حتى العصفور الوحيد الذي كان بيد المعارضة يبدو أنه يتهيأ للفرار واللحاق برفاقه العشرة فوق الشجرة والاشتراك في التغريد على وقع الاتفاق الخليجي شبه الموءود. يفصل اليمنيين ساعات قليلة من معرفة مصير الاتفاق الخليجي لنقل السلطة فإما يقبل الرئيس علي عبدالله صالح بالتوقيع عليه في نسخته الثالثة وتوقع المعارضة على إثره فيبدأ العد التنازلي لحكم الأول أو يصر هو على النسخة الرابعة من الاتفاق مسنوداً بدعم خليجي فتنهار العملية السياسية ويبدأ قرار الساحات. فالضمانة الخليجية الأميركية التي أعطيت للمعارضة بحمل صالح على تنفيذه الاتفاق مقابل القبول بالنسخة الثالثة منه بدا أنها تتبدد هذا الأسبوع بعد تساهل الخليجيين والأميركيين مع مطالب صالح بتعديل الاتفاق بل وتلبية رغبته في واحدة من أكثر الوقائع السياسية هزلا. كانت تلك الضمانة بالرغم من أنها مبدئية هي "العصفور" الوحيد المعني هنا في يد المعارضة طبقاً للمثل العربي الشهير لكن بالرغم من أنها أبلت حسناً في معظم جولات التباحث والمفاوضات إلا أنها قصرت في عدم إيلاء هذا الجانب مزيداً من التشدد وهي تعلم أنها تعمل وسط بيئة سياسية شديدة المخاتلة. فالاتفاق في نسخته الرابعة الجديدة يستبعد توقيعات الشهود من المجلس الخليجي والولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي على الاتفاق كما ورد في النسخة الثالثة تفسيراً للضمانات التي طلبتها المعارضة. وتقتصر الصيغة الجديدة على الإشارة إلى أن توقيع الاتفاق جرى بحضور وزير خارجية الإمارات ورئيس مجلس التعاون الخليجي وأمينه العام. يتضح الفارق الكبير بين الصيغتين ودلالتهما لأي مهتم بالشأن السياسي الأمر الذي يعني أن أطرافاً خليجية تربصت بالضرورة للإيقاع بالمعارضة والثورة ولا يمكن تفسير ذلك بالتغابي السياسي أو ضعف الأداء السياسي خصوصاً أن بين الوزراء الخليجيين أطول وزير خارجية في العالم الأمير سعود الفيصل الذي يشغل حقيبة الخارجية السعودية منذ 1975. والنسخة الجديدة من الاتفاق بالرغم من إبقائها على المبادئ الأساسية والخطوات التنفيذية كما هي بيد أنها غيرت تسميته إلى "اتفاق بين المؤتمر الشعبي العام وحلفائه واللقاء المشترك وشركائه" بعد أن كان اتفاقاً بين الحكومة اليمنية والمعارضة وهذا إفصاح مباشر عن رغبة أطراف خليجية تناغمت مع رغبة نظام صالح في تصوير الثورة الشعبية بأزمة سياسية. من جهة الأطراف الخليجية وهي المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين والإمارات العربية المتحدة فمصالحها قبل نظام صالح تقتضي الكفاح من أجل محو شيء اسمه ثورة في منطقة الجزيرة العربية والتقليل من شأن الثورة اليمنية وإنهائها باتفاق سياسي لتبديد أي آمال في التغيير كانت قد انتعشت لدى مواطني المنطقة علاوة على أن البحرين تخوض غمار مواجهة الثورة. كما ضمًن الخليجيون الاتفاق الجديد أسماء 30 شخصاً بالمناصفة بين المعارضة والحزب الحاكم ليوقعوا عليه في استعادة لصيغة لجنة الثلاثين التي كانت بدأت التحضير لحوار سياسي في 2010 قبل أن يوقفه الرئيس علي عبدالله صالح. وهذا التغيير تطغى عليه رغبة صالح لخلق مزيد