على طريقة (الخطة ب)، يُكرس النظام الصالحي المتداعي أدواته وجهوده في سبيل استدراج الثورة السلمية بأجنحتها السياسية والعسكرية الى ملاعب أخرى –غير الملعب السلمي- بهدف خلط الاوراق وتخليق احداث استثنائية تمنحه القدرة على اجراء ترتيبات جزئية تعزز موقفه التفاوضي الموغل في الصعوبة. لجوء النظام لإعتماد ما نسميه مجازاً (الخطة ب) ربما لم يكن ليحدث لو ان (الخطة أ) التي تتضمن احداث تباينات بين شباب الثورة والقيادات العسكرية المنضوية في النسيج الثوري، حققت أدنى مستويات النجاح المأمول. لقد أدرك النظام ان تكتيكاته الرامية الى زعزعة الوحدة الثورية بين الشباب وتلك القيادات لم تعد تجدي نفعاً، وهو ما جعله يتجه لإعتماد بدائل تكتيكية تكفل تحقيق غايات فرعية بصورة تعوض غاياته الرئيسية التي عانقت مرارة الاخفاق ووجدت طريقاً معبداً لها نحو الفشل.
الاستخدام المفرط للعنف ضد ثوار تعز الابطال بموازاة السعي لاستهداف حياة الجنرال علي محسن صالح، عنوانان يكشفان طبيعة وتفاصيل البدائل الصالحية للتعاطي الثورة الشبابية السلمية المتقدة.
حصر الصراع في صنعاء تحت اكليشة (افقاد الثورة سلميتها) تندرج غايات اخرى –غير ظاهرة- يتطلع النظام الى تحقيقها. انه يسعى جاهداً لحصر الصراع في العاصمة صنعاء عبر الاستخدام الهمجي للقوة في تعز كبروفة عنف أولى لبروفات اخرى في باقي المحافظات.
يظن النظام آثماً ان انهاء الاعتصامات في المحافظات اكثر سهولة ويسراً من انهائه في العاصمة، ويعتقد مخطئاً ان نجاح هذه الغاية سيمنحه القدرة على التفرغ للاعتصام الرئيسي وحشد الطاقات لمواجهته واحتوائه. انكساراته المتتالية في صنعاء، بقدر ما افقدته كثيراً من نقاط قوته، فانها –بالقدر ذاته- دفعته لسفك دماء الاحرار في تعز وأبين بهدف تعويض تلك الانكسارات وتحقيق بطولات ذات طابع سادي ودموي.
في تعز، فقد النظام رغبة الانتشاء وصناعة النصر الزائف، لقد زلزل الصمود الاسطوري للصدور العارية معنوياته وأذاقة مرارة انكسار جديد يضاف الى لستة الانكسارات التي الحقتها ثورة الشباب المجيدة ببنيانه المتداعي.
تصادم عسكري قابل للاحتواء مرارة الاخفاق السلطوي في تعز رغم ما احدثته من تصدعات وهزائم، الا انها لم تفت عضد النظام المتشبث بالعرش المتعطش لسفك الدماء، إذ لم يلبث مخططه الرامي الى افقاد الثورة سلميتها ان استأنف نشاطه في العاصمة بمحاولة الاغتيال الآثمة التي طالت قائد الجناح العسكري للثورة الجنرال علي محسن صالح وعدد من مشائخ سنحان.
في صنعاء ايضاً، ثمة حضور للغايات الغير ظاهرة ضمن المخطط العام الذي يستهدف سلمية الثورة. بوسعنا الادعاء هنا –استناداً لمعطيات ومؤشرات عديدة- ان النظام يحاول تخليق مسببات تمنحه امتياز تنفيذ جولة سريعة من التصادم العسكري المحسوب والخاضع للاحتواء، غير انه –في الوقت عينه- يحاول اخفاء اي بصمات او لمسات يمكن ان تُظهره كقارعٍ لطبول الحرب.
ثمة ارتباط مصيري بين نجاح التصادم العسكري في تحقيق غايات النظام من جهة، والحرص على عدم ظهوره –اي النظام- كمسبب لذلك التصادم من جهة اخرى. على طريقة (دعونا نتلقى الضربة الاولى) يريد النظام لسيناريو التصادم ان ينشأ بصورة تجعله يبدو في موقف دفاعي يجيز له وصم الثورة بالعمل الانقلابي.
