دائماً يقف العلمانيون الخليجيون والعرب «بالذات المحسوبين على السنة» في مكان هلامي عندما تكون المذهبية في المشهد. والثورة السورية وضعتهم في محنة أيديولوجية ذلك لترفعهم عن الطرح الطائفي «تمدناً»! الترنح الذي يصيب علمانيينا عندما يتصدر الخطاب الإسلامي أي حدث تغييري سببه أنهم أجروا إحلالاً لمصطلح «الشرعية» بآخر هو «المدنية» فصارت الأخيرة هي مرجعيتهم؛ لذا عند النزاع الديني لا يوجد لديها مسميات وحلول ومواقف؛ لأنها تشريع بشر والشريعة قانون رب البشر. فرق صعب عليهم إدراكه رغم بساطته! لما ارتفع عفن دم سكاكين الطائفيين الذين صدّرهم حزب الشيطان لأرض سوريا بدأ نسيج التيار العلماني بالانسلاخ عن بعضه بعضاً لتظهر وبسرعة فائقة عوراتهم المتهتكة. وتمسك العلمانيون بوصف الثورة السورية ب «المدنية» وانتشر محللوهم يدلسون الأحداث بمنطق وعقل الهوى لا الحق والعدل؛ ذلك لأنهم يعيشون أزمة اللاهوية أصلاً. فكيف يمكنهم فهم هويات أخرى؟! المشروع العلماني الخليجي العربي يقوم على دحض الإسلاميين. فلو لم يكن هناك إسلاميون فما هو مشروعهم؟! هذا ما أقصد تماماً. لا يوجد لديهم مشرع فعل، بل مشروع رد فعل. ويبقون أتباعاً في قراراتهم وهتافاتهم لفعل التيار الإسلامي. ويكفي التيار الإسلامي شرفاً أن يكثر النباحون عليه. وأزعم أن العلمانيين العرب صنفان: الأول وأسميته «الفوضوي» ولديه مشكلة في الالتزام السلوكي الديني لذلك اعتنق العلمانية؛ لأنها عقيدة التحرر من الضوابط والأخلاق. أما الثاني وأسميته «المتزلف» لأنه متأثر بالثقافة الغربية ومنبهر بها وغالباً ما يستخدم مصطلحات مثل «رجال الدين» «التنوير» «السلطة الدينية» «الحرية» «المواساة» ويتجنب الترويج للعدالة لأنه مؤمن بالطبقية معتبراً نفسه من الصفوة. وإن أخفى ما يبطن. نعم. العلمانيون باطنيو العقيدة. وعندما يواجه العلماني «السني» الظاهرة الطائفية فإنه يهرع لحيلة الإنكار «النفسية» وعدم الاعتراف بها والاستقتال لتسفيهها. والأمر أنه يعتبر «الظاهرة الطائفية» دليلا عقليا جديدا على تفوق المجتمع المدني على الهوية الدينية ويستشهد عادة بأثر الدين على تاريخ أوروبا الدامي. ويجهل الكثير من التاريخ الإسلامي. ويستخدم كلمات مثل «تاريخ وتراث» على التشريع والفقه والأصول. فينتقل من الإنكار إلى الاحتجاج ويهاجم السني بشراسة إذا ما رد على استفزاز طائفي من شيعي أو أي مذهب وملة أخرى. وقد برأ الاستفزاز وجرم الرد على الاستفزاز. حالة مرضية ومعضلة فكرية تتطلب درس مخ العلماني الخليجي والعربي ظاهرة انفعالية غير متوازنة تقوم على رد الفعل وليس لديها منظومة أفعال! ومع الوقت، تتشكل انهزامية العلماني السني أمام طائفية المذهب الآخر وحتى علمانييه، بل يتعاطف معه أحياناً بدعوى حرية الرأي والمعتقد بالإضافة لعزف الآخر على مبدأ الأقلية المظلومة المنتهكة فيهاجم بشدة من يوافقه بالمذهب باعتبار أنهم أكثرية وعليها الترفع عن النزاع اللاإنساني المسمى بالطائفية! وفي الصحافة الكويتية أمثلة فاقعة على صحف ملاكها علمانيون يتصيدون على الإسلامي السني ويتغافلون عمداً عن الشيعي بل يبررون له. ومع تغيير نظام الحكم في العراق 2003 