من الإيحاء بأن الثورة هي أزمة سياسية لا تختلف عن أزمات ما قبل 11 فبراير 2011 والدليل جاهز لديه أن حلها اقتضى نفس آلية لجنة الثلاثين التي تشكلت لمواجهة الأزمة السياسية قبل الثورة. وذهب صالح بعيداً في احتقار الثورة الشعبية فجلب 13 شخصاً من قادة الأحزاب التي استنسخها نظامه فيما انتدب صفته الحزبية وأمين عام المؤتمر الشعبي العام عبدالكريم الإرياني للتوقيع على الاتفاق من طرف السلطة ليضع هو آخر إمضاء بصفته الرئاسية كراعٍ للحوار والاتفاق وكأن الملايين لم يثوروا ضده ويضحوا بالدماء والأرواح. كما يبرز احتقار الثورة إلى حد الاستفزاز في الإتيان بالهوام السياسية الثلاثة عشر من قادة ما يطلق عليها أحزاب التحالف الوطني ليحسموا أمر الثورة وهم الذين لم يسمع بهم الناس يوماً ما ولم يعلق اسم أحدهم في ذهن بضعة مواطنين. إذ كيف ستكون عليه حال الثائرين وهم يرون هؤلاء لأول مرة يوقعون على الاتفاق؟ كيف بوسعهم تخيل أن اليمن الجديدة التي ثاروا لأجلها قد هلًت وهم يرون نفراً أمطروهم بالتخوين والوقاحات خلال أيام الثورة يضعون إمضاءاتهم على مقاييس اليمن الجديدة. تلك خيبة من غير شك، ستبقي على نبض الثورة متدفقاً ليشعل ثورات لاحقة حتى تصحيح مسار الثورة الأساسية كما فعل التونسيون عقب الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي حتى أطاحوا بالحكومة التي خلفته ورئيسها. الأهم من هذه التأثيرات الوجدانية ومحاولات التقليل من الثورة أن رفع عدد الموقعين على الاتفاق إلى 15 سياسياً عن كل طرف هو المدخل للالتفاف على الاتفاق نفسه فيما بعد. وهنا يكمن سر إيثار علي صالح لقادة أحزاب التحالف بثلاثة عشر إمضاء وهم الذين كان يرمى لهم بفتات المال السياسي ولم يمنحهم النظام مقعداً واحداً في البرلمان أو يسمح لهم باتخاذ قرار مستقل. ليس واضحاً الآن كيف بإمكان صالح أن ينقلب على الاتفاق عبر ثغرة الثلاثة عشر حليفاً الموقعين لكن لا ينبغي التقيد بقواعد ثابتة عند التنبؤ بما سيقدم عليه هذا الرجل فوفقاً لتاريخه الطويل في هتك الاتفاقات بطرق لا تراعي حتى الوفاء بالعهود، فقد نفاجأ ذات يوم بإعلام المؤتمر الشعبي العام والإعلام الحكومي يذيعان خبراً عن تراجع هؤلاء الثلاثة عشر عن الاتفاق وندمهم على القبول به ثم دعوتهم لصالح برفضه فيعلن الأخير نزوله عند قرار غالبية فريقه المصادق على الاتفاق. قد يبدو هذا التصور غريباً لكنه لن يكون أغرب من تغيير الاتفاق أربع مرات أو تفسير نائب وزير الإعلام عبده محمد الجندي لمقتل14 محتجاً في صنعاء قبل أسبوعين بنظرية الجثث الجاهزة التي قال إن المحتجين عرضوها لتضليل الرأي العام. والجندي هو من كبار القياديين في أحزاب التحالف الوطني. ولن يعدم حلفاء صالح الثلاثة عشر حيلة للنكوص عن الاتفاق ما دام ذهن أحدهم قد تفتق عن فكرة قوالب الجثث الجاهزة! التواطوء الخليجي مع هزل صالح ورغباته يقود إلى التساؤل عما إذا كان الأخير قد نجح في استدراج المعارضة إلى الساحة الخليجية مسنوداً بوعود مسبقة من الأطراف المؤثرة في مجلس التعاون بدعمه والاشتراك معه في لعبة ترويض الاتفاقات بما يكفل طمس فكرة الثورة.
