أمام ما شهدته في الأشهر القليلة الماضية وتشهده الدول العربية الآن من ثورات التغيير. بقي كثير من القنوات الإعلامية خاصة الإخبارية خافتة، أو تقدم تغطيتها على حياء. والمحاولات المهنية المحترمة؛ التي قدمتها بعض القنوات. تحققت عبر شاشة قناة الجزيرة الإخبارية؛ نموذجا؛ للخبر، التحليل، الصورة الموضوعية، ونقلا للثورة مباشرة؛ منصفة لميثاق الشرف الصحفي. محافظة على الأمانة الأخلاقية المرجوة في أداء الصحافيين بصورة أوسع. وجهة نظر قد تكون غير صائبة بالنسبة للبعض عن يؤمنون بفكرة العمل الإعلامي بوصفه محايدا ويرددون وفقا لحياديتهم أو الغيظ بأن قناة الجزيرة تتورط في الاحتجاجات وتتحول إلى طرف فتضطر إلى المواصلة وتكابر في لعب الدور، المفكر عزمي بشارة -مثلا- كان يقدم توجيهات للشباب المصري ولم يظهر فقط محللا للحدث. هكذا يبدو الرأي في قراءة المشهد من طرف واحد. استكمالا للرأي وللرؤية الأحادية يضيفون: ما الذي تقدمه الآن هذه القناة للثوار الليبيين والشباب اليمنيين المحتجين في طول اليمن وعرضها؟ في الحقيقة من يقوم بثورة لا ينتظر مساندة تأتي من وسيلة إعلامية بعينها أو يلقي باللؤم على مؤسسة إخبارية هنا أو هناك. وإذا صدر اللوم؛ يجب أن يوجه للمؤسسات الإعلامية القريبة قبل البعيدة. لا أبرر لقناة الجزيرة إن كانت أخفقت أو حققت نقلات في تونس ومصر يعدها البعض نوعية، أنا منهم. على القدر الذي نذهب من خلاله هنا إلى قراءة مهنية لواقع أداء الجزيرة، في حضور إعلام عسكري رسمي، وإلى أي مدى ساندت هذه القناة الإخبارية ثورات التغيير. على الدوام يجب على الشهود أن يكونوا حاضرين يقظين؛ ينقلون ما يدور في بؤرة الحدث ومحيطه، يقولون ما يمليه عليهم الضمير المهني، دون حذف أو إضافة. ويتعمدون في كل لحظة التنويه والتصويب، بحرفية عالية، يبتكرون القصص المؤثرة، المشوقة؛ يدققون في أرقام الضحايا والمحتجين في النوع والكم، في الزمان والمكان . المواقف المتداخلة يفككون تشابكها من زوايا متنوعة، يقدمونها على هيئة قوالبهم الجاهزة؛ البسيطة، السهلة التي تمكن المشاهد من تمييزها، ومن ثم الأخذ بها. ولذلك الصورة التي نقلتها قناة الجزيرة وانتقلت معها إلى مصاف الثورة كانت أبلغ؛ كمصدر للثورة المباشرة الآن في تونس ومصر؛ في ميدان تحرير القاهرة، تجمعات محتجين أولا بأول، هجمات البلطجية، تباين آراء المؤيدين والمعارضين للثورة عبر الشاشة، خطابات مبارك حتى التنحي. وصلوات جمعة الغضب، الرحيل، النصر لن أسترسل بتكرار ما تمدنا به الشاشة، فالصورة أبلغ بكثير من الكلام، وأخص الصورة الحية المباشرة في لحظة وقوع الحدث. وليست فيديوهات تمثيلية أو فوتوغرافية الديجيتل التي يمكن التلاعب بها عبر برنامج مونتاج الكتروني؛ أصبح ذلك منتشرا الآن، ومن السهل أن توسع عدد المؤيدين للرئيس علي عبدالله صالح من عشرة آلف مثلا إلى مائة ألف وأكثر. أو أن تمنطق الصحف الرسمية واستوديوهات مونتاج التزييف البندقية على كتف شاب محتج سلميا، كما وتسلم يد محتج آخر مسدسا أو هراوة صعق كهربائي استوردته أجهزة