اليوم لم تعد قضية مهجري الجعاشن تهمهم وحدهم، فقد أصبحت قضية كل اليمنيين بمختلف مستوياتهم وتوجهاتهم، وقد كشفت هجرتهم القسرية واعتصاماتهم المتواصلة عن حجم المتناقضات التي نعيشها كيمنيين ومدى عجزنا في مواجهة ظاهرة اجتماعية لم نستطع أن نجد لها حلا سواء من أحزابنا السياسية او منظماتنا المدنية أو مؤسساتنا التشريعية والتنفيذية. تبدو القضية وكأنها مجرد نزهة للجعاشنة في صنعاء أرادوا من خلالها ان يرتاحوا ولو قليلا من هم الدنيا وعناء العيش وينسوا فيها الحجنة والشريم والثور والمحراث وهذا تفسير للبعض، أما البعض الآخر فيراهم مجرد مواطنين ضعاف جبناء رضوا لأنفسهم بالذل والفضيحة حين تركوا ديارهم وخرجوا من أرضهم وصاحوا بملء أفواههم نحن مظلومون، ولو يموتوا فردا وتصادر ممتلكاتهم حتى آخر (مجحي) في بيوتهم.
وهكذا تتباين الآراء والأوصاف بحق هؤلاء المهجرين وهي نتيجة طبيعية لبقاء المشكلة دون حلول حتى مل الكثيرون منها وفي مقدمتهم الصحافة التي باتت لا تكترث لهذه القضية لاستمرارها وبقاءها دون حلول، وعلى نفس المنوال مل المسئولون في الدولة من هذه القضية ووحدهم أصحاب الحق لم يملوا أنفسهم ولم يتخلوا عن حقهم في الحياة الكريمة والبحث عن عدالة تنصفهم ولو بعد حين.
وخلال هجرتهم إلى صنعاء لم تشفع لهؤلاء المواطنين الأماكن التي اعتصموا فيها سواء أمام رئاسة الوزراء او في ميدان السبعين او أمام مجلس النواب ورئاسة الجمهورية وجامعة صنعاء كما لم تنفعهم زيارات الشخصيات الرسمية والحزبية والاجتماعية لمخيماتهم بدءً من العميد يحي محمد عبدالله صالح رئيس الأركان لقوات الأمن المركزي وابن اخ الرئيس او المهندس احمد محمد الآنسي رئيس الهيئة العليا لمكافحة الفساد وسلطان العتواني وعبدالوهاب الآنسي او حتى تلك التي تتمتع ولو نظريا بسلطة القرار كالدكتور علي مجور رئيس الوزراء ويحي الراعي رئيس مجلس النواب وغيرهم، فكل هؤلاء عرفوا ووصل إلى مسامعهم مأساة مواطني الجعاشن لكنهم جميعاً دخلوا من باب وخرجوا من الآخر وظل المهجرون في مخيماتهم دون إنصاف لكنهم لم يتركوا وسيلة إلا وسلكوها علها تكون جديرة بالالتفات إلى قضيتهم فقد جربوا الاعتصامات ونظموا معارض الصور وأضربوا عن الطعام وأقاموا الجنازات الرمزية وقدموا أوراق قضيتهم إلى مختلف الجهات الرسمية لكن كل تلك الوسائل لم تحرك شعرة في جسد دولتنا التي تأنف وتترفع عن حل قضيتهم.
