استعادت طالبة الحاسوب حنان السماوي أمنها الشخصي بعد 24 ساعة من اعتقالها في قضية الطرود الملغومة التي استنفرت الأمن العالمي وأقضّت هجعة العواصم الكبرى. قد تكون قصة حنان ببساطتها المتناهية هي الجزء الذي سيعلق في ذاكرة غالبية اليمنيين من أصل حادثة الطرود المعقدة التي تزيد صورة التهديدات المدبرة في اليمن قتامة.
انضمت ألمانيا يوم الاثنين إلى بريطانيا وفرنسا في حظر حركة الشحن الجوي القادمة من اليمن وأضافت بريطانيا إلى ذلك تعليق الرحلات المباشرة القادمة من اليمن.
كان هذا الإجراء بالإضافة إلى تشديد إجراءات الأمن على عمليات اشحن الجوي أول الردود الدولية على إرسال طردين ملغومين عبر الشحن الجوي إلى الولاياتالمتحدة الأميركية قبل كشفهما في دبي وبريطانيا.
لم ينفجر الطردان الناسفان لكنهما فجرا شحنات هائلة من الرعب والقلق في عواصم الدول الكبرى إلى جانب علامات استفهام ترقى إلى الحيرة بشأن قدرات تنظيم القاعدة في جزيرة العرب على صناعة الرعب وإطالة أمد المعركة مع الغرب.
من المؤكد أن نهار الجمعة الماضي مر عصيباً ومربكاً في القصر الجمهوري بصنعاء الذي سمع بخبر الطردين من حديث مقتضب للرئيس الأميركي باراك أوباما وهو يعلن أن "تهديداً فعلياً" آخر كان قادماً من اليمن قد تم إحباطه.
كان كل شيء قد جرى في خفية عن صنعاء بدءاً من إرسال الطردين عبر مكتبي شحن في العاصمة حتى الإعلان عن إحباط الهجوم وبينهما تبليغ المملكة العربية السعودية لحلفائها في الغرب بالتهديد والأخير هو ما سيكون الأكثر إيلاماً لحليفها في صنعاء.
لم يفعل تنظيم القاعدة أكثر من أن اقتنى طابعتين صغيرتين من نوع إتش بي الأميركية الرائجة وحشا علبتي الحبر فيهما بمادة البيتن شديدة الانفجار. وبصاعق مفجر أوصل كل منهما بشريحة هاتف محمول.. لكن تبقى الشق الأصعب في العملية؛ الإرسال إلى بلاد العدو.
مرة أخرى، لم يعدم التنظيم الوسيلة؛ سيرسل الطابعتين الملغومتين في طردين عبر مكتبين لشركتي فيدكس الأميركية ويو بي إس البريطانية في العاصمة صنعاء، أما وجهة الإرسال فمركزان يهوديان في ولاية شيكاجو الأميركية.
إلى جانب البساطة، لا تخلو الفكرة من طرافة أيضاً، تلك الطرافة التي تتخلق في صنعاء وتزداد إثارة كلما اجتازت الطابعة المسافرة أميالاً في السماء قادمة من اليمن إلى الولاياتالمتحدة لتزويد مركز يهودي بمنتج قد يكون في عداد الخردة لديه منذ زمن.
علميات القتل الكبيرة عادة ما يصاحبها نوع من العفوية والطرافة لتخفيف وقع مشاهد القتل.
لكن مع ذلك، لم تكن أنباء الجمعة سارة على الإطلاق لتنظيم القاعدة والرئيس علي عبد الله صالح فالأول نَقلت إليه الأنباء فشل عملية كان بشر بها قائده العسكري قاسم الريمي قبل أربعة أسابيع قائلاً إن أنصار تنظيمه سيسمعون بعمليات تهز العالم، والثاني أفهمته الأنباء أنه معزول في صنعاء وحليف غير موثوق فيه عند أقرب حلفائه في المملكة العربية السعودية الذين فضلوا إبلاغ واشنطن بالمؤامرة وكتمها عنه في أقوى دليل قد يستشهد به على فتور العلاقات اليمنية السعودية.
أفادت الأخبار أن السعودية أبلغت واشنطن بالرقمين المتسلسلين للطردين الملغومين في دلالة على أن الأمر لم يخالطه أدنى قدر من المصادفة أو حسن الحظ بل أدارته الاستخبارات السعودية بدقة وحنكة، معتمدة وفق أرجح التقديرات على اختراق تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بواسطة عناصر فيه يعملون لحسابها.
واستثمرت السعودية الحادثة استثماراً ذكياً غير أنه اقترن بانتهازية وجفاء بحق اليمن. لكن ذلك ربما يكون مبرراً بوصولها إلى قناعة بعدم جدوى الإخلاص في التعامل مع نظام الرئيس علي عبد الله صالح الذي لا يتقيد في الغالب بقواعد منتظمة في تحالفات من قبيل تحالفه مع النظام في المملكة.
ودون ذلك، استغلت السعودية حادثة الطردين لإضفاء سمعة جيدة على أجهزة استخباراتها وإشعار الدول الغربية أنها الحليف الوحيد في المنطقة الذي يمكنه ضمان أمن المصالح الغربية فيها.