تحسين الوضع التفاوضي سيناريو التصادم العسكري بقدر ما يبدو فعلاً انتحارياً لنظام يعاني عزلة دولية ما انفكت تتسع بالتقادم، غير انه من وجهة نظر النظام يبدو خياراً اضطرارياً وشراً مستطيراً وارد الحدوث. وفق راهن الحسابات، بات النظام يجابه عزلة دولية واقليمية، ساهمت الاحداث الدامية في تعز بصنعها، لدرجة ان التنحي لم يعد مطلباً ثورياً فحسب اذ اضحى مطلباً اقليمياً ودولياً.
رهانات النظام –داخلياً وخارجياً- هي الاخرى ما برحت تلاقي مآل الخذلان، وهو ما تسبب في حشر النظام بين فكي كماشة الاحتجاجات الداخلية والضغوطات الخارجية. وبما ان التشبث بالعرش لازال هو الفعل المُهيمن والموجه الاساسي لمسار التفاعلات السلطوية مع تطورات الاحداث، فان التصادم العسكري خيار يسعى النظام لتكريسه رغم ادراكه المسبق لنتائجة الكارثية.
يدرك النظام ان التصادم العسكري يمكن ان يُعجل بمصير سقوطه اللائح، لكنه بالمقابل يأمل في احداث تصادم محسوب وخاضع للسيطرة يمكنه من انجاز غايته المستعصية المتمثلة في تحسين وضعه التفاوضي ووصم الثورة بالانقلاب العسكري.
التجاوب مع مصائد المواجهة لايريد النظام ان يكون بادئاً في اللجوء لخيار التصادم العسكري، ولأنه يدرك –في الوقت عينه- استحالة ان تكون الألوية العسكرية للثورة هي البادئة، لذا فاللجوء للتكتيكات الاستدراجية يبدو خيار النظام الوحيد لتحقيق غاياته. ان كانت تحركات الحرس الجمهوري الرئاسي وتحرشات الامن المركزي بالفرقة الاولى مدرع تجسد ابرز الوسائل الحاثة على التصادم، فإن محاولة اغتيال الجنرال محسن تعد تتويجاً بائناً لتلك الوسائل وقرعاً صاخباً لأجراس الانذار ودفعاً ذكياً نحو خيارات التصادم والمواجهة.
خلف اسوار المعسكرات هنالك تحركات لاتبدو ظاهرة للعيان، فبينما لازالت ألوية الفرقة الاولى محافظة على تموضعاتها الدفاعية، بات مؤكداً ان ألوية الحرس الجمهوري الرئاسي تتخذ من الاوضاع الهجومية تموضعاً رئيسياً لتحركاتها، ليس هذا فحسب، فالمعلومات المتواترة تشير الى قيام بعض معسكرات الحرس بتوجيه راجمات الصواريخ صوب ألوية الفرقة الاولى مدرع، كما ان مخزون الاسلحة الخفيفة في الحرس خضع لطائلة التوزيع المُمنهج دون علم او توجيه من وزارة الدفاع ورئاسة هيئة الاركان العامة.
رغم كل هذا، تظل احتمالات التصادم العسكري مرتبطة بمدى تجاوب قوات الثورة مع مصائد الاستدراج السلطوية، وهو ما يعني ان الثورة ستظل قادرة –رغم كل المؤامرات- على الاحتفاظ بسلميتها بصورة تدفع النظام (ان كان مصراً على الخيار العسكري) ليكون البادئ في المواجهة، وبالتالي مضاعفة عزلته الدولية والاقليمية بموازاة القضاء على ممكنات خروجه الآمن التي باتت تتضاءل تدريجياً.
وساطة سنحان ماتت قبل ان تبدأ الدفع باتجاه التصادم العسكري، لايبدو غاية النظام الوحيدة من مؤامرة اغتيال الجنرال محسن، فهنالك غايات اخرى تهدف الى استحداث ملعب قبلي للصراع الدائر بين الثورة والنظام. حين نحاول استرجاع (التفاصيل الظاهرة) لمخطط اغتيال الجنرال، ثمة ما يحفز على الاستيقاف مطولاً.
