رائحة الموت في كل مكان، والدماء كالشلال يرشح في الميادين، ويزحف الجرحى على العضدين ليتوارَوا في ظل الرصف، أو شَجَرِه، والأصوات تنبعث من هنا وهناك ببلَهٍ مُرددة: "الجيش والشعب إيد وحدة"!!!! نعم كان هذا يوم كانت الجيوش للأوطان.. يوم كانت السّورَ والسياج.. يوم كان لها عقيدة وهدف.. يوم كانت تُدّرَّسُ تُراث الأمة ورسالتها، وتقتدي بقادتها وأبطالها، وتحمل مشروعها وتُعاهد وتُقسم على استكمال مشوارها لنشر قيمها وحضارتها وتكمل بنيانها.. يوم كان الجندي يتوسّد المصحف ويحتضن الراية والسيف!! ما بعد سايكس وبيكو لم تعد هنا جيوش.. كانت لنا مجاميع منتفضة، ثارت وواجهت منفردة.. انطلقت من ذاكرة التاريخ، وحملت حلم السيادة، وجاهدت في المساحة المتاحة من الوعي والإمكانات!! وماتت على الشرف: يوسف العظمة في ميسلون.. وعزالدين القسام في أحراج يَعْبَد.. عبدالقادر الحسيني في القسطل، وآخرون تناثروا هنا وهناك على رقعة الكرامة والدين!! مع حقبة الاستعمار الآثم، والاستقلال الغاشم مِن بعده!! لم يكن هنا جيوش.. لقد صارت شركات خاصة يديرها رؤوس كل مِزقةٍ من مِزَق الوطن الاثنتين والعشرين.. مقطورة طويلة مطموسة العيون، يقودها رأس بِرَسنٍ، تقودُه أيدي الذين عيّنوه مندوبا ساميا لهم منا، بعد أن ألقوا به على عيون الناس غشاوة أسموها استقلالا !! لم يعد للجيوش أخلاق الفرسان.. لم تعد تحكمها عقيدة الإسلام والإيمان.. لم تعد تحرّكها الأفهام والأذهان.. نبتت في رؤوسها أخلاق القرصان، وتمرّسوا بفنّ الباطش والسّجَّان.. يد تحمل الموت لتزرعه في أي صدر كان، وهي لصوت السيد الآمر بمنتهى الذل والإذعان: قد خادعتم من المستعمرين يدٌ *** سُمُّ العقارب في أكمامها استترا كم أهدروا من شعوبٍ آدميّتها *** كم أيقظوا فتنا!! كم أفسدوا فِطَرا!! تجربة العروبة مع جيوشها مَريرة، منذ 80 سنة وأكثر لم تُقدم لهم نصرا، ولم تُلحق بالأعداء هزيمة.. هذه هي الحقيقة المرّة علينا أن نعترف بها.. حتى حرب أكتوبر كانت فلتة دبّرتها يد الخُبث في السياسة، تمهيدا لوضع القيد النهائي برجل حركة الأمة ويدها؛ لتصاب بالكُساح، وهذا ما كان.. أربعون سنة من الإعاقة حتى صدئت المفاصل!!! كم قتلت هذه الجيوش من الإعداء على مدى سنوات الصراع؟!! وكم قتلت جيوش الخيبة هذه من شعوبها على امتداد الأمة في نفس المساحة الزَّمنية؟!! ألا يحق لنا أن نشعر بالخجل .. بالسُّخط.. بالانفجار؟!!! أين الاستعداد الحقيقي والتأهّب؟! أين الإعداد والتجهيز؟!! أين الخُطط والبرامج؟!! أين التربية والتوعية؟!! أين القيم الرسالية تجاه حقّ الأمة ومشروعها؟!! أين مؤشرّات النِّية على ذلك؟!! نريد مجرد مؤشّرات!! تحولت الجيوش إلى شركات مقاولة.. شركات قابضة من يد الشعوب إن خضعت، ومن أرواحها إن نطقت، أو عارضت أو أنكرت سياسة مولاها الُمعيّن!! بالله عليكم، جيوش يُدرّبها ويسلّحها ويدعمها ويرعاها عدوّها، وعليه تعتمد في كل شيء، هل يمكن أن تُكوِّن تهديدا له، أو تشكل خطرا عليه؟!! لم أنشئت إذن؟! ولم تجهّز؟! كم هتفت باسمها ولها شعوبها، كي تلبي صوتها، وتلبي حاجاتها، وتحقق أحلامها، وتردّ لها أمجادها، وتذكرها ماضيها، فكان الرد السريع ما رأيناه في سوريا وليبيا ومصر.. إراحة الأشقاء من عناء النداء بالصمت الأبدي!!! هذا هو الواقع الذي باتت جماهير الأمة تعلمه علم اليقين، وبه تتهامس في الخلوات، حتى الجنود المبصرون الذين لم يملكوا إرادة القرار بعد، باتوا يشعرون بذلك، والنصوص تقرع أسماعهم رغما عنهم: "يكونُ في هذه الأمَّةِ في آخرِ الزَّمانِ رجالٌ معهم سِياطٌ كأنَّها أذنابُ البقرِ يغدون في سخطِ اللهِ ويروحون في غضبِه". وقوله: "صِنفانِ من أَهْلِ النَّارِ لم أرَهُما: قومٌ معَهُم سياطٌ كأذنابِ البقَرِ يضربونَ بِها النَّاسَ" إشارةً إلى الحكَّامِ الظَّلَمةِ أعداءِ الشُّعوبِ.. الكل يعلم الآن أنها جيوش نظم وحُكام لا جوش أمة ورسالة ودين. الشعور العام عند الناس أنه لا فرق بينها، فمهمّتها واحدة، وأستاذها ذاته، وغذاء عقلها وروحها هو هو، فلا ينبغي التوهم أن الجيوش التي لم تُوضع على المحك بعد هي أحسن حلا؟!! أو يُتَوَقَّع منها غير الذي ظهر من شقيقاتها؟؟ إن التفاؤلَ مجردَ التفاؤلِ في هذا الباب يُعدّ مقامرة.. لك الله يا أمتي، فأنت بلا جيوش!!: ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ( 109 ) لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ( 110 ) ) التوبة.