يناقش مجلس النواب، ابتداءً من أمس، مشروع قانون "صندوق تنمية المهارات"، وسط اعتراضات قوية تهب من داخل المجلس وخارجه. لا ينطوي هذا المشروع على الكثير من الغموض، بقدر الشكوك والضجة وعشرات الأسئلة التي لا تكف تطارده. إنه قانون جديد يحل محل قانون "إنشاء صندوق التدريب المهني والتقني وتطوير المهارات" رقم (15) لسنة 1995م. وفيما كانت القاعة، قد شرعت في مناقشة المشروع الجديد "تنمية المهارات"، كان عدد يفوق ال100 من موظفي صندوق التدريب المهني معتصمين قبالة البوابة ويناشدون البرلمان: لا تقطعوا أرزاقنا. إنهم الضحايا الحقيقيون لهذا المشروع البديل. يزيح مضمون المشروع الجديد الصفة الرسمية عن صندوق التدريب المهني الموجود ويعطيه الطابع الخاص. كما وأيضاً يسلبه حتى "الاسم" كحق أصيل. ومنذ وصوله إلى البرلمان في 18 مارس 2008 حتى الآن، قوبل هذا "المشروع" باعتراضات شديدة داخل القاعة وداخل اللجان التي أحيل إليها. قدم إلى المجلس في هذا التاريخ، ومن يومها اختفى عن الناظرين. لكن على طول هذه الفترة كانت أشياء تدور في الخفاء، ويبدو أن أجزاءً منها بدأت تتكشف أمس. اللجنة المختصة (القوى العاملة) رفضته من أساسه، وفي كل مرة كانت اللجنة تقترب من الحسم، تأتي الحكومة ممثلة بوزارة التعليم الفني والمهني وتسحبه، بل وحتى يسحب، وقد استعرضته داخل القاعة. هكذا كان ينزل إلى القاعة ويعود مرة أخرى إلى الحكومة ثم إلى اللجنة. وواضح أن لجنة القوى العاملة ترفض المشروع، لكن -وحسب ما قيل- فإن ضغوطاً عليا مورست على النائب عزام صلاح رئيس اللجنة وأجبرته بقبول المشروع وإنزال تقرير بذلك. وداخل عوالم اللجان، كانت اعتراضات عديدة تحول دون هذا المشروع بدءاً من نائب رئيس المجلس أكرم عطية الذي طلب فتوى من اللجنة الدستورية وأحال المشروع إليها. والأخيرة أنزلت تقريرها أمس ورفضته رفضاً قاطعاً. تقول اللجنة الدستورية إن المشروع الجديد يخالف الدستور ويتعارض مع قوانين كثيرة ومنها "قانون الخصخصة". وأيضاً: "لم يتضمن المشروع معالجات واضحة لاستيعاب الكادر الوظيفي للصندوق الحالي". قالت اللجنة الدستورية رأيها فيه على نحو يتسم بالعمومية أحياناً وبالصراحة والحرص على المال العام أحياناً أخرى. يتألف مشروع القانون البديل من (41) مادة "موزعة على 4 فصول متدرجة تحت 4 أبواب رئيسية". وفي مواده: (4، 28، 29، 37، 38) ما يكفي لتفسير أهدافه الأساسية. تنص المادة (4) على أن يمارس الصندوق نشاطه باستقلالية تامة ويؤدي مهامه واختصاصاته على النحو المبين في هذا القانون واللائحة "ويعامل معاملة منشآت القطاع الخاص". وفيما تعطيه المادة 28 ميزانية سنوية مستقلة على غرار الميزانيات التجارية (...) المعمول بها في القطاع الخاص، وأن لا يعتبر في الوحدات الإدارية الاقتصادية في القطاع العام ولا المختلط، تخضعه المادة نفسها للفحص والمراجعة من قبل الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة! وفيما يكتسب "الصندوق" شخصيته وماهيته من خليط غير متجانس من القطاعات وغير مفهوم، فإنه فوق ذلك -كما تنص المادة (26)- من إيرادات حكومية لا يجوز أن تخدم القطاع الخاص وهي خاصة بالقطاع العام. من هذه الإيرادات مثلاً: نسبة 1% من الإجمالي الشهري للرواتب "والأجور الخاصة بالعاملين لدى أصحاب العمل الخاضعة للضريبة لديهم ويتحملها المساهم". وأيضاً: "ريال واحد عن كل كيس اسمنت مستورد أو محلي، وريالين عن كل علبة سجائر محلية أو مستوردة، وما تقدمه الدولة من دعم سنوي للصندوق، ومن عائدات الودائع المصرية". إضافة إلى المساعدات والتبرعات والهبات المقدمة للصندوق من الأشخاص المحليين والدوليين "وبما لا يتعارض مع القوانين النافذة". المادة الأكثر كارثية في هذا المشروع هي (37). لا تضمن هذه المادة