كان يعتزم استئناف العمل لإتمام منزله ببناء السقف لكن أطقماً عسكرية تابعة لأمن كلية الدفاع والطيران داهمته صبيحة ذلك اليوم وأخذته إلى مكتب مدير استخبارات وأمن الكلية ليتفاهم معه. المدير رأى أن السجن هو ما يستحقه المزلم لا التفاهم. لم يقترف جرماً بحق الكلية ومنتسبيها إلا أن مدير استخبارات وأمن الكلية يرى أن مجرد وجود المواطن مهدي المزلم وغيره بجوار الكلية يهدد أمن واستقرار الوطن، فرأى أن من واجبه الحيلولة دون تمكين المزلم من إتمام بناء منزله الشعبي ليستقر فيه بعد سنوات من الكد والمعاناة. وعلى الرغم من اتفاق سابق بين المزلم وإدارة أمن الكلية حول كل التفاصيل المتعلقة بالمسافة الفاصلة عن سور الكلية أو حجم الجدار الساند الذي ينبغي للمواطن بناءه لحماية منزله من صخور مهددة بالتساقط على المنزل، إلا أن شيئا من ذلك لا يستحق الإلتزام به ما دامت قيادة الكلية قادرة على العبث بحياة ومصائر من رمت بهم الأقدار إلى جوارها. كان على المزلم – معلم مادة الجغرافيا في مدرسة الرحمة – أن يقضي أربعة أيام في سجن الكلية لم يذق مثلها طوال حياته. سجن بجانب أكثر من عشرة أفراد في زنزانة لا تتعدى مساحتها 3 في 4 متر، ومنع أولاده ومعارفه من زيارته، لا مكان ليقضي حاجته، وبعد أن ضاقت به الحيل وظن أن إدارة الكلية قررت حبسه حتى الموت كتب شكواه في شال كان يرتديه ورمى بالشال لولده الذي سمح له السجانون بالاقتراب من شباك الزنزانة في نهاية اليوم الثالث شرح فيها حالته. بعد نهاية اليوم الرابع علم عاقل الحارة بالأمر عبر "الشال" وكتب التزاماً خطياً على جاره، وتمكن المزلم بذلك الالتزام وبصراخه المتواصل وطرقاته المستمرة على باب الزنزانة أن يجبر سجانيه على الإفراج عنه. لم نعد بحاجة لقراءة الشكوى المكتوبة على الشال فقد وصل المزلم إلى الصحيفة ليروي قصته بنفسه.. مأساة أن يتبول السجناء في قوارير ويتغوطون في علاقيات أمام بعضهم لم تبارح مخيلة معلم الجغرافيا وأكبر منها أنه لم يستطع أن يعمل مثلهم على اعتبار أن ذلك بالنسبة لهم مجرد تصرف عسكري. ولم يتمكن من عمل شيء من ذلك إلا في اليوم الرابع بعد أن أخليت الزنزانة من جميع النزلاء وبقي فيها وحده. خرج ليبحث عن طبيب يخلصه من آلام سببتها له هذه المعاناة، فأخبره الطبيب أن عنده بداية باسور بسبب بقائه لعدة أيام دون قضاء الحاجة. مأساة مهدي – أب لعشرة من الأبناء- لم تنته، ولم يكن السجن بالطبع بدايتها. عام 97م وكان عليه أن يبدأ محطة جديدة من حياته حين اشترى أرضاً بمساحة لبنتين ونصف بجوار كلية الدفاع والطيران ليبني عليها بيتاً يؤويه وأسرته. بعد ذلك حددت الكلية أن على المواطنين الابتعاد عن جدار الكلية مسافة عشرة أمتار، وعلى ضوء ذلك، بنى المزلم منزله الصغير وسكن فيه عام 1999م، لم يتعرض هو وغيره من جيران الكلية لأي من المضايقات في عهد القشيبي العميد السابق للكلية كما يؤكد. عام 2000م عين العميد حمود الشيخ عميداً لكلية الدفاع والطيران، فكان على سكان حارة الكلية أن يهيئوا أنفسهم لبدء عهد جديد يكونون فيه أكثر تحملاً وتقبلاً لكل ما سيواجهونه من مشقة. وكان للمعلم مهدي منها النصيب الأكبر، فبعد سلسلة طويلة من التهديد والوعيد والسجن والملاحقة أقدم من يفضل مهدي تسميتهم ب"حماة الوطن" على هدم المنزل في 2004م. ورغم مرور خمس سنوات على