برغم التطورات المعلوماتية المذهلة، يظل النص المكتوب عماد الصورة، فلا شيء يتم بمعزل عنها، سواء في أشرطة "الكليب" أو الأشرطة الوثائقية أو في أشرطة الفيديو والسينما، فكلها لا تزال تستند إلى نص مكتوب سلفا. ذلك أن الكلمات، إذ تتشكل على نحو ما، تستدعي في الذهن صورا معينة، تتلقفها ثقافة الصورة لتصوغ منها عملا فنيا مخصوصا لا ينأى بها عن الأصل، بل يثبتها في الوعي وفي الإدراك. ويهمنا هنا أن نتناول العلاقة الجدلية بين الرواية بوصفها جامعة لأجناس القول، والسينما كمعادل موضوعي للخيال التعبيري بوسائل مغايرة. ارتبطت السينما بالأدب منذ ظهورها في أواخر القرن التاسع عشر، حيث أقبل المخرجون الأوائل على تحويل بعض النصوص المنشورة إلى أفلام، قبل أن يستكتبوا ثلة من الأقلام المعروفة لإعداد سيناريوهات. بدأ ذلك في فرنسا زمن الأفلام الصامتة، حينما استند الأخوان لوميير إلى نقل بعض الحكايات الشعبية مثل "عقلة الإصبع′′ و"وليم تل" إلى الشاشة، واقتباس جورج ملياس "قصة فاوست" و"رحلة إلى القمر" لجول فيرن، أو اختياره بعض شخصيات "البؤساء" لفكتور هوغو مثل "إزميرالدا" و"المتسكع′′ في أفلامه الأولى مطلع القرن العشرين. الرواية شريان السينما لما أنسوا في الناس إقبالا على هذا الفن الجديد، استنجد المنتجون، وأشهرهم ليون غومون وشارل باتيه، ببعض كتاب المسرح والأدباء المعروفين مثل إدموند روستان وجورج كرتلين وألفريد كابو وأناتول فرانس وأوكتاف ميرابو لإعداد سيناريوهات. وبرغم ظهور مؤلفين متخصصين في كتابة السيناريو، فإن السينما "لم تتحرر حتى يوم الناس هذا من الأدب" كما يؤكد جوليان غراك. ذلك أن الأدب، الروائي بخاصة، بما يحوي من عقد وشخوص وأحداث وحكايات ومشاهد ومواقع، هو بالنسبة إلى السينما مَنجم تجد فيه ما يُجدّد دورتها ويضمن تألقها، مثلما يجد المخرج في الكتب الأدبية وسيلة تشحذ ذهنه وتذكي خياله. وكم من أفلام -ومسلسلات تلفزيونية- لا تزال تنهل من معين الأدب، حتى أن نصف ما أنتِج في فرنسا مثلا مستوحى من الآثار الأدبية المتميزة (الكونت دو مونتكريستو، البؤساء، جرمينال، راستنياك ومدام بوفاري...). وقد ساهم في نجاحها قدرة الروائيين الكبار مثل إميل زولا وألكسندر دوما وبلزاك على منح شخصياتهم أبعادا درامية عميقة، وحضورا مكينا في الذاكرة الجمعية، ما جعل كتاب السيناريو لا يحتاجون إلى جهد يذكر في إعادة بنائها ورسم ملامحها. على هذا الدرب سار مخرجو الأفلام في البلدان التي يزدهر فيها الفن السابع، ففي أمريكا مثلا تمّ تحويل كامل الآثار الأدبية البارزة إلى السينما، من روايات ملفيلوشتينبك وفوكنر وسكوت فيتزجيرالد إلى فوكنر وهيمنغواي وترومان كابوتي وغيرهم كثير، بل إن أغلب الروايات الأكثر مبيعا مثل "العرّاب" لماريو بوزو و"أسنان البحر" لبيتر بنشليو و"خلوي" لستيفن كينغ تتحول إلى أفلام فور صدورها، حتى صار ذلك تقليدا من تقاليد هوليود. بين التوفيق والفشل أما في الوطن العربي، وفي مصر تحديدا حيث أضخم صناعة سينمائية، فقد استندت السينما إلى الاقتباس من الروايات العالمية في بداياتها، قبل أن تشتغل علىروايات كبار الكتاب المصريين من عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وعبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ إلى يوسف القعيد وعلاء الأسواني. ولم تكتف بذلك، بل استعانت هي أيضا ببعض الأعلام لكتابة السيناريوهات، وأشهرهم في هذا الباب نجيب محفوظ الذي كتب منذ أواسط الخمسينات عدة سناريوهات مثل: "لك يوم يا ظالم"، "شباب امرأة"، "ريا وسكينة"، "الوحش"، "جعلوني مجرما"، "درب المهابيل" و"الفتوة"... ولما كانت العلاقة بين الفنيْن جدلية كما أسلفنا، فإن فضل السينما على الأدب لا يستهان به هو أيضا، فالسينما بنت جسرا بين الجمهور والنشر الأدبي، من حيث إسهامها في ترويج الأعمال الأدبية، وإعادة الحياة لآثار قديمة، وتعريف القراء بكتب متروكة أو مغمورة (الهوبيتلتوكيان مثلا). كما أن بعض الكتاب، وهم من أهل الكلمة، شغفوا بالصورة، ورأوا فيها مثالا لتجديد الخلق الأدبي (السورياليون مثلا)، أو أنهم انخرطوا في الخلق السينمائي بوصفه جنسا جديدا ومجاورا للجنس الذي يشتغلون عليه، فأخرجوا أفلاما دون التخلي عن هويتهم ككتاب (جان كوكتو ومارسيل بانيول وهولبيك على سبيل المثال). أما من حيث الأدوات الفنية،فقد تأثرت الرواية بكثير من تقنيات السينما، كالارتداد والاستباق، والعناية بالتفاصيل، وتغيير زوايا النظر، وتعدد الأصوات... صفوة القول إن الرواية والسينما تلتقيان على الدوام من أجل إمتاع الجمهور في مسيرة لا تخلو من كبوات، فإذا استطاعت السينما أن تنفض الغبار عن آثار قديمة وتضفي عليها بريقا لم يحققه منشؤوها، كما في رواية "سيد الخواتم" لتوكيان ذات الطابع الفنتازي، أو تتدارك هنات الرواية كما في شريط "عمارة يعقوبيان"، فإنها لم توفّق في تحويل بعض الأعمال الأدبية الناجحة إلى أفلام سينمائية بالقيمة نفسها، كما حدث ل"العطر" عن رواية للألماني باتريك زوسكيند.