت الولاياتالمتحدة أمرت به. وللعجب فبينما جلست لكتابة هذه السطور قرأت عن إحباط القوات الأمريكية لمحاولة انقلاب القوات المسلحة القطرية على الواجهة المحلية "حمد بن جاسم" وذلك لأن الرجل يسير وفق المخطط الأمريكي الكبير بمنتهى الدقة ولا داعي لاستبداله الآن للتدليل على نظرية الاحتواء الاقتصادي دعونا ننظر لبلد وقعت في براثن الاحتواء الاقتصادي بنفس الأسلوب .. في أواخر ستينيات القرن الماضي تم اكتشاف احتياطي كبير للنفط في "إندونيسيا" وفوراً أصدرت الإدارة الأمريكية الأوامر للشركات الأمريكية العملاقة بضرورة احتواء إندونيسيا بأي ثمن حتى لا تقع في قبضة المعسكر الشيوعي بكل ما تملكه من إمكانيات نفطيه هائلة. توجه مسئولين من هذه الشركات لمقابلة صانعي القرار في إندونيسيا لتقديم عروض بتجديد شبكة الكهرباء وبناء محطات طاقة جديدة تساعد على بناء المزيد من المطارات والطرق والمصانع وإحداث نهضة اقتصادية في إندونيسيا وعرض المسئولين في هذه الشركات "التوسط" لدى البنك الدولي لتسهيل هذه القروض. قامت الشركات الأمريكية بوضع توقعات أحمال طاقة عالية جداً تفوق حاجة إندونيسيا الفعلية؛ فالحقيقة أن أحمال الكهرباء التي كانت تكفي لم تكن تتعدي ال 8% من قدرة الشبكة ولكن الشركات قدرت الأحمال المتوقعة ب 20% حتى تزيد قيمة القرض ولم تمض أكثر من 5 سنوات شهدت فيها إندونيسيا طفرة بالفعل ولكن حين جاء ميعاد تحصيل الفوائد هرعت إندونيسيا لأمريكا طالبة العون. هنا قبلت أمريكا أن تساعد إندونيسيا على التدخل لدى البنك الدولي لجدولة الديون في مقابل الحصول على عقد احتكار للشركات الأمريكية للتنقيب عن البترول في الأراضي الإندونيسية. وبهذا تم نقل مال القرض من خزانة البنك الدولي إلى مصارف نيويورك و واشنطن وحصل البنك الدولي على الفوائد فيما حصلت الولاياتالمتحدة على البترول وفازت الشركات بأموال القرض التي ستصب مباشرة في خانة الاقتصاد الأمريكي. وهكذا تم نهب ثروات إندونيسيا على الرغم من أنه كان بلداً واعداً جداً ذو مستقبل مشرق. وتستمر المأساة مع الجميع .. وفي الكتاب نماذج أكثر وقاحة منها مثلا تدخل عسكري مباشر في كل من بنما والعراق لتوريد عقود إعادة إعمار تساهم في رفع حالة الاقتصاد المتهاوي للولايات المتحدة.