هذه الحادثة إلا أن مهدي يرويها بكل تفاصيلها. كيف يمكنه أن ينسى تلك الليلة التاريخية، فبمجرد دخول مهدي إلى منزله ليلة عيد الفطر طوق أفراد من الكلية منزله يطالبونه بتسليم نفسه، لكنه ظل في المنزل ورفض الخروج. يعلل مهدي ذلك بالقول " كنت ذاك الوقت مشرد من بيتي من فترة طويلة سافرت إلى سنحان للاستنجاد بأحد المشائخ من رعيته في قيادة الكلية وقيادة القوات الجوية، وفور عودتي من سنحان بلغ بي أحد الجيران إلى الكلية أني موجود، وصلت البيت أكلم الزوجة من الباب وهي تقول لي ان مافيش مع الأولاد شي للعيد وان قد العسكر محاصرين البيت. أنا رفضت أخرج، قلت لهم ما نش قاتل ولا سارق، تشتوا تحبسوني وتهدموا بيتي. هم على طول أخذوا العتلات والحديد ويهدموا البيت. اتصلت للجيران والمعاريف جاؤوا لكن بعد ما قد العسكر استكملوا هدم غرفة". ومنذ تلك اللحظة تعيش الأسرة رعباً متواصلاً فأي صوت يسمعونه يتعقدون أن فؤوس "حماة الوطن" تدك جدار منزلهم. اتجه مهدي إلى النائب العام وحصل منه على توجيه إلى رئيس نيابة شمال الأمانة فوجد من هناك رداً مفاده "احنا سلطتنا أكثر شي على مساعد إذا هو بدون بندق"، وحولوه إلى نيابة غرب لكنه وجد تهرباً من وكيل النيابة، ليكتشف مهدي بعد ذلك أن وكيل النيابة حينها عنده أرضية في نفس المكان ولا يسعه إلا الحفاظ عليها فظل يماطل دون أن يتخذ أي إجراء، وعند حصول حركة قضائية نقل وكيل النيابة إلى مكان آخر فصارح مهدي بالأمر وأخبره بأنه لن يفيده بشيء وأنه لو اتخذ أي إجراء سيجلب الضرر على نفسه ويخسر أرضيته. سنة تأتي وأخرى تذهب ومهدي وأسرته يعيشون رعباً متواصلاً لم يبق مهدي خلال هذا الوقت كله وسيلة إلا وطرقها لتدرأ عنه هذا الشبح المخيف. وبحكم أنه تربوي كان أمامه أن يستعين بالنقابة التي ينتمي إليها. لم تقصر معه نقابة المعلمين إذ وجهت عدداً من المذكرات إلى كل من وزير الدفاع السابق عبدالله علي عليوه، وقائد القوات الجوية، وأمين العاصمة، ورئاسة الجمهورية، بشأن قضية مهدي، لكن قيادة القوات الجوية وكلية الدفاع والطيران كانتا بمثابة المغارة التي تضيع فيها كل التوجيهات والأوامر – بحسب مهدي الذي قال إنه ظل يتابع أحد الأوامر هناك لمدة سنة وثلاثة أشهر دون فائدة. يواصل مهدي سرد نضاله الطويل: "وصلت قضيتي إلى الرئاسة أكثر من ست مرات، ووجهوا مذكرات إلى وزارة الدفاع ومنها إلى قائد القوات الجوية، وهناك تضيع كما هو الحال كل مرة". ولأنه طوال هذه الفترة يظل مهدداً بهدم ما تبقى من البيت على رؤوس ساكنيه وممنوعاً من إتمام البناء أو إعادة إعمار ما تم تخريبه فإنه يظل كل يوم ينهي حصة الجغرافيا لطلابه على عجل ثم ينطلق ليواصل بحثه عن العدالة ويتعرض في كل محطة لانتهاكات وإهانات يبدي صلابة أكبر في مواجهتها، فهو يذكر -والابتسامة بادية عليه- أنه خاطر بحياته وحاول اعتراض موكب الرئيس أكثر من مرة: "قبل الانتخابات الرئاسية الماضية ظليت في باب دار الرئاسة أسبوع، وبعد الانتخابات قضيت شهر رمضان كامل مرابطا على باب الرئاسة أرقب الرئيس وقت الدخول ووقت الخروج أرفض الانصراف كما يطالبني العسكر باستمرار". ويحكي قصة اعتراضه لموكب رئيس الجمهورية أمام بوابة الرئاسة بعد أن أرهقه الوقوف هناك لم يعد الموت يخيفه كثيراً إذ يعتقد أن ما يتعرض له ليس سوى الموت البطيء على يد قيادة كلية الدفاع