تصاعدت ملامح المشروع الإيراني المتدثر بالمذهبية وظهر إلى السطح الخطاب الشيعي المتشدد عراقياً ولبنانياً. وخليجياً وجدنا العلمانيين العرب يمارسون هرطقة «التفكير بالتمني» وهي خدعة نفسية أخرى مفترضين أنها طفرة وتزول منكرين أن ما يحدث مشروع سياسي إيراني! ورطة العلمانيين الكبرى بدأت مع الربيع العربي فعندما انتقلت تونس ومصر وليبيا إلى «المجتمع المدني» والممارسة الديمقراطية وتفوق الإسلاميين وكسبوا الأرض والشعب. ضغط العلمانيون الفرامل بكل ما أوتوا من قوة وتفرقوا ما بين متباك على «الاستقرار» ومحذر من «إساءة استغلال الديمقراطية» أو مجاهر صراحة أن «الشعوب العربية غير مؤهلة للديمقراطية» ولم يخجل بعضهم من تعيير نسبة كبيرة من الشعب المصري بأنه أمي. كمثال للفكر العلماني الذي يدعي النخبوية! ثم جاءت طامة العلمانيين الخليجيين والعرب مع سوريا فمع علمهم أن سوريا مختطفة منذ الستينيات من قبل أقلية طائفية. تحاشوا دوماً الإشارة لهذه الحقيقة المحتلة لبلد منكوب. ولم تتردد مجموعات علمانية كثيرة من الترحيب بسحق حافظ أسد ل «التطرف» في حماة العام «1982»! ومع اندلاع ثورة سوريا في 2011 اختار معظم العلمانيين تجاهلها ما استطاعوا والقليل منهم جاهد لتصويرها «ثورة مدنية» بعيدة عن الدين والمذهب، لكن النظام نفسه لم يترك للعلمانيين مهرباً لحفظ ماء وجهه، وفرض اللغة الطائفية الدموية على الثورة فصارت الصبغة اليومية للأحداث ولنشرات الأخبار العالمية. لما جاهر النظام السوري بطائفية مخيفة وانتقائية في الإبادة وذبح هو ومرتزقته الأطفال بالسكاكين وقطعوهم أوصالاً ورموهم في حاويات القمامة. وكان الثوار يرفعون راية «إسلامية» وكل أسماء الكتائب المقاتلة تشهر الهوية الإسلامية للثورة من أراضي سوريا رغم القمع والتشريد وتخلي المجتمع الإسلامي والصمت الخليجي والترقب الدولي. فمن بقي ليقف مع رأي العلمانيين اللقيط بأنها «ثورة مدنية» لا دينية؟ ثم جاء حزب الشيطان ليزيد الطين بلة بعد أن أقحمتهم إيران في خروج الشعب السوري المستحق. عبر خطاب طائفي أعلنه حسن أكثر من مرة بأنه ينفذ أوامر الولي الفقيه. واستهجنته قلة شيعية لبنانية على استحياء خوفاً من حرب الاغتيالات التي يبرع بها المجرم الجبان أمثال قتلة الأطفال ومغتصبي النساء. فبرز مشروع إيران الظلامي الظالم ولا يمكن لضمير بشر أن يتحمله فماذا يفعل العلماني؟ صار العلمانيون الخليجيون والعرب السنة في موقف الخطاب المنحط أخلاقياً. أو الاعتراف بالدفع الطائفي. وهنا أين يقف الإعلان العلماني في خطابه؟ الثورة السورية المباركة شقت الصف العلماني؛ فجاء خطابا محنطا ولا واقعيا، ولن تكتفي هذه الثورة بإسقاط بشار، ولن تكتفي بنزع عمامة حسن، ولن تكتفي بكشف الوجه التوسعي لملالي إيران، ولن تكتفي بنتف لحى مُفتيي السلطان السنة، بل ستقوم بما لم تقدر عليه كل التغييرات والأحداث السياسية خلال قرن تقريباً. منذ سقوط الدولة العثمانية. وإعلان موت الحكم بالشريعة الإسلامية. ستكون الثورة السورية مدفناً للعلمانية الغبية للأبد. وستبقى أرواح شبيحتها أشباحا تحوم فوق كل المبادئ الأخلاقية والإنسانية وتقول {يا ليتني قدمت لحياتي}.