فكرة الوساطة، من حيث المبدأ، تبدو غير منطقية لتعليلات أربعة، اولها: الكثافة البشرية للوفد الوسيط، ثانيها: عدم وجود مبادرة لدى الوفد، ثالثها: الاصرار على خروج الجنرال محسن الى بوابة المعسكر، رابعها: انعدام التنسيق المسبق.
لو كان المشائخ –كتعليل اول- يريدون تأديه دور الوسيط بين (العليين) بهدف تقريب وجهات النظر، فلماذا جاوؤا الى الجنرال بتلك الكثرة العددية؟ الم يكن وجود الروؤس البارزة –في لقاء رفيع المستوى كهذا- كافياً ومؤدياً لغرض السرية ومحققاً لغاية النجاح؟
امعاناً في الايضاح هنا، الوفد لم يأت للتحكيم القبلي، بقدر ما جاء في مهمة بالغة الحساسية والخطورة ألا وهي الوساطة بين (العليين)، وبالتالي فالحشد البشري المرافق للوفد يتعارض مع غاية الوساطة بالتوازي مع تجسيده لدور العائق والحائل دون نجاحها.
لم يكن الوفد –كتعليل ثاني- يملك اي مبادرة شاملة او رؤية عامة لاحتواء الموقف، اي ان وساطته ذات طابع شخصي بين (العليين) وهو ما يعني انها ولدت ميتة وفشلت قبل ان تبدأ.
الاصرار على خروج محسن الى بوابة المعسكر –كتعليل ثالث- يبدو باعثاً على الشكوك لسببين، الاول: ان وفد الوساطة ليس غريباً على الجنرال كي يصر على خروجه لاستقبال الوفد، فأحد الوسطاء شقيق للرجل والآخرون اصدقاء ورفاق سلاح، وبالتالي ما الداعي لخروج الرجل إليهم؟ والثاني: ان الوسطاء في الاعراف القبلية يذهبون الى اطراف الخلاف وليس العكس، وهو ما يعني ان (فكرة خروج محسن) بحد ذاتها تتعارض مع موجبات الوساطة. انعدام التنسيق –كتعليل رابع- امر يضعضع فكرة الوساطة، فالوفد الذي يضم محمد محسن صالح (شقيق الجنرال) وعلي مقصع والشيخ قناف الضنين شقيق القائد العسكري صالح الضنين واحمد اسماعيل ابو حورية –حسب مصادر متطابقة- فرغ من لقاءه مع الرئيس صالح في تمام الحادية عشر ظهراً، ليتجه مباشرةً من دار الرئاسة الى معسكر الفرقة الاولى مدرع دون تنسيق مسبق يساهم في انجاح فكرة الوساطة.
يبدو واضحاً ان الوفد لم يكن على دراية بالتكتيكات والغايات الرئاسية من دفعه للقاء الجنرال في موكب يضم المئات، بالتالي في وسعنا الادعاء ان الرئيس استخدم مشائخ ورؤوس سنحان كجزء رئيسي من مخطط دموي على طريقة (الطعم).
تفتيت قبيلة سنحان بالاستناد الى آنف التعليلات وفائت الاسطر، يمكننا تجزئة اهداف محاولة الاغتيال الى مسارين، اولهما: اهداف رئيسية، وثانيهما: اهداف فرعية.
ان كان التصادم العسكري واستدراج الثورة الى المربع العنفي يُجسد اولى الاهداف الرئيسية، فان اغتيال الجنرال علي محسن محسن وشقيقه محمد ومشائخ سنحان يُشكل ثاني الاهداف الرئيسية على طريقة (قنص عدة عصافير بحجر واحدة..!) في مسار الاهداف الفرعية، يمكن القول ان احداث انشقاقات وخلافات في الاوساط السنحانية يعد ابرز تلك الاهداف.
فالجنرال محسن، يحظى بنفوذ استثنائي بين رؤوس القبيلة يتجاوز نفوذ الرئيس بفواصل ميلية، وتحركاته الاخيرة المُساندة للثورة تجد رواجاً لافتاً وبالاخص لدى الجيل السنحاني الثاني، وبالتالي فسيناريو الخداع الذي اتصفت به محاولة الاغتيال كان يستهدف عزل الجنرال قبلياً بموازة تحجيم نفوذه الواسع في سنحان وارهاقة في صراعات وخلافات (سنحانية- سنحانية) تثنيه عن الاضطلاع بأدواره الثورية الهامة كقائد لجناح الثورة العسكري.
