على أن الشباب العربي لم يعد يحتمل أكثر مما كان, وأوضاعه المعيشية التي لم تعد تطاق: ثمة ما يبدو واضحاً وبارزاً في المقام الأول وحراك الشباب العربي هذا بثوراته المتوالية وصراخها المديد من شارع الحبيب بورقيبة في تونس وميدان التحرير بمصر.. حتى سواحل عدن المتاخمة بأوجاعها ألم البحرين وويلات الساحل الليبي المضرجة بدماء الذين ما كان لهم إلاّ أن يرددوا: (يسقط.. يسقط...). بالأمس كان الشباب العربي يغفو على كومة أحلامه وآماله التي بزعمه أنها ستتحقق, ما حدا به الحال أن يقتعد له مكاناً قصياً تحت أقبية الواقع السيئ فعلاً.. وبذات الوقت ينتظر من كان قد اعتبره رمزاً نضالياً بآرائه وأفكاره وكتاباته التي على سبيلها سيتغير الحال وتتحقق الأحلام وتصبو الآمال المحتبسة زمناً طويلاً في مخيال الشباب المفتوحة عيونهم على مصراعيها ناحية الخلاص. بالأمس – فقط - كان هؤلاء الشباب يعيشون حالة الصمت لا أكثر, وقد سلّموا أمرهم من فكرة تحقيق العدالة والمطالبة بالمساواة والحياة بالمفهوم الذي يتواكب ومقتضيات العصر الحديث. كانوا بأوطانهم التي يعشقونها واقفون على بعد مسافاتٍ طويلة من الحكام لينطقوا وجهاً لوجه: لا للظلم, لا للذل, لا للاستبداد. بالأمس كانوا.. واليوم: هاهم الشباب يفتدون أوطانهم ضد كل ما لم ينزل به الله من سلطان والحكم الديكتاتوري الجاثم أكثر مما ينبغي على أنفاسهم, وليثبتوا للعالم أجمع أنهم يعوون حقيقتهم أكثر من غيرهم, ولن يركنوا لما تتأتى به الصدف, وما بجعبة الرمز النضالي العظيم الذي كانوا ينتظرون ما ستفضي به ممكناته للفكاك من ربقة شتاتهم. بالأمس كانوا.. واليوم: يدركون عصرهم جيداً على أنه عصر الفكرة لا عصر الرمز المخلص.. عصر تحقيق الأحلام بخروجهم وتبديد الأوهام بإصرارهم.. عصر اللحظة الآنية التي يحرضهم عليها وعيهم .. عصر التغيير بالفعل لا القول, وأفكارهم الخلاقة الناهضة في دمائهم بعروبتها... هذه الأفكار التي يتفق الجميع عليها والتي من غاية تطبيقها سيكون الوطن بمعناه الحقيقي ك وطن (شعباً وحكومة). هذه الأفكار التي تنادي بحرية الإنسان, له ما له وعليه ما عليه عدلاً وكرامة وحقوق وواجبات. إن هؤلاء الشباب الذين يناضلون اليوم يعوون حجم الخطورة في أن يستمر الديكتاتور على منواله بسلبهم حياتهم وإذلالهم داخل أوطانهم التي – حتماً - يعيدون صياغتها بهذه الأيام بما يتواءم وعصرهم, ليرسموا على مباسمها الكثير والكثير من أحلامهم ويعلقون على رقابها آمالهم بما للتاريخ أن يتنفس الصعداء سمواتٍ سموات, وبما لله أن قال صادقاً في كتابه: "كن فيكون". والحرية أولاً وأخيراً هي للشعب.. وللأوطان التي أمست طويلاً رهينةً للفساد والجشع والفعل البيروقراطي المقيت الذي سحقها في الهاوية كثيراً. وصوت الشارع وحده ها قد أدرك ذاته أخيراً, هذا الصوت الذي يرفض اليوم استعباده واسترقاقه, وينأى بآماله عن انتظار الرمز القيادي وتنظيراته التي لم تؤتي بأكلها على سبيل تحقيق العدالة وتطبيق حق المساواة ناحية التغيير المنشود, وبأن الحل هو العصيان الذي من شأنه أن يدحر الطغيان.. عملاً بقول الله: (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم).