ساعتين ونصف حتى تحط في مطار صنعاء، نصف ساعة لتنتهي من إجراءات المطار ثم يلزمك بعدها نصف ساعة أخرى وتكون على مشارف قلب الحدث: ميدان التغيير، فتلمس وتشم وتذوق طعم الثورة بكل عنفوانها وألقها وهديرها المدوي: يسقط النظام. الذين يقولون إن الثورات تقتلع في طريقها كل شيء، يفوتهم تفصيل مهم، أنها تبني وتعمر في البداية، تتحول إلى نقطة جذب رهيبة: العشرات يصبحون مئات ثم آلاف فملايين، من يستطيع مقاومة هذا الجذب العنيف، حتى لو كنت على بعد آلاف الكيلومترات. هذه الثورة مختلفة، ومن الصعب مقارنتها بالثورات التقليدية التي تصطبغ عادة باللون الأحمر، كل هؤلاء الشباب من حولي فرحين ومسرورين، الجميع يبدو هكذا.. حتى المزاج السيئ بعد التخزينة لا يجد له طريقاً وسط زحمة الأجواء الفرائحية، كأن الناس ذاهبون إلى عرس، أو قادمون من احتفال. متعطشون لخوض ثورة متحمسون للتغيير، كأن إسقاط النظام قضية شخصية لكل فرد. لقد انتظروا كثيراً حدثاً ضخماً كبيراً يجمعهم كلهم، يفجر الأمل بداخلهم، ويفتح لهم باباً واسعاً بحجم الوطن نحو المستقبل.. وقد جاء. هنا يبدأ عهد جديد، مختلف وفتي وناضج تماماً، لكأن الرئيس بطريقة حكمه طوال الثلاثة والثلاثين عاماً أنضج كل الظروف المناسبة لأن تشهد ساحات التغيير كل هذا الحشد الكبير، أغلبهم هنا من الشباب الذين ولدوا في عهده، وهم الآن يهتفون ضده بملء أفواههم، ويعلقون صوره إلى جوار حسني مبارك وبن علي ومعمر القذافي، غير أن بعض الصور المعدلة أساءت للجميع، لقد شعرت بالضيق وأنا أرى بعض تلك الصور المعلقة على خيم المعتصمين، بعضها ساخر ومقبول، لكن البعض منها سيء، ويجب أن تزال لأنها غير لائقة أبداً. عدا ذلك فإن كل شيء في هذا المكان يضج بالحيوية والعنفوان، والابتسامات أيضاً، ووسط كل هذا كان الصوت الأكثر عذوبة وجماهيرية، يجد طريقه بسهولة إلى قلوب الآلاف، كان أيوب حاضراً: "املؤوا الدنيا ابتساما، وارفعوا في الأرض هاماً". على المنصة كان أحد الشباب يعتذر من بعض الصحفيين الذين قالوا إنهم تعرضوا لمضايقات من قبل اللجنة الأمنية، وهذا شيء جديد، لأننا تعودنا أن الرجال الذين يصلون إلى المنصات ويتحدثون للناس لا يعتذرون مطلقاً، اعتلت المنصة بعد ذلك إمرأة عجوز ألهبت مشاعر الآلاف: كانت تتحدث بحرقة عن الراحل إبراهيم الحمدي وتلعن من اغتالوه، وقالت كلاماً بسيطاً ومؤثراً عن رغبتها في التغيير والقادم الجديد. المكان هنا تحول إلى عالم آخر، خارج حدود العجز الذي سلم له اليمنيون أمرهم منذ زمن، لقد بدا الناس هنا وكأنهم ينتمون إلى عالم آخر قادر على تغيير مجرى تاريخ هذا البلد وإلى الأبد. لا أحد هنا أمام كل هذا الحشد وتجاه ما يرى ويسمع إلا أن يكون ثورياً، ويرتعش من الفرح والرهبة والحماس، العزيز محمود ياسين يقول للمحتشدين: "إنني ارتعش أمامكم" ويذكرهم أنهم يجعلون هذا النظام يرتعش من رأسه حتى قدميه. حتى تكون قريباً من الثورة، يجب أن تأتي إلى هنا، وتسلم نفسك لكل ما يحدث في هذا الميدان، ومن المهم أن تفتح صدرك وتجعله يتسع لكل ما يمكن أن يحدث أو يقال. ثمة نقاشات ملتهبة ومحتدمة أحياناً داخل هذه الخيام، لكنها رغم الاختلافات التي قد تظهر متفقة تماماً على شعار هذا الميدان: "إرحل". بالنسبة لشخص يريد أن يعرف ويشاهد ويسمع ما الذي يحدث في هذه البلاد، ليس عليه سوى أن يذهب مباشرة إلى ميدان التغيير وميدان التحرير، ثم يسمع ويرى. الصورة في ميدان التحرير تختلف، ليس تماماً، ولكن الفرق شاسع، ويستطيع من يمر هناك أن يقرأ في وجوه الناس ما الذي أتى بهم إلى هذا المكان؟ أو ماذا يريدون؟ كانت الانفعالات البادية على وجوههم وأسلوبهم في ترديد الهتافات ومضامينها والأشياء التي يرفعونها تعبر عن شيء واحد، أو بالأحرى لا تعبر عن شيء، هؤلاء الناس ليسوا مقتنعين بما يقومون به، على الأرجح أغلبهم لا يعرف على وجه التحديد ماذا يريد؟ أطلب من صديقي صالح الذي كان بجواري أن يبحث لي عن شخص يرتدي بنطلوناً، لأن "المبنطلين" متهمون بحسب بعض من يقودون هذه المسيرات المؤيدة، يرد صالح بطريقته الساخرة "مافيش واحد لابس سوا أصلاً"، كنا نضحك ونراقب بحذر "الصمول" و"الأعصي" المنتشرة بين عدد كبير من "المؤيدين" هناك، والذي بدا لنا غريباً في وقتها أن الكبار في السن والكبار جداً كان أغلبهم يحمل في يده عصاً أو صميل. الأغرب لماذا يحملونها أصلاً؟ الوجوه في ميدان التحرير مقيدة وجامدة، كأنها أدمنت ولعمر طويل العبوس والتجهم و"البهرار"، أغلب الناس هنا ليسوا من النوع الذي يرغب المرء في الحديث إليهم، أو سؤالهم مثلاً: لماذا هذه العصي؟ أو لماذا يتجمع الناس ويتصايحون في ذلك المكان، لا يوجد أحد بين هذا الجمع يستطيع أن يمنحك الاطمئنان، أو السكينة، أو حتى الحماس للتعبير عن رأي أو وجهة نظر، الكل متوثب وعدائي ويبحث عن شيء ما، لكن هذا الشيء لا علاقة له أبداً بالشعارات المرفوعة أبداً. كنت قبل القدوم إلى هنا أذهب إلى كل القنوات اليمنية أبحث وأشاهد، وكانت قناة "سبأ" تعذبني، تقتلني بحديثها عن الحيادية وعن شباب التغيير الذين تستضيفهم في برامجها، كنت أتبرأ منهم جميعاً، ولا أستطيع التوقف عن العودة إلى برامجها من جديد لأعذب نفسي مرة أخرى، وكان الأصدقاء يضحكون وينصحون بأن أتوقف عن تعذيب النفس اليومي. اليوم وأنا في ميدان التغيير أشعر وكأن كل عذاباتي السابقة قد تبخرت، لا أحد هنا أصلاً يعير انتباهاً لما تبثه "سبأ" أو الإعلام الرسمي، من يدخل إلى هذا الميدان يصبح محصناً من كل عوامل الردة والخداع، بل على العكس الشباب هنا يضحكون ويسخرون من الأشياء التي كنت اعتقد أنها ترفع الضغط وتأتي بالسكري. هذه البلاد اليوم أمام مفترق طرق، وغداً لن يكون بالتأكيد كما بالأمس، لقد وصلنا إلى مرحلة يستحيل معها العودة إلى ما قبل 3 فبراير، هؤلاء الشباب وضعونا على بداية الطريق الصحيح، وعلينا جميعاً أن نقرر ما الذي سيكون عليه الحال غدا، قبل ذلك لا تزال الكثير من الأسئلة معلقة، بعضها مهم جداً وينتظر من الجميع البحث والاجتهاد، أكبر هذه الأسئلة يتعلق بطبيعة الانتقال السلمي للسلطة كنتيجة للثورة الشعبية، والضمانات المرتبطة بالانتقال، وكيف يمكن ترتيب وقيادة عملية المرحلة الانتقالية؟ وإحدى "النقاط الخمس" التي اقترحها المشترك على العلماء لعرضها على الرئيس، تطلب من هذا الأخير أن يجد جواباً لهذا السؤال الذي لن تكون الإجابة عليه سهلة أبداً.