على الأرجح أن الزعيم الفرنسي الشهير جاك شيراك سيقول مستدركاً وهو يشاهد ثورة التونسيين على شاشة التلفاز: بل هذه المعجزة التونسية. كان شيراك قد وصف الاقتصاد التونسي ب"المعجزة الاقتصادية" لدى زيارته لتونس أواخر 2003 مستنداً إلى السمعة الجيدة التي حققها اقتصاد البلد الإفريقي الجميل على حساب حرية سكانه.
لكن بخلاف "المعجزة الاقتصادية" التي تكشفت عن مبالغات، قدم الشعب التونسي معجزته الحقيقية للعالم من البلاد الخضراء التي ظلت أمواج المتوسط تذكي حنين أهلها للحرية طيلة 23 عاما.
لا بد أن زمناً عربياً جديداً قد أطل من رحم اللحظة التونسية الباذخة التي صنعها الشبان العزل وهم يرتدون سراويل الجينز في صورة مختلفة تماماً عن لوازم الثورات العربية القديمة من بذلة الكاكي العسكرية والدبابة.. و"البيان رقم واحد".
ففي الرابع عشر من يناير، شاهد العالم ندّية حضارية مبهرة تنبعث وسط منطقة مسلوبة الحضور والتشارك الإنساني منذ نحو نصف قرن ولم تعرف لدى الأمم الأخرى سوى بأنها ساحة غنية بالثروات ومقهورة الإرادة لصالح نزوات عدد قليل من الحكام المستبدين وعائلاتهم الغارقة في الملذات.
منذ الجمعة الماضية، صار يتعين على العالم أن يتعامل مع واقع جديد في المنطقة العربية يسير على وقع "الظاهرة التونسية".
تقول الظاهرة التونسية إن شباناً لا ينتمون إلى الجيل السياسي العربي العتيق أسقطوا واحدة من أعتى النظم الدكتاتورية في المنطقة خلال 27 يوماً فقط من التظاهر والاحتجاجات المدنية عقب أن أشعل شاب جامعي في السادسة والعشرين النار في جسمه احتجاجاً على تجاهل السلطات المحلية في بلدته لشكواه.
غير مكترثة، وجهت شرطية صفعة لمحمد البوعزيزي الذي جادلها بشأن طلب إخلاء عربته من ساحة عامة.
وفي مقابل التقدير المتبلد للشرطية، كان تقدير البوعزيزي جد سديد؛ التضحية بنفسه لقاء زوال نظام حكم متصلب عمره 23 عاماً وحرية لا تضاهيها مصلحة أخرى.
لا يمكن تخيل القهر الذي فطر قلب البوعزيزي جراء صفعه ثم إغلاق أبواب الإنصاف في وجهه إلا بتأمل ردة الفعل الخارقة التي صنعت تحولاً كان في حكم الحلم الصرف.
كما لو أن السماء غضبت لغضبة البوعزيزي الذي وجد نفسه ذليلاً وأجرد من أي نصير، سارت الأمور بسرعة فائقة وبدا أن الحديد يفلُّ حتى من ضربات الفلين.
فمن دكتاتور بالغ القسوة والقمع، يسيطر على البلاد بقبضة حديدية، ظهر زين العابدين بن علي يلتمس من شعبه الغاضب الهدوء وينثر له الوعود قائلاً "فهمتكم الآن" لكن من سوء حظه أنه وعى الموقف وقد نفد صبر مواطنيه.
ينطوي السقوط السهل لنظام بن علي رغم قبضته الباطشة على ما تبدو أنها مفارقة هائلة بنظرة عابرة غير أن ذلك السقوط يؤكد معادلة مفادها أن الأنظمة المستبدة كلما أمعنت في إحكام سيطرتها وأفرطت في قمع المجتمع، كان إسقاطها يسيراً لأنها تكون قد تجوفت وعزفت عن اهتماماتها الجادة التي أعلنتها في البداية لصالح ملذات هابطة إضافة إلى شدة الانفجار الشعبي الذي يتولد عن قناعة لدى المواطنين بأنه لم يعد لهم أي مصالح يمكن أن يخسروها.
والظاهرة التونسية تقدم المفهوم الجديد للثورات الحديثة بمضامينها وأدواتها؛ الثورة التي لا تقدر أعتى الأنظمة على إجهاضها إذ لا مقاومة مسلحة يمكن سحقها بنيران كثيفة ولا زعماء كباراً بالإمكان الزج بهم في السجون أو مفاوضتهم كما لا وصاية من أحد عليها كالأحزاب التقليدية والتعليمات الخارجية.
هذا نمط مختلف من الثورات يلائم تماماً المفاهيم العصرية السائدة ويقضي بأن يستنفر أفراد الطبقات الاجتماعية والمهنية أنفسهم إلى الساحات والميادين العامة؛ العمال المغبونون والشباب المسدودة آفاقهم والفقراء الجوعى والناشطون التواقون إلى حريات حقيقية فضلاً عن باقي الطبقات.
وقد قدمت الثورة التونسية ذلك المفهوم على نحو مثير للإعجاب فقاد الشبان الذين ولد معظمهم في السنوات الأولى لاستيلاء بن علي على الحكم السياسيين المعتقين ولم يصل صوت الأخيرين إلا حين كان الدكتاتور مشرفاً على الانهيار.
كما تتمتع هذه الثورة إلى الآن بكلفة مثالية في شقيها البشري والمادي، فهي بحق حدث إنساني ضخم بأقل عدد ممكن من التضحيات.
فوفقاً للإحصائيات التي أعلنتها حكومة الثورة يوم الاثنين، سقط نحو 78 شخصاً في الأحداث ونتج عنها خسائر تقدر بثلاثة ملايين دولار.
وهذا العدد من الضحايا يساوي عدد الضحايا الذي يُسجل مراراً إثر حادث تصادم قطارين في مصر أو سقوط مركبة في ترعة من ترع النيل وهو مساو أيضاً لحصيلة حوادث سير في أسبوع واحد على الطرق اليمنية الرديئة.
كما لا يزيد هذا العدد عن مجموع ضحايا حرب قبلية تندلع بين عشيرتين في محافظة يمنية نائية أو وباء غريب يحل بمنطقة ريفية.
أما الثلاثة ملايين دولار فمبلغ يمكن لأي أمير عربي أن يبدده في استجمام قصير في أي من جزر العالم الخلابة كما يمكن لأي من أفراد العائلات الحاكمة في المنطقة العربية أن يلهو بمبلغ يقترب منه في سهرة واحدة.
فضلاً عن هذه الكلفة الواقعية لحدث تغييري هائل فإن الثورة التونسية تتبوأ موقع الإلهام في البلاد العربية حالياً وتغري باستنساخ أمثله لها في كل الأقطار العربية المشابهة للحالة التونسية في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
إنها بمنزلة ثورة يوليو المصرية منتصف القرن الماضي من جهة الريادة وستفعل ما فعلته الأولى تأثيراً وإلهاماً لكل المتطلعين إلى حياة لائقة يتجاور فيها الخبز والحرية ولا يُقايض واحد منهما بالآخر كما فعلت ثورات القرن العشرين.
ولا تخفى لهفة المواطنين العرب إلى استنساخ المثال التونسي، ففي الجزائر والأردن يواصل السكان احتجاجات متواصلة تحت يافطات الغذاء ورفضاً للضرائب ورفع الأسعار. وقد أضرم عدة شبان النار في أجسادهم الأحد الماضي في بلدات جزائرية مختلفة.
كما أشعل شاب مصري النار في نفسه يوم الاثنين أمام مقر البرلمان وكذلك فعل مواطن موريتاني. وجميعهم كانوا يحتجون بذلك على البطالة وانعدام المأوى والوظيفة.
أما اليمن فأوضاعها أسوأ كثيراً مما كان سائداً في تونس وهاجس الانتفاضة المدنية هو أكثر المشاريع حضوراً لدى المعارضة والمواطنين الذين يطحنهم الفقر وتقتلهم الأوبئة ويستحوذ الفاسدون المقربون من نظام الحكم على نصيب كبير من عائدات الثروات الوطنية التي بمقدورها تحسين أوضاعهم المعيشية إلى حد ما.
