تشتغل الرواية التاريخية على مزج الواقعة التاريخية بالخيال السردي الذي قد يمتد طولا وعرضا وشرقا وغربا لكنه لا يستطيع تجاوز الخط التاريخي للحدث بأي حال من الأحوال.
وبذلك فان الاحتكام الى وثائق ومرجعية التاريخ يصبح احد أهم سمات ومعايير الحكم على - الرواية التاريخية مثلما يمثل أهم أعباء الروائي على الإطلاق. وفي حالة الروائي اليمني علي المقري يبدو ولوج التاريخ زمنيا ومكانيا مغامرة على قدر كبير من الجرأة والتفرد في المشهد الروائي اليمني المعاصر.
(اليهودي الحالي، بيروت دار الساقي 2009 ) هي الرواية الثانية التي يكتبها المقري بعد (طعم أسود ..رائحة سوداء 2008) التي تتناول هي أيضا فترة محددة من تاريخ اليمن القريب بشيء من العجالة والحماس اللذين يتسم بهما عادة العمل الروائي الأول. لكن (اليهودي الحالي) تمتلك مواصفات الرواية التاريخية بما تقدمه من سرد موضوعي موثق يحاول أن يكون أمينا للواقعة التاريخية ويقف على مسافة واحدة من كل الشخصيات. ينجح العنوان في إثارة فضول القارئ للوهلة الأولى، (الحالي) في العامية اليمنية تعني الجميل. يقرر الكاتب زمان ومكان الأحداث منذ بداية السرد المبكرة فيما يشبه التحدي فلا يبقي مساحة كبيرة ليتحرك عليها الراوي : قرية ريدة اليمنية في منتصف القرن السابع عشر. فترة عاصفة في تاريخ اليمن سياسيا واجتماعيا.
يعيش اليهود والمسلمون جنبا الى جنب في ريدة تعايشا مشحونا بالمماحكة والمساجلات التي لا ترقى إلى العداوة الدموية بأي حال لكنها تكفي لتلخص طبيعة الصراع كما في البلاد العربية الأخرى.
يولد الأبناء جاهلين تماما بمعنى هذا النفور المتجذر في التاريخ. الفتاة المسلمة (فاطمة) ابنة المفتي تعلم سالم الطفل اليهودي الذي يحمل حزمة الحطب إلى بيتهم يوميا - القراءة والكتابة في العربية. سرعان ما يتعلم الفتى ويبدأ بالترنم بآيات القرآن فتثور ثائرة الأب والأسر اليهودية في القرية لكن فاطمة تهدئ الجميع باحترامها الفائق لليهود: أنتم أبناء عمومتنا وأحبتنا في الله وجيراننا.
وخلافا للخطاب الفكري (التقدمي) المباشر الذي (ارتكبه) أبطال رواية علي المقري الأميون في روايته الأولى (طعم أسود...) فإن وعي فاطمة لا يبدو- البتة - مبالغا أو مصطنعا في قولها هذا أو في قولها لاحقا: (لا توجد مشكلة كلنا من آدم وآدم من تراب. اللغة ليس فيها دين فقط، فيها تاريخ وشعر وعلوم ... توجد كتب كثيرة في بيتنا لو قرأها المسلمون سيحبون اليهود ولو قرأها اليهود سيحبون المسلمين) ذلك لأن الرسم المتقن لشخصية فاطمة التي تنشأ في وسط متدين شديد المحافظة والتسامح مع الآخر في نفس الوقت يبرر وعيها وتطورها الفكري. يبتهج الأب اليهودي لسماع ذلك ويوافق على الفور على استئناف الدروس (الابن ابنكم .. اعملوا فيه ما تريدونه .. كلامكم حالي، يدخل القلب، ويزن العقل). تبدأ فاطمة أيضا بتعلم العبرية من سالم. يتثقف الفتى اليهودي في بيت المفتي ويقرأ كتبا في الفلسفة والفقه الإسلامي والفلك. يقرأ لابن حزم الأندلسي وابن الكلبي والشهرستاني وابن عربي والحلاج ويفاجأ بوجود الأسفار اليهودية أيضا في مكتبة المفتي باللغة العربية. كما يفاجأ بأن فاطمة تعرف عن اليهودية أكثر من بعض اليهود. في السوق يكتشف سالم البغض المتبادل بين المسلمين واليهود. يقارن سالم بين الاحتقار الذي يتعرض له هو وأبناء جلدته في السوق والعطف والحنان اللذين يلقاهما في بيت المفتي ويزداد ولها بفاطمة. تتزوج أخت فاطمة الصغرى بينما ترفض هي الزواج. يفهم سالم أن فاطمة لا تريد زوجا سواه. يتزوج العاشقان ويرحلان (ترفض فاطمة كلمة 'هروب' فهي لا تهرب كما يقول الراوي بل تمضي واثقة) من القرية ليعيشا في صنعاء. تموت فاطمة عند ولادة ابنهما (سعيد). موت فاطمة يؤجج صراعا فكريا رئيسيا آخر في الرواية لا يقل أهمية عن الصراع السابق. يخبر سالم يهود صنعاء أن زوجته كانت مسلمة فتثور ثائرة الجميع ويطرد سالم وابنه الرضيع من مجتمع اليهود ف (الابن يتبع أمه). يعهد سالم بابنه الرضيع الى زوجين آخرين هاربين من القرية (مسلم ويهودية). يرفض اليهود أن تدفن فاطمة في مقبرتهم باعتبارها كافرة مثلما يرفض المسلمون بطبيعة الحال - إيواء جثمان من فارقت أهلها ودينها وهربت مع يهودي. يحدث الشيء نفسه مع جثمان سالم عندما يموت في التسعين من العمر ويوصي بأن يدفن مع فاطمة فيتقاذفه المسلمون واليهود. وإزاء ذلك يحمل الابن (سعيد) رفات والديه في صرة يرحل بها إلى مكان مجهول. النهاية الرمزية المفتوحة تبدو هي أيضا مبررة ومنطقية تماما بل لا بديل لها فالصراع لا زال قائما ومتأججا وان وجود النوايا الحسنة الفردية بين الطرفين وان كثرت لا يفلح في إيجاد قطعة أرض مشتركة ترضى بإيواء رفات الحبيبين سالم وفاطمة.
يخطط المقري لروايته بترو شديد ويحشد لها كما هائلا من المصادر والمراجع التاريخية وكتب التراث ويلتقط بدقة - الواقعة التاريخية فيوثقها ثم يوظفها في بنيته السردية بسلاسة ودون إقحام مفتعل ويختار تقنية سردية ملائمة ويشكلها تشكيلا لينا لتذعن لخصوصية التاريخ ويكمل الرواة والمؤرخون في الرواية أحدهم الآخر دون تقاطع أو خلل بلغة مهذبة يطل منها الشعر من حين لآخر.