في إحدى أيام الدراسية الجامعية، تعرفت إلى المخرج الذي أسهمت إبداعاته المذاعة في صناعة رغبتي الكبيرة لدراسة الإعلام. كنت استمع لبرامج ومسلسلات المخرج الإذاعي عبد الرحمن عبسي وأنا لازلت طالباً في الإعدادية.. وليس أمراً غريباً لشاب مراهق أن يطل برأسه على العالم من خلال نافذة إعلامية وحيدة اسمها الراديو.. و ربما عبر "أرواق ملونة" البرنامج الترفيهي الذي كان يبث ظهيرة كل يوم، قبل أن يتغير اسمه لاحقاً، إلى "واحة اليوم".. ذلك أن الإذاعة كانت ولا تزال في طليعة وسائل الاتصال الجماهيري الأكثر انتشاراً واستجابةَ لدى المتلقي داخل اليمن ولاسيما في القرى والأرياف. لست متأكداًَ مما إذا كانت رسائل الراديو حينها، قد نمّت داخلي ما كان يفترض أن ينمو في تلك المرحلة من الوعي، غير أنها أسهمت في نمو طموحات ما توقف مرحلياً، ولسنوات أربع، عند مبنى قديم بجامعة صنعاء اسمها كلية الإعلام.. وخلال هذه الفترة بالذات، خيل لي أن جزء يسير من مستقبلي المنشود كان قد بدأ يتحقق بعد لقاء معرفي جمعني وعشرات الزملاء في قسم الإذاعة والتلفزيون، بالمخرج الإذاعي عبد الرحمن عبسي، الذي كان يلون بالأحلام أوراق أيامنا جميعاً، ويرسم عبر إبداعاته خارطة طموحاتي الشخصية.
لست بصدد الحديث عن طموحاتي التي لم تتحقق جلها، رغم نوعها البسيط وعمرها المتواضع. غير أن الطريقة التي نمت بها تلك الطموحات الذاتية هي ما يجب أن تنثر هنا على شاكلة ورد لمن أسهموا في إشعال نيرانها الهادئة، لكن الأهم من كل ذلك الهذيان، هو كيف لي وهذا الصقيع يغلف الأنامل، أن أسطر حزني الكبير على رحيل مفاجئ ومفزع للمخرج الرحمن عبسي؛ صاحب الفضل الأكبر في رسم صورة مميزة لمهنة الإعلام المسموع في اليمن. إنه رجل الإبداع الأول في الإخراج الإذاعي وقد رفعت إبداعاته المسموعة اسم اليمن عالياً في أكثر من محفل إعلامي عربي. لا أدري كيف هوت بي الحادثة الأليمة التي ذبح فيها المخرج عبسي وابنه وبنته على يد احد أبنائه أيضاً، في هاوية الفزع ثم الأسى والترحم على الرجل الذي لم يكن متوقعاً أن تنتهي حكاية بتلك الطريقة البشعة، وهو الذي يصفه كل من عرفه بأنه يملك طباع هادئة وأنه رجل متسامح طيب وودود.
حيث عثر على جثثه واثنين من أبنائه مذبوحين في منزله بمنطقة دارس بالعاصمة صنعاء، في مشهد هو الأكثر بشاعة في تأريخ الجرائم داخل اليمن.
مراراً، حاولت أن أخرج محتسباً، من جو الحادثة الشنيعة، غير أني أتذكر جيداً، دفء ذلك الحوار الودود مع المخرج المرحوم عبسي بينما كنا نستقل سيارته ونحن في طريقنا إلى كلية الإعلام؛ مكان المحاضرة النظرية التي سيلقيها. أستعيد بعض خيوط ذلك المشهد، لأجده يبدو خجولاً وأنا اشرح له تأثري بإبداعاته في "أرواق ملونة"؛ البرنامج الذي كنت أعشقه، كما هي بقية البرامج المنوعة والدرامية التي كانت تتميز بها إذاعة صنعاء، ثم كيف لإحساسه المرهف كمخرج يتقن عمله، جعل من طموحي المستقبلي يتمحور حول الإخراج الإذاعي أو التلفزيوني.
لم يدرس عبد الرحمن عبسي الإعلام لكن دورات تدريبية وتأهيلية في مجالات الإخراج الإذاعي في عدة دول عربية ودولية، أسهمت في صناعته حد المعلومات التي أفصح عنها في تلك المحاضرة التي ألقاها في كلية الإعلام منتصف العام 2004 بعد أن نسق لها صديقه الدكتور محمد الفقيه وبمساهمة زملاء.
كنت حينها أتمنى أن تكون المحاضرة تطبيقية أكثر منها نظرية، غير أن عدم توفر الأستوديو الإذاعي والتلفزيوني في الكلية حينها، كان سبباً كافياً لأن يشرَح لنا الرجل تجربته في الإخراج من خلال ذكر حكايات وقصص كانت تبدو أشبه بمعلومات جديدة لنا كطلبة، لا ننكر أننا استفدنا منها، على الأقل ذلك الحين.
هل أبدو أنني تورطت في الكتابة عن قيمة إعلامية ليس لي احتكاك مباشر معها سوى تلك المرة؟ لا أدري صراحة، إن كانت إبداعات ذلك الرجل الذي يعمل بصمت تجعل من كل المتلقين على علاقة مباشرة بإحساسه الجميل.. كيف لا نسطر حزننا ونحن فقدنا مخرج أهدى اليمن جائزة أفضل مسلسل إذاعي عن مسلسله "جزيرة الأحلام" في مهرجان عربي للإذاعة والتلفزيون قبل سنوات قريبة، وعلى العموم، فإنه بعد هكذا حادثة شنيعة تبدو الكتابة صعبة حتى عن أقرب المقربين.
إن مقتل مدير إدارة الإخراج الإذاعي بإذاعة صنعاء عبد الرحمن عبسي – رحمة الله تغشاه- ومخرج برنامجي "نسائم السحر" و"المجلة الثقافية"، في حادثة أقضت مضجع كل من سمع بها علاوة عن تسببها في قشعريرة سرت في أبدان كل الناس بمن فيهم الوسط الصحفي وأبناء منطقته وأقربائه، تأتي بالطبع، في ظل تزايد عدد تلك الجرائم الجنائية التي تحدث عادة، بين الأسر ذاتها، وهذا يحتم على المهتمين أن يبحثوا عن الأسباب والمشاكل التي تسهم في هذا التدفق المقلق للآلام والمصائب. إن لله وإنا إليه راجعون.