أساليب جديدة لجأ الناشطون من المهجرين والمؤيدين لقضيتهم الى وسائل حديثة للترويج للقضية وحشد الأنصار حولها فأنشأوا مدونة بإسم الجعاشن وفتحوا حساباً في موقع اليوتيوب الشهير على الإنترنت، كما أنشأوا صفحة باسم "المنسيون" في موقع الفيس بوك وانشأ موقع مأرب برس نافذة خبرية بإسم (تغربة الجعاشن) تهتم بأخبارهم ومستجدات قضيتهم، وسعى حقوقيون لإنشاء ائتلاف مدني لمناصرة قضية الجعاشن وتطوع ناشطون فأضربوا عن الطعام مساندة للجعاشنة المهجرين، حتى فهد القرني أعلن عن ألبوم جديد باسم (عصيدك) قال بأنه سيهديه لثورة الجعاشن، إضافة الى عشرات اللقاءات الصحفية في الصحف والفضائيات وكل ما سبق لم يشفع ولم يحل قضية مهجري الجعاشن وزاد الأمر تعقيدا أن الشيخ المتهم ظل ساكتاً طوال هذه الفترة ولم يحرك ساكناً تجاه ما يحدث ولا احد يدري هل سكوته ينبع من ثقة في نفسه بأنه الأقوى مهما فعل هؤلاء ام إن سكوته دليل رضا بما يحدث؟!
اليوم قضية الجعاشن لم تكشف ان الجعاشنة وحدهم الجبناء في مواجهة ظلم نغص حياتهم ولم يستطيعوا مقاومته، فهم سلكوا السلوك الصحيح شرعاً وقانوناً لكن هناك اطراف اخرى تبدوا في موقع الجبن والعجز والفشل كشفتها مأسآة الجعاشن على حقيقتها وأظهرتها في شكلها وحجمها الحقيقي.
جبناء آخرون كشف مهجرو الجعاشن مدى العجز الذي يغرق فيه مجلس النواب رئاسة واعضاء وافتضحوا جميعا حين بدوا عاجزين عن انصاف 180 مواطناً فما بالك بشعب بأكمله، فأكثر من ثلاث لجان برلمانية والعديد من التقارير الميدانية المرفوعة من المجلس وأكثر من سؤال موجه من الأعضاء والعديد من اللقاءات بالمهجرين ولم يستطع هذا المجلس تقديم شيء يذكر لهؤلاء المهجرين يتناسب مع طبيعة الدور المفترض لمجلس تشريعي رقابي منوط به حماية المواطنين والتعبير عن همومهم ومشاكلهم، فقد فشل المجلس في احضار الحكومة الى تحت قبته ليسألها عن وضع المهجرين حتى وعود رئيس المجلس بحل قضيتهم وبحثها مع رئيس الحكومة ذهبت ادراج الرياح.
وبنفس المستوى أبانت مأساة المهجرين مدى العجز الذي تعيشه القوى السياسية الحاكمة والمعارضة في مناصرة هؤلاء فبدت وكأن الأمر لايعنيها بينما تزخر برامجها الحزبية بالشعارات الرنانة التي تدعو للنضال السلمي وتبني قضايا المواطنين والانحياز إليهم ولا يكفي المشاركة في اعتصام لبضع دقائق او اصدار بيان ادانة من الغرف المغلقة، فالشارع سهل ممتنع ان تنصره نصرك وان تخذله خذلك.
وعلى نفس المنوال تكشف مأساة مهجري الجعاشن حجم الضعف الذي يعتري النخب المثقفة ومنظمات المجتمع المدني والصحافة في تبني دور فعال لاينتهي ضغطه وفعالياته حتى ينال ابناء الجعاشن حقوقهم.
والفضيحة الأكبر التي أظهرتها مأساة الجعاشنة المنكوبين من نصيب الدولة والنظام الحاكم في اليمن والذي ظهر مرتعشاً كرجل مريض لايقوى حتى على حمل نفسه فيتصرف وكأنه فاقد لإرادته ومسلوب من أدواته ويبدو كما لو أنه خارج التغطية، فقد أثبتت قضية مهجري الجعاشن ان الإنحياز للمواطنين يأتي في اخر اهتمامات النظام وأن شيخ واحد بالنسبة له أفضل من قرية مواطنين بأكملها.
صحيح ان توجيهات صدرت بحل القضية لكنها كمثيلاتها من التوجيهات تظل حبرا على ورق وفشل النظام في فرض هيبته وإثبات مسؤوليته في رعاية هؤلاء المواطنين وانصافهم ولم تستطع مؤسسات الدولة القضائية والأمنية والسلطة المحلية في قول كلمة لا بوجه شيخ في الجعاشن، ويعلق هنا احد المتابعين بالقول: اذا كان هذا السكوت كله تجاه شاعر الرئيس فما بالك باحد خدام الرئيس او موظفيه؟.
خوف غير مبرر فلماذا إذاً تصم الدولة آذانها في الاستماع لهؤلاء المهجرين؟ هل تتخوف الدولة من ذهاب الدائرة التي يحتفظ بها الشيخ بإسم المؤتمر الى كتلة المعارضة فبإمكان واحد من هؤلاء المواطنين الترشح باسم المؤتمر ورفع صورة الحصان في كل بيت وإلزام الصغار بحفظ الميثاق الوطني والكبار بالرقص وترديد الزوامل.
ام تتخوف الدولة من حنق الشيخ وربما أعلن انضمامه للشيخ الفضلي ولن يرعي العيش والملح الحكومي وسيتحول الى معارض كبير للدولة يهجوها شعراً مثلما مدحها.
من وجهة نظر شخصية لا احد يشعر بمدى الظلم والإجحاف الذي يعاني منه ابناء الجعاشن إلا من ينتمي لمناطق تشابه مناطقهم من حيث وجود المشيخ وتسيدهم وتفوق نفوذهم على الدولة، وفي البلد يوجد نوعين من المشيخ النوع الأول المشائخ الذين يتواجدون على امتداد النطاق الكبير لمحافظات اب وتعز والحديدة وهم المشائخ الذين يجدون سعادتهم في حلق رؤوس المواطنين وتهجيرهم وتدبير المكائد لهم وارغامهم على ترشيحهم في كل المواسم الإنتخابية بينما يتخلون عنهم اذا لحق بأحدهم مشكلة او قضية، اما النوع الثاني فيجدون سعادتهم في مساعدة مواطنيهم ونصرتهم ويشعرون انهم مجرد اشخاص أنيط بهم خدمة مواطنيهم والوقوف بجانبهم في السراء والضراء واسألوا انفسكم لماذا يحظى الشيخ حمود سعيد المخلافي بالإحترام والتقدير والتفاف الناس حوله وقارنوا بينه وبين شعيب الفاشق او شيخ الجعاشن مثلاً.
صناعة رسمية قضية مهجري الجعاشن والمصير الذي صاروا إليه لا يتحملها شيخ وحده بل تتحملها الدولة فهي مأساة صنعتها الدولة بكافة سلطاتها وجعلتها صناعة رسمية بامتياز.
ففي السابق وحتى اواخر السبعينات ومنتصف الثمانينات كان هناك مشيخ في كل ارجاء اليمن.. لكن كانت هناك دولة ولم يكن المشائخ يحظون بالإهتمام الكبير من الدولة ويتمتعون بالنفوذ الطاغي كما هو سائد الآن.. فإذا كانت لديك خصومة مع احد المشائخ تستطيع ان تقف معه في خط واحد امام محاكم ونيابات الدولة وأجهزتها الأمنية وتأخذ حقك او يأخذ الشيخ حقه فلا مجال للوساطة والتمييز فالكل سواسية امام القانون.
اما الآن فقد اختلف الوضع وساد منطق "الشيخ شيخ والرعوي رعوي" فمع بدء فترة التعدد السياسي بعد الوحدة المباركة وظهور الاحزاب السياسية وما رافقها من تجاذب واستقطاب حزبي للنخب والمشائخ والشخصيات بدأ الأمر في الاختلاف واصبح للمشيخ دور جديد من الإزدهار والحضور داخل المجتمع خصوصاً من حزب المؤتمر الشعبي العام الذي أرهب وأغرى الكثير من المشائخ في الإنضمام إليه وأسند إليهم مهام تجميع المواطنين وتنظيمهم حزبياً داخل المؤتمر واعطاهم النفوذ والقوة وجعل أجهزة الدولة ومرافقها تحت تصرفهم وركن إليهم في تحقيق الفوز في الانتخابات لصالحه كحزب حاكم تاركا لكل شيخ حرية اتخاذ الأسلوب الذي يراه صالحاً في اخضاع المواطنين وتطويعهم لصالح الحزب ومن يخالفهم في توجههم فهو إصلاحي إرهابي او ناصري طامع او اشتراكي حاقد.