وقد بدا تأثير التصرف السعودي الجاف والضراوة الغربية في تناول حادثة الطردين على قسمات الرئيس علي عبد الله صالح الذي عقد مؤتمراً صحفياً في اليوم الثاني وظهر فيه عابساً ومهموماً بينما كان يسرد تفاصيل كيف أن واشنطن ولندن أبلغتاه بالحادثة.
وتضمن حديث الرئيس في معظم أجزائه تذمراً من المباغتة الأميركية والمبالغة في تهويل العملية التي دبرت في الأراضي اليمنية إلى حد أنه وصف ما يجري ب"ضجة إعلامية، جعلت الأمر ملتبساً".
وحين وصل إلى الحديث عن أن المسؤولين في واشنطن أخبروه أن المملكة العربية السعودية هي من زودتهم بمعلومات عن الطردين، استطرد صالح بحركة سريعة من يده هي من بين حركات كثيرة عكست قلقه قائلاً "قلنا على بركة الله، نحن في الجمهورية اليمنية نؤكد أن الإرادة السياسية متوفرة مع الأسرة الدولية والأشقاء ودول الجوار في مجال مكافحة الإرهاب".
واضح أن حديث الرئيس عن توافر الإرادة السياسية لدى نظامه حيال محاربة الإرهاب قد أعقب قوله إن السعودية مصدر المعلومات عن الطردين، وفي ذلك محاولة منه لاستعادة ثقة النظام السعودي فيه، كما أنها المرة الأولى التي يرد مصطلح الإرادة السياسية على لسان صالح وكأنه يدفع اتهاماً صريحاً له بانعدام الإرادة السياسية لديه إزاء الحرب على الإرهاب.
ولكي يحشد الرئيس المستغنى عن خدماته عناصر دعم يخشى زوالها، أقر أن تنظيم القاعدة قتل خلال أربعة أسابيع أكثر من 70 جندياً، وهي المرة الأولى التي يصرح بها المسؤول الأعلى في البلاد على هذا النحو المباشر بالرغم من التحفظ الذي تتبعه السلطات العسكرية بشأن أعداد القتلى العسكريين الذين يسقطون خلال المعارك ضد مسلحي القاعدة.
لكن التخلي عن التحفظ ذاك دليل إضافي على صعوبة الموقف الذي وجد الرئيس نفسه محشوراً فيه فجأة.
وتتضافر محاولة تفجير الطرود المفخخة مع ضراوة في قتال القوات الحكومية والاستخبارات الوطنية لتثبت إلى أي مدى يتمتع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بالقوة والاستقرار خلال الآونة الأخيرة.
اكتسب التنظيم الذي يتخذ من المناطق اليمنية الوعرة معقلاً رئيساً له سمعة دولية بوصفه أحد أخطر أجنحة القاعدة تهديداً للأمن الغربي والأميركي تحديداً.
ومصدر تلك السمعة عدة أحداث تميز بها التنظيم في جزيرة العرب عن نظرائه في الأقاليم الأخرى، كان أبرزها في أواخر 2009 خلال الاحتفال بأعياد الميلاد حين حاول شاب نيجري يدعى عمر فاروق عبد المطلب تفجير طائرة ركاب مدنية فوق مدينة ديترويت الأميركية واتضح أن العملية كانت من تدبير قاعدة الجزيرة العربية وجرى التجهيز لها في الأراضي اليمنية.
وبين قادة التنظيم في جزيرة العرب اليمني أنور العولقي حامل الجنسية الأميركية والمنظر ذو القدرات الكبيرة في اجتذاب مزيد من الأفراد المستعدين لتنفيذ عمليات هجومية داخل البلدان الغربية.
وإضافة إلى أنه المنظر الديني الروحي الوحيد الذي يجيد الإنجليزية بين قادة التنظيم، لكن خطورة أنور العولقي المتحصن في مناطق القبائل بمحافظة شبوة ظهرت حين اتضح أنه كان الملهم لفاروق عبدالمطلب في محاولة تفجير الطائرة المدنية وللضابط الأميركي نضال حسن الذي فتح النار على زملاء له في قاعدة عسكرية أميركية فقتل 13.
تركز الاهتمام الأميركي منذ نهاية 2009 بالقاعدة التي يتحرك أعضاؤها في الأراضي اليمنية. وظهر ذلك الاهتمام في الهجمات المتقنة التي نفذتها الطائرات بدون طيار في صحارى مارب وتطورت في منطقة المعجلة بأبين إلى ضربة صاروخية فتاكة قتلت عشرات المدنيين.
وتفاعلت بموازاة ذلك تقارير متعددة في الصحافة الغربية عن قوات أميركية في اليمن وأشكال من العمليات المتوقع تنفيذها ضد مقاتلي القاعدة.
وظل التصميم الأميركي على إلحاق الهزيمة بالقاعدة في اليمن هاجساً دائم الحضور في كل المناسبات.. بيد أن وقتها المناسب قد حان وبأي وسيلة طبقاً للهجة الخطاب الأميركي.
لقد تعهد باراك أوباما في حديثه الذي أذاع خبر الطردين إلى العالم بأن إدارته ستعمل على تدمير القاعدة في اليمن. وضمن مقتضيات هذا التعهد لابد أن تكون القوة العسكرية هي باعث مفعول التدمير كما يفهم من سياق الخطاب.
كان التدخل العسكري ضد القاعدة اليمنية رغبة أميركية مقيدة بالإخفاقات في أفغانستان وفاعلية الحلول المؤقتة، وقد جاءت الطرود لتفك ذلك القيد.