القمع في نظامنا العسكري بصفقات دولية. وتظل وسائل إعلامه المخادع ترجمنا بتقرحاتها وتشوهاتها لعدة عقود على أنها الحقيقة. وخلافا على ذلك تتفوق تجارب القنوات الإخبارية المهنية بالتميز الواضح، غير المفبرك، على محطات الشكل الواحد؛ المحاطة طوال سنواتها بالانتقادات؛ كوسائل بوق الحاكم وتمجيد نظامه. على سبيل المثال القنوات التونسية 21، 7 عادت مباشرة إلى (القناة التونسية الوطنية1، 2 وقناة هنبعل القريبة من سلطة بن علي. وأيضا القنوات المصرية النيل، الأولى، الثانية. لم تستطع مواصلة تشويه صورة الاحتجاجات حتى منتصف الثورة؛ فقدت جمهورها ومن الطبيعي أن انصرف عنها المشاهدين، غير أن جميعها ذهبت في الأيام الأخيرة للثورة إلى نقل ما يدور في الواقع على حقيقته؛ ومطاردة المشاهدين للحفاظ على شيء من المصداقية إن وجد. هذه مهمة أجهزة إعلام الأنظمة الدكتاتورية، ربما يقول أحدكم هكذا، ويضيف من الواضح أنها لن تحيد عن الخطة البرامجية القادمة من وزارة الداخلية، وجهاز الأمن الداخلي أو الأمن القومي. أقول بأن استدعاء تجارب هذه الأجهزة الإعلامية السلبية الساقطة، هو فقط من باب إيراد المقارنة الموضوعية بين مؤسسات سخرها الحكام لإنجازاتهم الوهمية؛ مبتعدين بها عن حياة المواطن وهمومه. والإنصاف للمحطات التي تؤدي رسالتها بطريقة مهنية من بعيد، ويظل يعول عليها الناس في أقصي الأرياف. ولهذا نشاهد الآن تخبط القائمين على قنوات تلفزيون صنعاء الرسمية، الفضائية اليمنية، يمانية، الإيمان وقناة سبأ، في تبني برامج مباشرة أو مسجلة؛ يستجدي المشرفون والمقدمون للبرامج آراء انتقادية؛ انتقامية ضد مسؤولين في وزارات ومؤسسات الكهرباء، الماء، القضاء، السياحة والتعليم وحياة النظام الاستبدادي برمته. فيما يأخذ المقدم كل الوقت في الاستمرار في تحريك رأسه تعبيرا عن الرضا والموافقة وراء كل كلمة يطلقها أو كل موقف يتبناه الضيف الذي أصلا تجري دعوته بناءا على مواقفه المعروفة بالمناوئة لهذا النظام مسبقا؛ واعترافا وتسليما بالحاجة الملحة، لكسب ود الجمهور أمام الشاشة. وتسجيل موقف المتلمس لهموم الناس في شاشة تلفزتهم الأولى والأخيرة، وببساطة على اعتبار كثير من القائمين على هذه الأجهزة الإعلامية وفي مقدمتهم وزير الإعلام اللوزي، أن اللحظة مواتية للإقلاع عن عادة التدليس المزمن، وأن العودة بالمشاهد إلى نقطة الصدق سهل ويمكن إحرازه، ولذلك تلتقط قناة سهيل الخاصة التي انتقدتها قبل عام بمقال لتأخرها عن المواكبة والآن تروقني قفزتها النوعية وهي التي لم يتجاوز عمرها ثلاث سنوات؛ استطاعت أن تنقل كل ما يجري من حراك في الشارع اليمني؛ وتكسب الجمهور بوقت قصير. ويتأكد ربما تصنيف قرب قناة السعيدة الخاصة من النظام، منضمة إلى قائمة قنواته الفاشلة حتى في الرقص؛ لكنها الخاسر الأكبر للجمهور؛ مع أنه ما تزال فرصتها متاحة بالانفتاح على ما يجري في ساحات المحتجين. ووسط كل ذلك يظل الملايين من المشاهدين اليمنيين بما فيهم الشباب؛ يتساءلون عن دور مراسلين القنوات والصحف الإخبارية العربية