قبل أن تبدأ الحرب في صعدة بساعات، كانت هناك أخبار عن رعاية مصرية سعودية تحت مظلة الجامعة العربية، لمحادثات سرية بين فرقاء العمل السياسي في اليمن بمن فيهم الذين يدعون إلى ما يسمى "فك الارتباط". خلال ذلك، كنت أقرأ بعض مذكرات الراحل عبد الله بن حسين الأحمر، عن المحادثات السعودية المصرية بشأن حرب الملكيين والجمهوريين قبل إجراء المصالحة في العام 1970.. وما كان يتردد قبل ذلك بخمس سنوات في مؤتمر حرض من ضرورة "إنهاء الماضي المظلم والحاضر الدامي".. حسناً، ما الداعي لذكر ذلك؟ يمكن اليوم أن نكرر نفس الكلام عن ضرورة إنهاء الماضي المظلم خلال سنوات ما بعد العام 1994، والحاضر الدامي المتجسد في حرب صعدة وقتلى الحراك.. وخلال ذلك يمكن ملاحظة المخاوف الخليجية والهواجس العربية من انهيار الأوضاع في اليمن إلى ما هو أسوأ من الآن، وما يمكن أن يجره هذا الأسوأ من مخاطر حقيقية، ليس على الوطن فقط، بل وعلى دول الخليج أيضاً. هذا الكلام يتردد الآن على لسان الكثيرين في اليمن في السلطة والمعارضة، ويمكن تلمس أصداء المخاوف نفسها في افتتاحيات الصحف الخليجية، أو الدراسات التي تجريها مراكز البحوث لدى جيراننا الخليجيين.
تقرير مركز الإمارات للدراسات الاستراتيجية مثلاً، الذي أشار في نشرة "أخبار الساعة" التي يصدرها المركز وتناوله "المصدر أون لاين" إلى مهددات أربعة يواجهها الاستقرار في اليمن وهي: المواجهات المسلحة بين القوات الحكومية والحوثيين في الشمال، وتنامي الدعوات الانفصالية في الجنوب، وعودة تنظيم القاعدة إلى الواجهة، ثم الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها اليمن في شماله وجنوبه وشرقه وغربه. وفي تقرير آخر يقول المركز "إن انهيار الدولة في اليمن يشكّل خطراً يتهدّد دول المنطقة والدول كلها التي تعتمد على واردات النفط التي تمر عبر باب المندب وخليج عدن. كما إن انهيار الدولة يعني ازدياد نشاط الإرهاب العابر للحدود، فضلاً عن استخدام الجماعات المتطرفة لليمن كقاعدة للإرهاب البحري".
ما ذكره التقرير لا يغيب عن أذهان المسؤولين الخليجيين الذين يتابعون ويراقبون ما يجري في قلق، وقد سمعت من مسؤلين رسميين في دولة الإمارات ما يعكس قلقهم ذلك. وعلى ضوء ذلك يمكن فهم مشكلة استخراج أذونات الدخول (الفيزا) ليمنيين من دوائر الجنسية والإقامة في الإمارات، والأخبار التي تأتي من الجارة المملكة تفيد بأن السعوديين يعتزمون إقامة سور على طول الحدود اليمنية السعودية. هم يفعلون ذلك خوفاً من عودة تنظيم القاعدة إلى المملكة من الجار اليمن، ويمكن للقارئ أن يرجع إلى بعض الصحف والكتاب الخليجيين ليدرك مدى قلق الجيران من الذي يجري في اليمن.
كنت، ولا زلت، أعتقد بأن حل مشكلات البلد يأتي دائماً من الداخل، لكن العودة إلى قراءة التاريخ اليمني المعاصر والقديم، وما كنت استعدته في هذه الزاوية على لسان المرحوم حميد شحرة عن العقدة اليزنية، لا يساعدني على الاستمرار في التمسك بهذا المعتقد، على الأقل في الوقت الحالي، ويمكن القول دون مواربة إن رجال السياسة في البلد لا يستطيعون أن يجتمعوا "ويسدّوا من صدق".. لأن الثقة مهزوزة بين كافة الأطراف، ولا أحد يضمن الذهاب إلى المفاوضات أو الحوار وعنده القليل من القناعة بتحقيق ما يمكن الاتفاق عليه.
