يبدو السفير الأمريكي بصنعاء في بؤرة التطورات السياسية التي يمر بها اليمن حالياً، وعلى الأرجح سوف يظل اللاعب المحوري في هندسة التطورات اللاحقة. السيد جيرالد فايرستاين كان في العاصمة السعودية الاسبوع الماضي من أجل إحياء المبادرة الخليجية في اليمن، وعاد ليلتقي في صنعاء بقيادات يمنية من خمس محافظات جنوبية، قبل أن تتحدث المعلومات عن عزم القيادات الجنوبية المعارضة في الخارج عقد مؤتمر في القاهرة المصرية حول القضية الجنوبية، ولم تشرق شمس الخميس الماضي إلا على خبر سار بالنسبة للسفير: مقتل من قيل أنه قيادي في تنظيم القاعدة في محافظة شبوة، بطائرة أمريكية على ما يبدو، بعد مقتل زعيم التنظيم أسامة بن لادن في باكستان. معروف أن السفير جيرالد المتخصص في شؤون الشرق الادنى والجزيرة العربية متمرس أيضاً في شؤون مكافحة الإرهاب، وربما هو في صنعاء لهذا السبب. منذ تعيينه لدى اليمن أواخر العام الماضي وهو محط الاهتمام الإعلامي غير أن الأوضاع التي يمر بها اليمن اليوم تجعل سفير الدولة الأعظم في العالم في صدارة الإهتمامات. يلعب السفير الدور الأهم في حل ما يصفها ب"الأزمة" في اليمن، ويعترف قياديون في المعارضة بأهمية هذا الدور، وقد لاحظوا أنه يتصدى لإنجاح المبادرة الخليجية بأكثر مما يفعل سفراء دول الخليج العربي في صنعاء. يشير لفظ "الأزمة اليمنية" في لغة فايرستاين إلى مفاعيل الثورة الشبابية الشعبية السلمية المطالبة باسقاط النظام ورحيل علي صالح من السلطة، لكن السفير عندما التقى بمجموعة من الشباب قال أن الأزمة هي "ثورة الشباب وعنف السلطة ضدهم"، وكان السفير أغضب الشباب الثوار لمرتين على الأقل، مثلما أثار حنق السلطة أيضاً، لأن ما يقوله أو يفعله السفير يعد مؤشراً عما يمكن أن تؤول إليه الأحداث والتطورات، أو ما ترغب به واشنطن على الأقل. في التاسع من مارس، وكان قد مضى على انطلاق الثورة في الساحات قرابة شهر ونصف الشهر نقلت صحيفة "السياسية" التي تصدرها وكالة (سبأ) عن السفير جيرالد تصريحاً شدد فيه على ضرورة الحوار والتفاوض معتبراً أن سقوط النظام ليس حلاً، وهو تصريح خدم بلا شك، علي صالح الذي يعد أحد شركاء واشنطن في الحرب على ما يسمى الإرهاب. اللجنة التنظيمية للشباب اعتبرت تصريح السفير بمثابة ضوء أخضر "لنظام علي صالح الأسري الفاسد لارتكاب المجازر ضد الثوار السلميين"، ودلل بيان اللجنة التنظيمية بمجزرة السبت 12 مارس التي استخدمت فيها السلطة الرصاص الحي وقنابل الغاز السامة المحرمة دولياً والتي قدمتها واشنطن للنظام، ثم جاءت مجزرة جمعة الكرامة لتعطي مصداقية أكبر لما قاله الشباب عن تصريح السفير الذي كرره في تعليق للسفارة يومها عن وقوع قتلى وجرحى في مظاهرات صنعاء، وتعز، المكلا. قبل أن يعرب فايرستاين عن أسف بلاده لتزويد قوات علي صالح بتلك القنابل معترفاً بتضارب مواقف بلاده حيال الثورة كان زار مستشفى العلوم والتكنولوجيا التي تستقبل الحالات الخطيرة لضحايا العنف من الشباب المجروحين أو المصابين بالغازات السامة وقدم لها معونة بمبلغ يزيد عن 16 ألف دولار، في خطوة نظر اليها على انها نوع من الترضية وجبر الخاطر للتخفيف من أخطاء السياسة الأمريكية في اليمن. مع تتالي إنجازات الثورة أوشك نظام علي صالح على الانهيار فاستعان صالح بالسفير الأمريكي لرعاية انتقال السلطة، وقدم له مقترحاً بخط يده يتمحور على منحه ضمانات عدم ملاحقته قضائياً هو وأقاربه وأركان نظامه، بعد الخروج من السلطة. في 24 مارس كان السفير فايرستاين يدشن الإشراف على مسلسل من المراوغات، بدأها علي صالح في لقاء مع قادة من المشترك صحبة القائد العسكري علي محسن الأحمر. حتى اليوم ما يزال السفير يبذل جهوده في سبيل الانتقال السلمي السلس للسلطة في