من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن مسار التحول الديمقراطي في الدول العربية سيسير بسلاسة دون عوائق أو ارتدادات خطرة في بعض الأحيان، لكن ما يبقي كثيرا من الأمل أن ذلك المسار بدأ فعلا ومنذ شرارة تونس الأولى. ومن التضليل اختزال الأوضاع التي شهدتها مناطق التحول بقطبين أساسيين، الحكم القديم والقوة السياسية الأبرز في البلاد، فذلك من فعل الدولة العميقة التي ترغب بتحويل الأنظار عن القضية الأساسية وخلط الأوراق. الدولة العميقة في كل مكان ومجرد محاولة تفكيكها سيحتاج لفترة ليست بالقصيرة وليس بثورة واحدة، وذلك ما يفسر امتداد الثورة الفرنسية لعشر سنوات حتى تحققت المطالب، واستبدلت الديمقراطية وحقوق الشعب والمواطنة بالملكية المطلقة، والامتيازات الإقطاعية للطبقة الارستقراطية، والنفوذ الديني الكاثوليك. ولعل أشكال التحول والأساليب تختلف بين دولة وأخرى فشهدنا هروبا في تونس، ومعركة عسكرية أفضت إلى قتل القذافي في ليبيا، واتفاقا بما يتعلق باليمن، وليس أخيرا مصر تنحيَ مبارك، في المقابل فرضت الدولة العميقة ذاتها بأشكال مختلفة أيضا في الدول تلك، فلا يعقل إعادة تشكيل شريحة مكونة من عمال ونخب سياسية ومسؤولين عاشت عقودا من الزمن شاهدة على فساد أو كبت للحريات، بل يمكن الجزم بأن هؤلاء دولة بذاتهم من موظفين ومهندسين الخ. على ذلك فإن مسار التحول في الاتجاه الصحيح رغم العوائق التي يرغب البعض بالإطلاق عليها مصطلح «الثورة المضادة»، وبقدر الإصرار على تحقيقه، ذلك كان واضحا لشريحة شعرت لوهلة من الزمن بالعدالة، وذاقت طعم الحرية ولا ترغب بالعودة إلى الوراء. لكن هنالك مخاطر جانبية من تلك الارتدادات ما كان لافتا ذلك الانقسام بين فئات المجتمع بألوانه كافة، من عمال بسطاء لنخب سياسية ومسؤولين، ما ولد حالة انشطار، تخفي وراءها تشنجات وعصبية يمكن أن تفضي إلى كراهية وحقد دفين ستنفجر ذات يوم. ودون تخصيص للحالة المصرية رغم تعقيداتها فإن المشهد العام للمجتمعات العربية بدأ يتشكل كبؤر استقطاب، كل منها تحمل مفاهيمها الخاصة وقناعاتها، مع وجود رؤوس بدأت تطل لغايات التضليل وبث الفتن لإحداث مزيد من تلك الانقسامات. يرى البعض أن الاختلاف في وجهات النظر أمر صحي؛ وإلا كيف يمكن ممارسة الديمقراطية وطرح الأفكار المتباينة في جو حتى لو شابه التوتر، في النهاية سيطرح كل وجهة نظره كانت اجتهادا أم قواعد ثابتة فإنها قابلة للخطأ والصواب. لم يكن بالسهل متابعة الشأن المصري بتفاصيله بعد انقلاب عسكري أطاح بالشرعية قبل أن يعزل الرئيس المنتخب محمد مرسي، بسبب تسارع الأحداث وتقلب الأمور بين حين وآخر وكأن لسان الحال يقول «لا استقرار بعد اليوم». في نهاية الأمر سيخلص أصحاب الحق والملتصقين بالدولة العميقة أن من مصلحتهم القضاء على الاستبداد والديكتاتورية وفساد الحكم حتى لو اختلفوا أكثر من عشر سنوات.