صنعاء، صبيّةٌ منتقبة.. قلبها تتجدد فطرته وما يزال، يشرب منه تاريخ مولدها، أربعة آلاف سنة، وكأنها مرّت ولم تمر. هكذا وجدتُ الله يضع السر في كفها، كأن المدن التي عَلِقتْ بآثارك لم تكن سوى برهان على أن صنعاء محطةٌ لازمة لمن أدمن السفر وملَّ من غربتهِ. هذه الصبية، تختفي خلف جبالها ورجالها، حيث جبل النبي شعيب الذي تركَ سرّه على رجالها ليكون الأعلى في اليمن وشبه الجزيرة العربية..هؤلاء الرجال الذين يفخرون بقبيلة لا تفتح صباحاتها كل يوم إلا ببراهين تلائم الأساطير، كآلهةٍ قديمة، قِدم صنعاء. هكذا تمضي الثنائية بصورة لا نهائية. جبل يطّل على المدينة ورجلٌ يطل على الصبيّة الخضراء.. كل بسلاحهِ التقليدي، جبل كمحّارةٍ صلدة ورجل لم يخرج من تاريخه ويتخلص من "جنبيته". صنعاء، تربتُ على كتف الغريب فور وصولهِ، تبيّن تناقض فطرتها وامتزاجها بين الحاضر والماضي وبين مستقبل يأبى أن يأتي طبيعيا ومتجاوزا لروائحها.. روائحها التي تجعل لنسائها المنتقبات أنوثة أخرى، تخصُ هذه المدينة التي تنام مبكرا راحلة في بخورها وكحلٍ يختلط بين وجوهٍ مغطاة وأحلام نساء تنمو، بدأت منذ وقت قصير وأعطت الكثير قياسا لزمن تحررها. إذن، هي الثنائية الأخرى، نساء/ ومطر.. مطرٌ له عدّة صور وأجملها صورته الأصلية، ماء يُغرق صنعاء في وقت تكون فيه مدن أخرى لا تبعد عنها كثيرا تموء بصحرائها وتضجّ من شمسها الحارقة.
هذا المطر، يربط كل عام صنعاء بالسماء، بخيط من دعوات وغلالة من خضّرة.. مطرٌ يغرقُ طينها ويؤكد استحقاقها لكرم السماء. لا يمكن أن تعرف صنعاء دون أن تلمس بابها الأخير الذي صمد رغم الحرب والمطر، خلفه بيوت تحكي لك عن تاريخ تجمدّ منذ الأزل، ووجوه ترسم تجاعيدها تناقُضَ سماء، وهبتْ أرضا ومطر، وبخلت ْ بسيرورة التغيير. فأهلها كأنهم صور فوتوغرافية تمشي أمامك تحدّثك عن التاريخ وتحكي لك قصصا بلهجةٍ تشعرك باختلافها عن لغتك.. وإن دققتَ ستجد المفردات تعود بك إلى عربية أصيلة وامتزاج حضارات عملاقة كانت يوما ما منبعا لملاقاة المستقبل. هذه المفردة التي تجدها ضائعة في صنعاء وقليلة الحضور بعد إن كانت ملمحا مهما في صيرورتها. اليوم صنعاء تغسل روحها بشبابها، تمد كفّها للمستقبل، تنظف طريق تاريخها مما علق بهِ من طين لزج.. ستفاجأ نفسك وأنت تستمتع لشباب ملّوا من الجمود وشعروا بضرورة التغيير وحتمية الأمل. لصنعاء خصوصية تاريخها، خصوصية يجب أن تعيد للشباب اليمني ثقة تراكم فقدها خلال عقود طويلة.. فيا تاريخ صنعاء، يا مبتدأ الإنسان ومظلة اليمن.. يا ملح روح شعبها.. بارك لنا المستقبل.