صار من شبه المؤكد أن المعارضة نفضت يدها تماماً من الاتفاق الخليجي لنقل السلطة تقريباً وهو أمر يصب في خدمة التصعيد الثوري الميداني، لكنه يفتح الحالة اليمنية على احتمالات متعددة بينها المجهول والمعقد بل والمخيف. بيد أن هذه الاحتمالات لا تعني بأي حال من الأحوال النكوص عن المسيرة الثورية والقبول بالحلول التي تنتقص من الثورة وتقزم حصادها على النحو الذي انتهى إليه الاتفاق الخليجي في نسخته الرابعة الأخيرة. افتقر الاتفاق الخليجي إلى الإبداع السياسي مقتصراً على النمط التقليدي من الاتفاقيات التي رعتها الدول الخليجية، وهذا يجد له تبريراً موضوعياً وتاريخياً خصوصاً بعد عزوف قطر عن الإسهام الفعلي في تفعيله عقب رفض نسخة الاتفاق الأولى التي حملت الرؤية القطرية لحل القضية. فالمنظومة الخليجية لم تتوسط من قبل في قضية بحجم ثورة شعبية بما تعنيه من ضخامة التطلعات والفارق الهائل بين شعب ثائر ونظام مستهدف بالثورة، إذ كل ما أنتجته سابقاً من حلول انحصر في قضايا نزاع أو انقسامات سياسية بين فرقاء. وبالرغم من ذلك لم تفلح الاتفاقات التي صاغتها ورعتها دول خليجية في إنهاء الصراعات التي تصدت لها. والأمثلة كثيرة كاتفاق الطائف بشأن المسألة اللبنانية في المملكة العربية السعودية عام 1989 واتفاق مكة بين حركتي فتح وحماس في فبراير2007 برعاية السعودية واتفاق الدوحة بين الفصائل اللبنانية في مايو2008 واتفاق دارفور الذي رعته قطر وكذا اتفاق الدوحة بين الحكومة اليمنية وجماعة الحوثيين. كل تلك الاتفاقات وقعت بين أطراف سياسية متصارعة لجأت إلى الاقتتال في أسوأ الأحوال. ومع ذلك لم يُنجز معظمها ومازال بعضها في انتظار التوقيع. إذن، بين الثورة الشعبية اليمنية والوساطة الخليجية الهوة التالية: كان عماد الاتفاقات الخليجية السابقة يقوم على الإغراء بضخ أموال طائلة لمعالجة آثار الصراعات المعنية بالاتفاقيات، ثم استدعاء طرفي الصراع إلى عاصمة خليجية والتوقيع على محددات جرى التشاور بشأنها سلفاً مثلما حدث في اتفاق مكة بين حركتي فتح وحماس الذي استغرق إبرامه ساعات قليلة. كما أن كثيراً من الاتفاقيات التي تبرمها دول عربية بين أطراف متناحرة يرتكز تطبيقها وتذليل صعابها على المال وأجهزة المخابرات والملحقيات العسكرية. والثورة اليمنية الراهنة التي لا خلاف تقريباً على أنها تحول كبير وانعطافة فارقة حين نزنها أمام هذا النوع من الوساطات، يغدو لا مناص من إحدى نتيجتين فإما أن يتم احتواؤها في اتفاق تقليدي كهؤلاء أو أن تخرق الثورة إطار الاتفاق النمطي وتمضي قدماً. النتيجة الثانية هي المنطقية والواقعية فضلاً عن أنها مقياس صادق لاختبار ما إذا كان الحدث المعني بالاتفاق ثورة أم انقساماً سياسياً. قد تبدو الثورة اليمنية صراعاً بفعل ما صبغها من مظاهر التصارع الكلاسيكية في الواقع المحلي لعشيرة الحكم والاستقطاب الحاد لمراكز القوى إليها وضدها لكن يظل جوهرها ثورياً، وتظل قاعدتها الأساسية تلك الجماهير الشعبية التي خرجت بحثاً عن العدالة والديمقراطية. ومع ذلك، لا يمكن إلقاء اللائمة