والجواب لا يستبعد ذلك مستشهداً بإلحاح صالح على الاحتكام إلى طاولة الحوار الخليجية وحديثه المتكرر عن وساطة سعودية في وقت مبكر من الثورة وقبل أن تكون فكرة الوساطة قد تشكلت في الأساس ثم إيفاده وزير خارجيته أبوبكر القربي لاحقاً إلى المملكة لطلب الوساطة. لكن ما شأن المواقف الأوروبية والأميركية والقطرية واستجابتها لمجمل التعديلات على الاتفاق في الوقت الذي كانت النسخة الأولى من الاتفاق الذي قام على رؤية قطرية تقضي بتنحي صالح دون الحديث عن ضمانات لتحصينه أو كل هذا الغثاء لتقزيم الثورة. في الغالب تأتي مواقف الدول الكبرى خصوصاً الولاياتالمتحدة الأميركية في مثل هذه الحالات منسجمة مع رؤية الطرف الممسك بالأمور. ولقد ضت الطرف عن خروقات بالغة لحقوق الإنسان في مناطق نزاع متعددة شريطة أن يضمن لها أي طرف حسم الموقف في أقل وقت ممكن. وهذا الشرط تلقاه صالح نفسه من أميركا والسعودية في حرب 1994 حين ظلا يمانعانه من اجتياح المحافظات الجنوبية لكنهما أعطياه الضوء الأخضر في النهاية شرط أن يحسم الموقف على الأرض في وقت قصير. ويضاف إلى هذه السياسة الأميركية خصوصية أخرى فيما يتصل بنظام صالح؛ إنها تحتاج إليه كثيراً هذه الأيام وتعمل على إطالته وأجهزته في مواقع القرار ولو لأشهر قليلة خاصة بعد عثورها على كنز خيالي من المعلومات عن تنظيم القاعدة في منزل زعيمه أسامة بن لادن الذي قتلته قوة أميركية قبل أكثر من أسبوع في مدينة بوت أباد الباكستانية وفقاً للرواية الأميركية. لا بد أن كنز المعلومات الذي وقع بيد الولاياتالمتحدة يشتمل على قدر من التفاصيل عن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وهو أكثر أجنحة التنظيم نشاطاً وإزعاجاً للبال الأميركي الذي يريد أن يرى عالماً خالياً من القاعدة بعد مقتل ابن لادن. وبقاء صالح وأجهزته في مواقع القرار أمر مهم لتمكين الفرق الأميركية من تعقب قادة القاعدة على الأراضي اليمنية طبقاً للمعلومات الجديدة التي تخضع حالياً للترجمة والترميز، فضلاً عما بين الجانبين من اتفاقات سرية. أما الموقف القطري فيبدو متفرجاً غير عابئ بالتعديلات التي يُعتقد أن السعوديين يدخلونها على الاتفاق مرة تلو الأخرى وذلك لثقته بأن الاتفاق بنسخه المعدلة سيقابل بالرفض من الثوار الذين سيتدبرون أمرهم لحسم الموقف بعد فشل الحل السياسي، وحينذاك سيبدأ الموقف القطري الحقيقي في مساندة الثورة لكسب حليف جديد في الخاصرة السعودية كما فعل في مصر وليبيا. يظل رهان الثوار على أنفسهم وإبداعهم في صنع نهاية حاسمة للموقف هو أكثر الرهانات ربحاً وإليه أيضاً تنتهي رهانات الأطراف الخارجية في حال جاء مكتملاً وثابتاً. ولعل تصاعد وتيرة الاحتجاجات في مدينة تعز خلال اليومين الأخيرين وسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى مقابل قمع وحشي غير مسبوق هو البداية الملهمة للدفع بالثورة إلى نهاية حاسمة، فمن هذه المدينة انبعثت الثورة في 11 فبراير ومنها تستعيد الثورة عافيتها وروحها حين تبدأ بالاعتلال كما حدث في ابريل الماضي.
مثل تعز أيضاً، هناك محافظات الأطراف والكثافة السكانية حيث التصعيد يتمتع بأفضلية لقدرة الناس فيها على اتخاذ خيارات أكثر استقلالية وسرعة لابتعاد تلك المحافظات عن العاصمة صنعاء حيث الحسابات السياسية المركزة ومراكز القوى التي تثقل كاهل الثورة بحساباتها الخاصة وتبطئ من حركتها.