إضافة إلى ذلك، فاليمن تشترك مع البلدان العربية المرشحة لانفجارات شعبية في التنمر السافر لأنظمتها على القدر الضئيل من الحريات والحقوق.
لقد بثت انتفاضة التونسيين الهلع في نفوس الحكام العرب وهي وحدها من يستطيع إقناعهم باحتمال سقوطهم في أي توقيت تختاره شعوبهم، الأمر الذي يفسر محاولات الصحافة الحكومية في أكثر من بلد لتهويل سوء الوضع في تونس بعد الانتفاضة وتصوير البلد على أنه صار مسرحاً يسكنه الخراب والحرائق ويجول فيه أفراد العصابات المقنعين بالرغم من أن أعضاء الشرطة السرية لنظام الرئيس المخلوع هم من تورطوا في إثارة أعمال رعب يائسة للحيلولة دون انتصار الانتفاضة.
وبدلاً من أن يعي الحكام العرب الدرس كله، اختاروا جزأه البسيط ليتعاملوا معه؛ في مصر التأم مجلس الدفاع الأعلى وأصدر تعليمات عجيبة أحدها أن يمتنع الوزراء عن إطلاق التصريحات المستفزة للمواطنين. وفي اليمن، قضت تعليمات بعدم التعرض للاحتجاجات بالرصاص الحي في الوقت الذي كان الجيش يواصل ضرب القرى بالأسلحة الثقيلة.
إجمالاً، كان الزعيم الليبي معمر القذافي ينطق بلسان حال أقرانه العرب حيال الحرية التي انتزعها التونسيون.
بطريقته الهزلية المضحكة، قال القذافي في خطاب مستفز يوم السبت إن الشعب التونسي أخطأ حين أطاح بأفضل شخص يمكن أن يحكمه.
وأضاف: خسرتم خسارة كبيرة لا يمكن إرجاعها فالذي مات ابنه لا يمكن أن يعود في الدنيا، الذين ماتوا لا يمكن أن يعودوا (...) لا يوجد أحسن من الزين أبداً في هذه الفترة، بل أتمناه ليس إلى عام 2014 بل أن يبقى إلى مدى الحياة".
الانتفاضة التونسية هي درس محرج للمعارضات العربية أيضاً وتشعرها كم هي متخلفة عن الإحاطة بلوازم الثورات المدنية، ومتخبطة في تحديد أولوياتها.
لكنها في جانب آخر، تمنح المعارضين فسحة كبيرة من الأمل تزيح عن كاهلهم جبالاً من المخاوف.. إنها ببساطة تذكرهم كم أن تحطيم المستبدين سهل لكن في حال طرد الاعتقاد بأنهم جبابرة بالفعل.
كانت الرسائل المترتبة على الإطاحة بنظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في 2003 بدأت تسري في أذهان الحكام العرب لكن التغيير بالدبابة الأميركية والانتكاسة الإنسانية والثقافية التي استوطنت في البلاد عقب سنوات الاحتلال أفسدت اكتمال التأثير والعبر .
وبدلاً من إحداث مراجعات صادقة والاعتبار بسقوط دكتاتور كبير كصدام حسين، اتخذ نظراؤه الحالة العراقية بعبعاً لتخويف شعوبهم وإلجامها عن المطالبة بالتغيير.
لكن الظاهرة التونسية الخالية من تلك المثالب ستأخذ طريقها إلى أقصى مدى ولن يكون بالإمكان إيقافها.
هذه الظاهرة هي إيذان ببدء الجيل الثاني من الثورات العربية وسيكون من الضياع ألا يحدث هذا الأمر بالمقارنة مع كل القنوط والتقهقر اللذين رافقا سني حكم الأنظمة المستبدة طيلة نصف قرن.
ستمثل الثورات المدنية المتقدمة كثيراً على الواقع الذي فرضته الدكتاتوريات المتعاقبة أفضل إسهام للشعوب العربية في الحضارة الإنسانية الحالية.