والطيران وقيادة القوات الجوية: "يوم ما كان الرئيس رايح يؤدي اليمين الدستورية في مجلس النواب بعد الانتخابات رفعت صور ملفي ولوحة ملصق عليها صور الجنود وهم يهدموا بيتي وحاولت اعتراض موكب الرئيس لكن لما اقتربت من منطقة الخطر دعاني أحد العسكر "يا ريمي روّح"، شفت إلى عنده وانه هو وكل زملاؤه موجهين بنادقهم عليا، عدت إلى مكاني وظليت رافع الصور حتى غادر الرئيس". مرهقاً كفارس يخوض معركة طويلة وغير منتهية يحكي قصته. وما يرويه منها ليس سوى أبرز المحطات التي يمكن للمتلقي سماعها واستيعاب ما تيسر منها، يعبر مهدي عن ثقته بأن كل من التقاهم من المسؤولين مقتنعون بعدالة قضيته التي لا تتعدى طموحه في منزل يؤويه مع أسرته باستثناء قيادة القوات الجوية وقيادة كلية الدفاع والطيران، ويشير إلى أن أوامر الرئاسة ووزارة الدفاع تضيع هناك لأن هذه الثلاثة الأطراف جميعهم من سنحان وكل واحد منهم يعتبر نفسه أكبر من الثاني دون النظر إلى التراتبية الإدارية.. قد لا يكون مهدي محقاً 100% في تفسيره هذا، لكن الرجل أصبحت لديه عقدة ممن يسميهم "أصحاب سنحان"، حيث يقول أن من كان يتعمد إهانته في باب الرئاسة هو ضابط من سنحان يدعى المحاقري، ومن سبب له هذا الرعب هو حمود الشيخ عميد كلية الدفاع والطيران من سنحان أيضا، وكذلك ضابط آخر يدعى المحاقري كان قائد كتيبة في الكلية تسبب له في كثير من المتاعب. اتجه مهدي بعدها إلى مجلس النواب لعله يجد فائدة من هناك، وبعد أن أقنع عدداً من النواب بعدالة قضيته وأوصل شكوى مذيلة بمئات التوقيعات من أهالي حارة كلية الدفاع والطيران يشكون فيها التعسف والابتزاز الذي يمارس ضدهم من قيادة الكلية، شكل المجلس لجنة للتحقيق في الموضوع وأكدت أن المواطن قد بنى على بعد عشرة أمتار من الكلية بحسب الاتفاق مع مدير أمن واستخبارات الكلية العميد علي مظفر والموثق خطيا. كما أكدت اللجنة البرلمانية أنها وجدت آثار هدم غرفتين من منزل المواطن المذكور وسور كان بناه للحماية من تساقط الصخور. وأفادت اللجنة أن عميد الكلية أنكر تماماً أن يكون أفراده أو أياً من منتسبي الكلية قد هدموا المنزل. اللجنة البرلمانية لم يفتها الإشارة إلى أن عميد الكلية قد استقبلها استقبالاً حسناً، وبالتالي فقد طالبت المواطن بإثبات هدم أفراد الكلية لمنزله بالرغم أن ذلك تم على مرأى ومسمع المئات من سكان الحارة. يقول مهدي أنه تلقى تهديدات من عميد الكلية بهدم منزله تماماً إذا لم يكف عن المطالبة بالتعويض عن الخسائر التي لحقت به، وهو ما أكده مضمون تقرير اللجنة البرلمانية التي قالت إنها عجزت حتى عن إقناع عميد الكلية باسترضاء المواطن بكلمة طيبة دون التعويض المالي. لم تمض أيام حتى فوجئ المواطن بحملة هدم ينفذها جنود الكلية ضد منزله وهي عملية الهدم الثانية التي يهدم فيها جزء من منزله. يصاب سامع القصة وكاتبها بالإرهاق قبل أن تصل إلى القارئ وقبل أن تصل حتى إلى جولة الهدم الثالثة التي تبعها سجن ورحلة يومية يقضيها مهدي بين مدرسته ورئاسة الجمهورية أو قيادة القوات الجوية والكلية و....و....و.... الخ! كيف يمكن لمهدي أن يشرح لتلاميذه دروسا في الوطنية وهو يعيش كل هذه المأساة دون أن يجد في هذا الوطن منزلاً يضمه أو مؤسسة تؤمن حياته وحياة أطفاله المصابين بأمراض نفسية جراء وقوعهم تحت هذا الرعب المتواصل.