دعوني أخلص من الكلام السابق إلى قول الآتي: الخليجيون قلقون ولديهم حاجة حقيقية في استقرار اليمن، واليمنيون مختلفون فيما بينهم ولديهم رغبة ملحة في مواجهة التحديات الأربعة التي ذكرها تقرير مركز الإمارات، ويحتاجون (المعارضة بالذات) إلى طرف آخر يمثل ورقة ضمان لتحقيق ما يمكن أن يخرج به أي حوار يجمع اليمنيين. ولا يوجد من يقوم بهذا الدور أفضل من الخليجيين، ويبدو أن الوقت الآن مناسب تماماً لكي يلتقي الخليجيون واليمنيون حول هذه الاحتياجات التي تجمعهم، وإن اجتمعوا فهم قادرون على الخروج رابحين من أي صيغة قد تجمعهم ببعضهم.
سأوضح ذلك بالتالي: ترتب السعودية بمشاورة بقية دول مجلس التعاون، عقد لقاءات مع كل الأطراف اليمنية "سلطة ومعارضة"، وتضع تصورات للحل مستلهمة ومقاربة لمبادرات الحل المقدمة من المشترك أو غيره، شرط أن تراعي مطالب الحراك والحوثيين، وتبدأ في وضع نقاط الحل واحدة تلو الأخرى بمشاركة كل الشخصيات المؤثرة والفاعلة على الساحة اليمنية.. ثم يتم الإعلان عن ذلك في مؤتمر كبير يشهده كل فرقاء العمل السياسي في اليمن وترعاه الدول الخليجية وجامعة الدول العربية.
أقول هذا الكلام، وأنا أتصور إمكانية نجاحه وتحقيقه، لأسباب عدة، منها أن العلاقة السعودية اليمنية الرسمية في أحسن أحوالها في الوقت الحالي، وجزء كبير من المعارضة أو مؤتمر الحوار الوطني تربطهم علاقات جيدة بالمملكة، ويمكن أن يلعب الشيخ حميد الأحمر دوراً في تمتين تلك العلاقة، ثم إن جزءاً كبيراً من قيادات الحراك لها ارتباطات معينة بشخصيات سعودية ويمنية فاعلة داخل المملكة، المهندس حيدر أبو بكر العطاس مثلاً.. أما الحوثيون فمهما تكن خلافاتهم مع المملكة فلن يتركوا الجميع يذهبون إلى مؤتمر للمصالحة دون أن يكون لهم نصيب فيها.
الأهم من ذلك أن السعودية مع دول الخليج يملكون أدوات مهمة في إنجاح هذا المسعى إن كانوا راغبين وجادين فيه، وأهم تلك الأدوات العامل الاقتصادي بما فيه موضوع العمالة اليمنية، ويمكن الحديث أثناء مؤتمر من هذا النوع عن "مشروع مارشال" الخليجي لدعم الاقتصاد اليمني، أو أي صيغة أخرى يمكنها أن تعيد أو ترتب ما لم يكتمل في مؤتمر المانحين الذي عقد في لندن.
يبقى القول إن عقد مؤتمر من هذا النوع لا يعني طبعاً انتهاء الأزمات اليمنية بل يضع الخطوط العريضة للحل، الذي هو في نهاية المطاف بيد اليمنيين أنفسهم، وأتصور أن أي مشروع للحل لا بد أن يتضمن برنامجاً زمنياً لإعادة ترتيب النظام الانتخابي، وتصوراً واضحاً لشكل الإدارة المحلية، وكيفية شغل الوظائف العليا في الدولة، وما إلى ذلك من النقاط الجوهرية التي قادنا الخلاف حولها إلى ما نحن عليه اليوم. لكن يظل عقد مؤتمر من هذا النوع، مجرد تخمين إيجابي للمخرج الذي يغادر منه اليمنيون أزماتهم الحالية الخانقة، أو مجرد أمنية شخصية بالنسبة لي، خاصة مع دخول الشهر الكريم الذي شهد عودة الروح إلى العلاقات اليمنية السعودية بعد التوقيع على مذكرة التفاهم بين البلدين قبل 15 عاماً تقريباً.