كما ان استهداف رؤوس سنحان وتحديداً شقيق الجنرال يحمل دلالة اخرى، إذ ان نجاح المخطط في اغتيال الجميع مثلاً، سيعني عدم وجود من يفكر بالثأر للجنرال المغدور.
وماذا بعد يستميت الحاكم ورجال بلاطه من الأبناء والاتباع في التمسك بعرش سلطوي حافل بتصدعات ما قبل الانهيار الوشيك. لايبدو ان استماتتهم تلك ستكتفي بالمسفوك من الدماء حتى اللحظة والمكشوف من المؤامرات والمفضوح من التحركات. مسار الاحداث بقدر ما يبدو مترعاً بالتفاؤل بالنسبة للثوار، فانة –بالقدر ذاته- يُنبئ عن تدابير سلطوية اكثر قتامةً وسوداوية.
ان كانت التحركات السلطوية تستهدف استدراج الثورة الى زوايا العنف ومربعات التصادم واخراجها من ملعبها السلمي الى ملاعب اخرى عنفية، فيتعين على الثورة ورجالها تفويت فرص كهذه والتشبث بالخيارات السلمية بصورة توازي تشبث الحاكم بالخيارات العنفية.
في الوعي الجمعي الثوري، ثمة ايمان بوجود ارتباط مصيري بين سلمية الثورة من جهة وتحقيق اهدافها من جهة اخرى، وعليه يجب ان تحافظ الثورة على طابعها السلمي مهما كانت التحديات الرامية الى استدراجها صوب ملاعب قبلية او عسكرية او عنفية. محاولة اغتيال الجنرال علي محسن صالح بقدر ما تُجسد نقطة استفزاز كبرى له ولرجاله من ضباط الجيش، فانها بالقدر عينه تشكل فخاً للتلاعب بحكمته وجرجرته الى مربع الثأر والتصادم العسكري.
هنا لست اشكك في قدرات الرجل على احتواء الموقف ومعالجته بالحكمة، غير ان عدم التشكيك بالمقابل لا يحول دون التأكيد على ضرورة التحلي بضبط النفس ان لم يكن بالنسبة للجنرال نفسه، فبالنسبة لرجاله من ضباط وصف وجنود الفرقة الاولى مدرع والمنطقة العسكرية الشمالية الغربية.
الدعوة لضبط النفس لا تعني بالقطع البقاء في موقف المتفرج، إذ لابد من اجراء تحديثات دورية للترتيبات والتكتيكات المضادة بما يُسهم في تحقيق امرين، اولهما: مضاعفة اجراءات الحماية حول شخص الجنرال وتأمين تحركاته وتنقلاته، وثانيهما: رفع درجة التأهب في صفوف الفرقة للدفاع عن النفس ضد اي عدوان بائن.
أخيراً، ليس من المنطق في شيء الاكتفاء بالصمت ازاء الحملة الاعلامية الرسمية المنظمة التي تستهدف النيل من الفرقة الاولى مدرع وتشوية صورتها لدى الراي العام، هنا ينبغي على معسكر الفرقة الاولى مدرع الذي يتولى حماية الفضائية اليمنية واذاعة صنعاء ان يُعين مندوباً عسكرياً من ضباطه في غرفة الاخبار بالفضائية اليمنية وذلك للاطلاع على مواد البث وإعاقة نشر اي مواد تستهدف تشوية صورة القوات المسلحة والفرقة الاولى مدرع، شريطة ان يقتصر عمل ذلك المندوب على هذه الجزئية فقط.
من حق الجيش ان يتدخل لحماية سمعته وصون تاريخة وانجازاته، التدخل هنا لن يجسد استفزازاً او تجاوزاً لسلطات وزارة الاعلام والمؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون وقطاع الفضائية اليمنية، إذ انه سيكون تدخلاً جزئياً بهدف منع التلفزيون من الاساءة لمؤسسة الوطن الكبرى القوات المسلحة.