كان جابر عصفور الرئيس السابق للمجلس الأعلى للثقافة مثيرا للشفقة وهو يقبل وزارة الثقافة التي لطالما داعبت حلمه ثم يستقيل، ومثيرا للضحك وهو يتحجج بظروفه الصحية كسببا لم يوفر له غطاء لجبنه بالانسحاب أمام النظام المصري المخلوع في إيامه الأخيرة أو حتى مغازلةً لشعب قرر العبور إلى المستقبل. لست ُ هنا بصدد الحديث عن جابر عصفور، فهو لا يعنيني ولا أظن أنه سيعني الكثيرين بعد الآن، فسقوط المثقف يشبه الموت السريري الذي غيّب صاحبه عن الحياة ولم يسلمه للموت..
الأمر يقتصر فقط على إعطاء المثال لمثقفين عرب يجب علينا الثورة عليهم وإقصائهم تماما...فوجود المثقف ضمن أي منظومة دكتاتورية يعني على الأقل سكوته وبالتالي فسيكون اعتباره شريكا في جرائمها أبسط عقاب له. والأمر لا يقتصر فقط على هؤلاء المثقفين شاكلة عصفور الذين فقدوا أهم صفات المثقف الحقيقي والواعي بمرحلته وملابسات ظروف مجتمعه ،وهي استشراف المستقبل والدعوة إليه بل حتى المشاركة بهِ قبل وصوله . بل يجب علينا التخلص من هؤلاء من أمثال الشاعر الكبير،الروائي المبدع، الناقد المتمرس.الشاعر الكبير المدعو لمهرجان كبير، الروائي الكبير الذي بجائزة كبيرة، الناقد الكبير الذي لا يكتب إلا عن الكبير والمهرجان الكبير لن يوجه الدعوات إلا لكل من هو كبير، المجلة الكبيرة التي لا يكتب بها سوى الكبير والجائزة التي لايستحقها سوى الكبير.لا يجب أن تردعنا النظريات الساذجة التي تتهم مثل هذه المحاولات بِ" قتل الأب" أو التمرد عليه.
لننفض كل هذا الغبار...الغبار الذي لازمنا منذ ستة عقود..بدء أول ثورة عربية، فقد ارتبطت الحداثة ونظرياتها المترجمة بتلك الثورات وأصبح لفظ " الكبير" غالبا ما يرتبط بشباب تلك الفترة الذين أصبحوا الآن كبارا حقا بكل المقاييس.
تعبنا من الإقصاء وعدم الاعتراف بمنجزاتنا..لماذا لا نعترف بصورة حقيقية إن الأدب عموما في الفترة السابقة لم يقدم الجديد إلا نادرا؟؟لا يوجد في النقد ما يتميز بخصوصيتنا ..حتى شعراءنا الكبار ما زلنا بين فترة وأخرى نجد من يتهمهم بسرقة قصائدهم من نصوص للغات أخرى...
روايتنا لا تخرج للآخرين إلا بالحظ..ومجلاتنا وصحفنا الثقافية أغلبها مهترئ.. نحن المخذولين، الذين ولدنا في زمن صنعوه هم، حين أتوا في ساحة فارغة تتوالد فيها الأفكار والإيديلوجيات والثورات.. كل ما فعلوه أنهم لم يضيعوا فرصهم، الفرص الجاهزة والمستوردة من عقول في الضفة الأخرى، قرأوا وفهموا وكتبوا وجعلوا كل ذلك ورثنا الثقيل.
كل هذه الخيبة يجب أن تنتهي..لنشكرهم بهدوء، لنكرمهم كما ينبغي لهم وليفسحوا المجال لنا..نحن من يمسك المستقبل بيديه، من وعى دروسهم جيدا وتعلم من عثراتهم..نستطيع أن نكتب الجميل، أن نحاور الآخر، أن نبتكر نظرياتنا وأن نغني لشعوبنا وهي تبني المستقبل..