وتوالت التجارب الانتخابية واثبتت ان الاعتماد على شيخ واحد في المنطقة مضمون الولاء افضل بكثير من التشتت ومراضاة كل الناس وهو ما استغله بعض المشائخ واقنعوا به السلطة الأمر الذي عزز مكانة الشيخ امام الدولة وجعل المشائخ يتحولون تدريجياً ليكونوا هم الدولة نفسها وتركيبة مجالس النواب والشورى والمحلية تؤكد هذا الكلام، فتجد في بعض المديريات ان الشيخ هو عضو مجلس الشورى وابنه عضو مجلس النواب والإبن الآخر رئيس المجلس المحلي والثالث مسؤول التعليم وابن العم مسؤول الكهرباء وفي خضم هذا كله اين يذهب المواطن العادي اذا شعر بالظلم من الشيخ؟ فأينما يمم وجهه فثمة وجه الشيخ فهو القادر على تغيير مدير المديرية او مدير الأمن او رئيس المحكمة اذا هم تعاطفوا مع المواطن المغلوب والذي في نهاية المطاف يصل الى قناعة تامة إما بالهجرة من قريته او العودة الى تحت أقدام الشيخ وتقديم الهجر والإعتذار والإلتزام بعدم الخروج عن الطاعة مجددا وعدم تكرارها.
إذاً لماذا نتهم المواطنين المهجرين من الجعاشن بالضعف والجبن، وفي المقابل علينا ايضاً ان نعذر المسؤولين المرتبطين بقضيتهم فقرار العدل والإنصاف والإنتصار للحق لم يعد بيدهم ولن يتخذ إلا بإرادة عليا وهذا مستحيل ان يتحقق، وقبل هذا وذاك علينا ان ندرك المفهوم الجديد الذي تقوم عليه الدولة حالياً والقائم على منح النفوذ الواسع للمشائخ ولو كان على حساب الآلاف من المواطنين ومن غير المعقول ان تقوم الدولة بردع وزجر شيخ والإنتصار لأولئك المهجرين لأن مثل هذا الإجراء إن تم سيفتح الباب امام مواطنين في مناطق اخرى للانتفاض على مشائخهم وسيزعزع ثقة المشيخ بالدولة والتي ستكون هي الخاسر الاول والاخير لأنها ستفقد تواجدها ونفوذها في غالبية مناطق اليمن وهو امر تضع له الدولة ألف حساب.
نتائج كارثية بدأت نكبة الجعاشن متزامنة مع احتجاجات الجنوب ولاحقة لفتنة التمرد الحوثي في صعدة، وخاضت الدولة حروباً ستة مع الحوثيين ودخلت في صراع لم ينته مع الحراك الجنوبي واتسمت مواجهاتها مع الجانبين (الحراك والحوثيين) بطابع المواجهات المسلحة، ومع الفارق الكبير للنشاط السلمي الذي انتهجه الجعاشنة في المطالبة بإنصافهم إلا ان التجاوب الرسمي معهم لم يكن بالمستوى الذي يحل قضيتهم وينهي مأساتهم، فلم يشفع لهم نضالهم السلمي لدى الدولة حتى تلتفت إليهم وبات واضحاً ان أساليب النضال السلمي لاترد حقاً ولاتجدي مع الدولة وان العصيان المسلح واللجوء للعنف هو الطريق الوحيد لنيل الحقوق وارغام الدولة على الاعتراف بالحق وهذا الأمر من علامات الدول الفاشلة التي يتسم اداؤها بالضعف وهو مؤشر خطير سيكرس الكراهية للدولة ويفتح باب الفوضى بمصراعيه امام المواطنين وسيصيب النضال السلمي في العمق وسيؤثر عليه كأسلوب مدني حضاري وسيتوارى دوره لصالح ثقافة العنف فهل يدرك النظام ذلك.