للموظفين في "صندوق التدريب المهني" (الحالي) الذين يربون على ال 111 وظائفهم المكتسبة، وإنما تهدر عنهم هذا الحق وتركت للصندوق الجديد "تنمية المهارات" توظيف من يشاؤون من عمال "ويخضعون لأحكام قانون العمل النافذ والمطبق على القطاع الخاص". وهو ما يعني انتهاكاً صارخاً لحقوق مكتسبة في الوظيفة العامة. ومع تسريح هذا الطابور الطويل من الموظفين إلى عوالم المجهول وتجريدهم من حق دستوري وقانوني أصيل، فإن المشروع تعامل مع رئيس مجلس إدارة الصندوق "برتوكولياً معاملة نائب وزير"! هذا الامتياز الممنوح لرئيس مجلس الإدارة، منح أيضاً وزير التعليم الفني والمهني امتيازات هو الآخر، وأسند إليه رئاسة "المجلس الأعلى للصندوق". مما يعني أن الوزير والمسؤولين الكبار في الوزارة دخلوا ورتبوا أوضاعهم في هذا الصندوق مع القطاع الخاص وتوزعوا المهام في حين 111 موظفاً لم يرتب أحد أوضاعهم! في فصله الثاني، يزعم المشروع أن هذا الصندوق بشكله الجديد والملون يهدف إلى تحقيق عدد من الأهداف: تنمية قدرات فنية ومهنية وإنتاجية، وتحقيق مشاركة فاعلة وقدرة تنافسية مدهشة للمنتجات المحلية.. الخ. وفي نفس الفصل ترتب المادة (7) اختصاصات الصندوق التي توحي من مجرد القراءة أنها لا تنسجم مع الأهداف. من هذه الاختصاصات الممنوحة للصندوق مثلاً: نشر الوعي بأهمية تنمية المهارات في تحسين مستوى إنتاجية ودخل صاحب العمل "وتطوير الثقافة التدريبية في الجمهورية"، وأيضاً تشجيع أصحاب العمل على المساهمة في إعداد البرامج التدريبية، ودعم التدريب المهني والتطبيقي للعمال اليمنيين في مواقع العمل.. الخ. عموماً هذا المشروع أثار ضجة، ويبدو أن رئيس مجلس النواب ورئيس كتلة المؤتمر يسوقانه إلى عوالم غير معلومة. أما عبده بشر فقد قالها ليحيى الراعي أمس بصراحة: "في حدود علمي أنه هيئة الرئاسة لم تستلم من وراء هذا الموضوع أي مبلغ". وأضاف بشر معترضاً على المشروع وملمحاً إلى أطراف داخل المجلس لم يسمها بالدخول في صفقة: "نحن نعلم أن ضغوطاً مورست على أعضاء لجنة الشؤون الاجتماعية والقوى العاملة للقبول بهذا المشروع". وحذر عبده بشر، وهو نائب مؤتمري صاحب رأي مستقل ومسموع، من نتائج هذا المشروع الكارثية "على الخزينة العامة للدولة" وآثاره المأساوية على الموظفين. كان نواب كثيرون يريدون أن يتحدثوا حول الموضوع ولكنهم "مُنعوا" وبعضهم "قُمع". لكن عبده بشر قالها للصحافة بالفم المفتوح: "أنا رفضت للأسباب التالية: 1- هذا المشروع أعطى ما يقارب 2 مليار ريال من الخزينة العامة هبة للقطاع الخاص. وألزم مكاتب الضرائب وغيرها من الموارد أن تصب في جيب القطاع الخاص. 2- صادر حق البرلمان في الرقابة على الصندوق وكذلك أجهزة الرقابة الأخرى. 3- 75 بالمائة تمويل حكومي لصندوق يتبع القطاع الخاص. 4- أرصدته كلها في بنوك خاصة وليست مودعة في أذونات الخزانة". والأدهى من ذلك، كما يؤكد عبده بشر: "إنه لم يراعي بني آدم، حيث صادر وظائف الناس وألقى بهم إلى الشارع". لم يكن بشر وحده من صدح برأيه في وجه القاعة. هناك آخرون لكنهم لم يتمكنوا بسبب الجو الضاغط والصاخب الذي سيطر على القاعة. كان سلطان العتواني يطلب الكلمة ومثله الهجري وفيصل الحبيشي وزيد الشامي ولكن حيل بينهم. وفي بيان صادر عنها، وصفت اللجنة النقابية لموظفي "صندوق التدريب المهني" هذا المشروع بالمخالف للدستور والقوانين المنظمة. واتهم البيان المذكرة التفسيرية التي سبقت المشروع ب"المضللة" لنواب "الشعب لعدم تطابقها مع محتوى المشروع"، وأن هذا المشروع صادر حقوقهم المكتسبة الثابتة. مطالبين بتحديد الوزير المسؤول بشكل واضح، أمام مجلس النواب "وعدم إهدار حقوقنا المكتسبة بموجب قانون الخدمة المدنية باعتبارنا موظفي دولة بحسب الفتوى الصادرة بهذا الشأن".