على المجلس الخليجي إلا بشأن ما يتبدى لكثيرين أنه مقصد مبيت للتقليل من شأن الثورة والتعامل معها على أنها أزمة سياسية بين أحزاب. يبدو هذا التفسير مرجحاً قياساً بمواقف تاريخية لأطراف الخليج المؤثرة حيال أي تحول كبير يحاول خرق القواعد المنغلقة ذوات السطوة في المنطقة. فضلاً عن أن هذا التحول يطرق أبواب منطقة الخليج نفسها وقد دهمها فعلاً في مملكة البحرين، وكاد يبلغ مرحلة متقدمة لولا أن تداعى عليه الخليج بالقوة والإعلام والسياسة. كما ليس حرياً تقييم الاتفاق في قدرته على قراءة الثورة اليمنية واستيعاب المقدرات السياسية اللازمة للتعامل معها وإفراغها في اتفاق سياسي وفق الحالة الديمقراطية السائدة هنا رغم سحق جوهرها، فما أنتجه الخليج من اتفاق يعدّ عملاً سياسياً جاء بشق الجهد من منطقة قاحلة يسودها قحط ديمقراطي وتعوزها تجربة سياسية كافية للتعامل مع قضية كبيرة لم تؤمن بها الأنظمة هناك بعد. كانت المفارقة واضحة من قبل أن تصدر مضامين الاتفاق والنتيجة أيضاً، إذ لا يستقيم من حيث المبدأ أن يتحاكم ملايين خرجوا ثائرين ضد نظام يقتًر عليهم الديمقراطية والحريات إلى أنظمة تحظر تلك الحريات بالمطلق. لكن ما لم يكن متوقعاً هو فقد المجلس الخليجي للمراس السياسي وتواضع خبرته السياسية تماماً في استيعاب التحول اليمني، وفهم ما استقر عليه ميزان القوى الشعبية بما يكفل إخراج اتفاق يمكن إقناع ثائر يفاخر بشيمة النزق بالقبول به. في حال سلمت المعارضة السياسية بانهيار الاتفاق ولم تلتمس أي مراجعات حوله؛ فإن الأمر يقتضي منها أن تجاهد لاستدعاء حل يغلب عليه الإبداع السياسي الذي غاب عن الوسيط الخليجي أو الميداني الذي يستأثر بالحظوظ حالياً لكنه يفتقر إلى واضع خطط جيد. والحل الميداني هنا لا ينطلق مباشرة إلى مفردة الزحف التي يرددها سائر الساسة والمحتجون في ساحات الثورة دون البحث عن مرادف لها يخلصها من دلالاتها القادمة من غابر التاريخ ويدلف بها إلى العصر الحالي الذي لاءمته ثورة سلمية نلمسها واقعاً لا ثورة مسلحة أو غزوة قديمة. كما أن تعليق تمام الثورة على «الزحف» قبل إنجاز مهام ميدانية كثيرة ما زالت قائمة بحاجة إلى مراجعة، فتقطيع كافة الشرايين التي تمد القصر الرئاسي بالبقاء سيجعل من الأخير زائدة ميتة، أما محاولة السيطرة عليه فيما جذور له مازالت وطيدة فرهان يقبل الخسارة والنجاح ولا يمكن التعويل عليه لحسم الموقف. هناك في المدن الكبيرة البعيدة عن العاصمة شرع المحتجون في تصعيد الآليات الثورية وحاصروا بعض المكاتب الحكومية، غير أن المراوحة على هذا الوضع دون تعميمه في المدن ذاتها وبقاء الوضع كما هو في العاصمة لن يساعد في تشكل التصعيد وانتشاره. ببساطة، يكمن التعقيد في كيفية رفع إصبع النظام عن الزناد في حال توافقت ساحات الثورة والمعارضة السياسية على الحسم الميداني بوصفه آخر الحلول المتاحة، ذلك أن النظام قد قرر حقاً اللجوء إلى العنف وحدد الأهداف التي سيضربها حين يثبت لديه سقوط الحكم. والعنف المقصود ليس الشائع حالياً من اقتناص المحتجين وقمعهم بقنابل