اليمن، وهي سياسة أمريكية تترجم في الغالب رغبة "البنتاجون" التي تخشى من انتقال ثوري للسلطة، قد يؤثر على جهود الحرب ضد الإرهاب في اليمن، أو بالأحرى انتقال غير واضح مسبقاً بشأن استمرار هذه الجهود. يقول المراقبون أن ما يسمى الإرهاب في اليمن صناعة سلطوية بامتياز، وكان تفجير مصنع الذخيرة في محافظة أبين برهاناً على ذلك، ومنه ذكرت واشنطن أن الحرب على الإرهاب في اليمن لا يقتصر على شخص بعينه، مستبعدة وجود هدف إرهابي في تفجير المصنع. يتنقل السفير فايرستاين كثيراً بين ممثلي السلطة والمعارضة من أجل نقل السلطة، وضغط على قادة المشترك بالقبول بالمبادرات، أو تقديمها من باب التهديد بانفجار الأوضاع عسكرياً. لم تنجز الثورة مبتغاها بعد إعلان الجيش تأييده لها (21مارس) وطلب علي صالح تأجيل "جمعة الزحف" ليصعد بعد ذلك من تهديداته ب"الحرب الأهلية" في إشارة إلى المواجهات العسكرية المحتملة بين قوات الفرقة الأولى مدرع والقوات التي يقودها أقاربه: الحرس الجمهوري والأمن المركزي، ومع ذلك لم تتضمن المبادرة الخليجية كيفية دمج هذه القوات في إطار الحكومة، ويفضل السفير الأمريكي استمرار أقارب صالح في قيادة هذه القوات وجهاز الأمن القومي تحت ذريعة محاربة الإرهاب. إزاء استخدام القوة القاتلة ضد الثوار يكتفي السفير الأمريكي بدعوة الحكومة إلى إجراء التحقيقات فيما حدث ويذهب إلى لوم الثوار على الخروج في مظاهرات، ومسيرات وخطب استفزازية طبقاً لتعليق السفارة حول مجزرة مدينة الثورة الرياضية (27أبريل) وهو ما اغضب الشباب للمرة الثانية، واعتبر عضو في اللجنة التنظيمية بلاغ السفارة مصادرة لحق من حقوق الشباب "وتدخلاً في الشؤون اليمنية". التعبير الأخير يعيد التذكير بموقف الحكومة من السفير في 24 من أبريل كما جاء في صحيفة الثورة احتجاجاً على لقاء السفير بمجموعة من شباب ساحة التغيير، حيث اعتبرت الحكومة اللقاء خروجاً على الأعراف الدبلوماسية وإظهاراً لوصاية السفير على اليمن، رغم أن الحكومة كانت قبل أيام فقط من ذلك تشكر السفير على ما أسمته تدخله لدى المشترك من أجل فتح طريق ماربصنعاء والسماح بعودة إمدادات غاز الطبخ إلى المحافظات. بالمناسبة لم يعد الغاز حتى الآن وتوزعه السلطة على منتسبي المؤتمر فقط. في الواقع ما يزال السفير مخلصاً لفكرته الأساسية: الحوار بين السلطة والمعارضة. لذا يقوم بدور الوسيط مادام الحوار المباشر متعذراً. يشتهر عن السفير إقناع قادة المشترك بتقديم تنازلات لكن لم يعرف عنه إقناع علي صالح بتقديم تنازلات مماثلة. هل يكفي أن يكون علي صالح أول رئيس عربي يرحب بالإعلان الأمريكي عن قتل بن لادن؟ قال الكاتب الصحفي عبدالوهاب بدرخان: "فطالما أن صالح لم يتعرض بعد لضغط حقيقي أمريكي أو سعودي، فإنه سيواصل الرهان على كسب الوقت" لئن كانت المبادرة الخليجية، وقد وصلت إلى نسختها الثالثة، هي في الأصل مبادرة علي صالح فقد رفضها ضمناً عدة مرات بذرائع واهية ومتنوعة. وحدهما فرنسا، والأمين العام للأمم المتحدة انتقدا امتناع صالح عن التوقيع، رغم أن السفير الأمريكي كان وعد المشترك بإصدار بيان ضد صالح في حال لم يوافق على التوقيع. مجلس التعاون الخليجي تقبل استهانة صالح بمساعيه واكتفى أمينه العام عبداللطيف الزياني بالإعراب عن أمله في تذليل الصعاب. يضع علي صالح شروطاً تعجيزية أمام القبول بتنفيذ الاتفاق ما يعني استحالة تنفيذه حتى لو جرى التوقيع عليه. ماذا ستفعل المعارضة في حال عرقل صالح تنفيذ الاتفاق في حال قبل توقيعه؟ رد عضو في المجلس الأعلى للمشترك: "سنعود إلى الشهود": مجلس التعاون الخليجي والسفير الأمريكي وسفير الاتحاد الأوروبي في صنعاء. باختصار فإن اليمن، في كل الأحوال، عهدة لدى فايرستاين من قبل الآن حتى إشعار آخر.