والأجنبية، وفي مقدمتها قناة الجزيرة، يطالبونها أن تلعب دورها الحقيقي المهني في نقل كل ما يدور في مختلف المدن اليمنية. كما لو أنها أمنا التي في قطر، تحن على الشباب والشعوب؛ تشارك في صناعة التغيير في تونس ومصر والآن في ليبيا، يجب أن تقوم بدورها الآن. لتعزز موقع رسالتها المهنية المتقدمة؛ في ظل انهيار المؤسسات الإعلامية التابعة للأنظمة الدكتاتورية في وجه هذه الثورة الشبابية المتلاحقة في مصر وتونس، وتليها ليبيا واليمن التي ما تزال تعمل المؤسسات الإعلامية الرسمية في المضاد للثورة المجلجلة. وترفض التخلي عن دورها الرئيسي في تخوين المحتجين ووصفهم بالمجرمين والمخربين والعملاء. رافضة مواكبة تطورات الأحداث التاريخية المنصفة للشعب كله؛ وما تلبث أن تتحول في تدرج لحظات سقوط الأنظمة إلى مهنة كاريكاتورية ساذجة غريبة عن مهنتنا وعن العصر، مهملة متكدسة في الترتيبات الأخيرة لقائمة المشاهد. واقعة في أزمة مستديمة لا يزال من الصعب التوقع متى ستخرج منها وكيف حتى تستطيع أن تلحق بالتحولات العميقة المتسارعة كل يوم. وهو على ما يبدو بمثابة الطريق الوحيدة للفرار من أقبية الأنظمة العسكرية، والعودة من غابة الأغبياء البعيدة التي أبقتها في قطيعة مع العمل الإعلامي المواكب الذكي. حتى نتأكد تماما أنها في تناقض مباشر مع الحس السليم، والعين المتابعة. نهار السبت سقط مصور قناة الجزيرة علي حسن الجابر شهيدا لكاميراته التي كان يعكس بعدستها ما ترتكبه كتائب نظام القذافي في حق الثوار الليبيين؛ وبعد أن نصب لطاقم الجزيرة بالقرب من مدينة بنغازي كميناً قاتلاً أودى بحياة الجابر قال زملائه الذين كانوا برفقته على السيارة إن ثلاث رصاص اخترقت صدره إحداها مزقت القلب، ففارق الحياة. وفي إحدى غارات الطيران الأمريكي في العراق 2003 يقتل طارق أيوب مراسل الجزيرة، وتذبح بأيدٍ غادره الصحفية أطوار بهجت التي عملت ضمن طاقم الجزيرة قبل أن تنتقل إلى قناة العربية لتستند مهنية الجزيرة بعد ذلك إلى شهداء تساقطوا ثمنا للخبر ومتابعته. من الواضح أن تفوق قناة مثل الجزيرة وغيرها كلفها الكثير، لكنه مكنها من كشف الأداء الرديء؛ وليس فقط في أجهزة إعلام الأنظمة الدكتاتورية في بلداننا. في الدول المتقدمة أيضا، مطلع الأسبوع كانت وزيرة الخارجية الأمريكية تقدم شهادة حية للجزيرة "إننا الآن في حال الحرب الإعلامية ونخسرها والجزيرة هي المتغلب"، قالت هيلاري كلينتون في خطاب في الكونغرس. في اعتراف واضح على تفرد الجزيرة وحضورها، كما أضافت: "والصينيون أنشئوا شبكة تلفزيونية عالمية تبث برامجها بلغات مختلفة وفتح الروس قناة ناطقة بالإنجليزية شاهدتها في عدد من الدول ووجدتها جديرة للاهتمام أما نفوذنا فيتقلص". لا يهم البعض ما تردده كلينتون حتى ولو كانت الجزيرة هي من انتزعت هذا الاعتراف، لأن أمريكا الآن -حد قولهم- هي بحاجة ملحة لقناة الجزيرة أن تستمر بنهجها في المنطقة. إن كان الأمر بهذه البساطة؛ ما الذي تضيفه شبكة الجزيرة الإخبارية إلى أرشيف دائرة الشرق الأوسط في ال سي أي آيه. لطالما والرؤساء والحكام العرب، ينفذون أوامر الإدارة الأمريكية فقط، بحسب تقارير ويكيليكس السرية؟ موقف الرئيس علي عبدالله صالح الأسبوع الفائت، في كلية الطب وهو يردد "أن أمريكا تمول المحتجين الشباب وإسرائيل تدير مظاهراتهم من غرفة في تل أبيب" كان واضحا، وكما إذاعة وسائل الإعلام في مقدمتهم تلفزيون صنعاء خبر شطحة اليوم الأول، عاودت اليوم الثاني إذاعة اعتذار الرئيس اليمني علي عبدالله صالح رسميا للولايات المتحدةالأمريكية، ولكن بشكل دبلوماسي مفضوح، بحسب مشاهدين. لا يهم الشق السياسي في الموضوع ومحاولات ربط الرئيس تحركات شباب الساحات المحتجين في مختلف محافظات البلاد بأمريكا وإسرائيل؛ ما يهم هو كيف أن الإعلام الرسمي ينساق خلف الشطحات ويتخبط على مقاس مزاج الحاكم، فيما يظل يعمل تحت اسم الفضائية اليمنية، ورسميا تعبر عن كل يمني بعينه. حتى في اختلاق قصص تبريرية للفشل؛ تتشابه الأنظمة الغبية في فبركتها وترويجها عبر شاشات التلفزيون. حدث ذلك بمرور أسبوعين من تدشين احتجاجات الثورة المصرية، بثت قناة المحور الخاصة المملوكة لعضو في الحزب الوطني مقابلة مع فتاة مموهة الوجه اعترفت "شيماء" كما سمتها القناة وهي تتحدث صوت وصورة أن ضميرها صحا متأثرة بخطاب الرئيس حسني مبارك "شعرت بأنه بابا، وأنا أقول له أنا آسفة يا بابا وما ينفعش بعد كل اللي عملوا أني أقوله اطلع برا"، لم ينطل مشهد شيماء مع معدي برنامج 48 ساعة على زملائهم الصحفيين الذين تعرفوا إلى صوتها، ما كلفها خسارتها الوظيفة في جريدة 24 ساعة. بدورها ابتلعت الفضائية المصرية المقلب، وظهر مذيع القناة المصرية متحمس وهو يقدم التقرير الذي يتحدث فيه أن ناشطة سياسية عبر البرنامج اتهمت فيه يهودا ب"تدريبهم مع شبان من جمعيات المجتمع المدني والإخوان المسلمين في واشنطن والدوحة لتنظيم تظاهرات ضد الحكم في مصر، وافتعال شغب ضد رموز النظام" مثل هذه المواقف الحصرية السرية والمعلنة؛ ما الذي يمكن لقنوات الأخبار أن تقدمه حتى تجد نفسها في قفص الاتهام مسيجة بكل المواقف الجاهزة؟ إنها المفارقة التي لا يدركها قصيرو النظر في مهنة المتاعب. بين أن تخضع وسيلة مهنية تساند في صناعة ثورة لمعايير شخصية، وبين تكريس الأنظمة خطر بقاء المشاهد داخل صندوق تلفزيون السلطة المظلم؛ معزولا عن العالم، كضحية لفبركات الوهم. ويسعى القائمون على مطابخها الآن؛ محاولة حلحلة الثقة المهزوزة لدى الناس. إن المشاهد العربي بشكل عام واليمني على وجه التحديد؛ يمر هذه الأيام بمرحلة مخاض كبير يجسدها هذا الانفتاح للتلفزيونات الرسمية واللهث المتبادل بينه وأجهزة إعلام السلطة. بعد أن كان مصهر، يضع فيه كمشاهد مغلوب على أمره ومنجزات الحاكم الوهمية العملاقة مع بعض. ويخرج الصهر منذ ثلاثين سنة اليوم وبنفس العجينة. من يشاهد بعض فضائيات الإعلام العربي يدرك استمرارية عبث آلة المكيدة ضد المحتجين والمشاهدين في مختلف الدول التي ما تزال تتراوح في قبضة الأغبياء والعسكر. كما بات يميز وضع مؤسسات الإعلام في مصر وتونس على إثر قيام الثورات المخلصة.