الغاز وخراطيم المياه بل توجيه ضربات عسكرية، تعتمد في غالبها على سلاح الطيران وهو ما يفسر توزيع المقاتلات الحربية في أبريل الماضي على عدد من القواعد الجوية في محافظات تعز ولحج وشبوة والمهرة. القوة المشروعة التي تحقن الدماء تغدو خياراً يستأثر بالأفضلية كما في الحالة الليبية مع فارق أن القوة التي تضرب نظام العقيد معمر القذافي هي قوة خارجية قدمت بطلب من الجامعة العربية، فيما بات ميسوراً استدعاء القوة الداخلية في الحالة اليمنية شرط أن تقتصر مهمتها على إجراء عملية جراحية خاطفة فقط في حال كان ذلك ممكناً. كثيرون صاروا يؤمنون بهذا الانطباع بعدما رسخ لديهم استحالة أن يحاصر محتجون عزل قصراً قد تحول إلى مستودع ضخم للبارود وغرفة عمليات حربية، محروسة بقوات النخبة ومسلحين متوحشين. وتضاعف الميل للانقضاض على معقل النظام الحصين إثر الوحشية المطلقة التي قوبل بها محتجون يوم الأربعاء الماضي حين كانوا في طريقهم إلى التجمع أمام مقر الحكومة بصنعاء سعياً لمحاصرته فيما يبدو. ثلاثة عشر شهيداً وعشرات الجرحى بالرصاص الحي إضافة إلى مشاهد العظام المسحوقة والجماجم المهشمة إثر قمع التظاهرة التي كانت متجهة نحو مقر الحكومة تظهر كيف أن النظام جلب أقسى المجرمين ليحولوا بين الحشود الثائرة وأهدافها. وإلى جانب ذلك، تفصح عن أي مدى من البشاعة والقتل سيقدم عليه النظام في ما يتصل بالدفاع عن معقل رئيسه الأخير. على الصعيد السياسي، كشف رئيس المجلس الأعلى للقاء المشترك أمين عام الحزب الاشتراكي اليمني عن جهود تبذلها المعارضة في الوقت الراهن لتشكيل ائتلاف واسع يضم كل قوى التغيير في البلاد لإنجاز عملية التغيير والحوار حول المستقبل. ونقل موقع المصدر أونلاين المستقل عن الدكتور ياسين سعيد نعمان قوله يوم السبت «نسعى لتكوين ائتلاف أوسع لقوى التغيير يضم المشترك وشركاءه وشباب الثورة والحراك في الجنوب والحوثيين وكتلة الأحرار ورابطة أبناء اليمن وتكتل العدالة البناء ومعارضة الخارج ومنظمات المجتمع المدني وهيئة العلماء والمشايخ ورجال الأعمال وغيرهم من القوى وذلك لإنجاز عملية التغيير والحوار حول المستقبل». نعمان أفاد أن المشترك بدأ بالفعل إجراء اتصالات مع تلك القوى من أجل تشكيل الائتلاف الذي أشار إليه، قائلاً إن جهات تم الاتصال بها بشأن ذلك أعطت ردوداً إيجابية وترحيباً. وهو إجراء جيد بالرغم من أنه تأخر كثيراً، مع أن ممثلي تلك القوى محتشدون في ساحات الثورة منذ ثلاثة أشهر وكان الأحرى أن يأتي في وقت مبكر سواء لقي الاتفاق الخليجي لنقل السلطة القبول أو الرفض. مع حالة الموت التي يعيشها النظام أيضاً، قد تهتدي المعارضة إلى جدية البحث في تشكيل حكومة على غرار المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا. تبدو الأوضاع مهيأة كثيراً لهذا التدبير السياسي في ظل خروج البلاد عن سيطرة الحكومة المركزية وانعدام الخدمات الاجتماعية إضافة إلى الحالة السياسية الثورية. الأوضاع الاستثنائية تتطلب قرارات سياسية جريئة هي ما يدخل لاحقاً ضمن الإبداع السياسي رغم بساطتها.