تحت تمثال كبير من الخشب لنيلسون مانديلا في مدينة أوروبية عريقة توجد هذه العبارة: «لا يوجد طريق سهل إلى الحرية». ملك أتلانتس يغرق، تماماً كما حدث في الأسطورة الشهيرة. يفكر بإغراق جزيرته معه لكنه ليس متأكداً من أمرين: قدرته على فعل ذلك، وما إذا كان هذا الإغراق سيوفّر له منجىً من أي نوع. كل الطرق إلى الحرية صعبة. والحرية دالة كبيرة لا يمكن حصرها في القدرة على اختراع الكلام والجمل المفيدة. الشعب العربي في اليمن أدرك هذه المعادلة الجديدة، وخرج ينادي بالحريّة الكبرى: حرية الاختيار بلا ضغط، والإنجاز بلا حدود، والحياة بلا خوف. لم يعد أمام صالح من طريق سوى الهرب. لكنه يريد أن يهرب بشرف على طريقة الرجل الجبان الذي كيّس هروبه بتشبيه مفرّغ: فررت فرار الأسد! الأسد لا يفر، الأسد يعيش تحت الشمس ويموت تحت شجرة.
لا توجد طريقة مشرفة للهرب، لكن صالح لا يزال يبحث. لن يعثر على تلك الطريقة المشرّفة، فالهرب سبيل واحدة: لقد اغتالتك الجماهير معنوياً، حتى لو سرقت الضمانات تحت التهديد بالسلاح. خذ الضمانات واهرب مثل الأسد! لكن الجماهير ستقرأ غداً يومياتك ال 12 ألفاً في حكم اليمن. يوماً يوماً، وساعة ساعة. هل تريد ضمانات ضد هذا الأمر أيضاً؟ لا يوجد طريق سهل للحرية. صالح يحاول أن يسرق الضمانات تحت التهديد بالسلاح. هيا نوقّع له. لكن ليكن واضحاً: لقد أخذ منا التوقيع تحت التهديد بالسلاح. غداً سنتحدث عن الضمانات من جديد، أيها الهارب. القصة الكبيرة انتهت تقريباً. وبقِيَت القصص الصغيرة. من هذه القصص الصغيرة: تأمين ممر آمن للمهزومين. لا يزالون يهددون بإشعال حرب لم يكونوا قادرين على إشعالها عندما كانت الثورة لا تزال في أيامها الأولى. أعني قبل أن تلمح الخارجية الفرنسية إلى إمكانية تدخل قوات الناتو فيما لو سلك صالح طريق القذافي. البروفات الأولية كشفت هشاشة آلة الحسم التي اعتقد صالح أنه يمتلكها. أمام منزل الأحمر استعد النظام المخلوع لكي ينفذ معركة محصورة، اعتقد أنها ستكون كافية لتقول أموراً كثيرة، فكر صالح. أراد أن يكسب هذه المعركة، برمزيتها المتخيلة، لكي يضعها على الطاولة عندما سيملي شروطاً جديدةً، لكنه خسرها بمهارة، وفشل فيها بامتياز كلاسيكي.
اكتشف فجأة أن بقعة الزيت هذه ستفيض حتى تغرقه، لأنها ستنزح من نهرٍ من الكراهية والغضب ليس له قرار. ليس لدي معلومات عن مفاوضات التهدئة، لكنّي متأكد أن صالح استجاب بسرعة للمقترحات، برغم أنه خطط لهذه المعركة بمهارة وتوقّع تدخّل الوساطات بالطبع.
لقد تخيل الأمر كالتالي: سأحسم معركة خاطفة، وسينقل التلفزيون جنود الحرس والمركزي وهم يدوسون سجاد بيت الأحمر. ستقول تلك الصورة قولاً بليغاً لليمنيين والخواجات معاً. ومع ذلك فهو سيقبل التهدئة وسينسحب لأنه رجل سلام، لا يحب إراقة الدماء. فهو مثلاً لم يقتل الحمدي، بل الزنداني الفاعل. هكذا قال صالح قبل أيام، ولم يشرح لمريديه كيف تسلل الزنداني، وبأي صفة، إلى بيت الرئيس الغشمي لكي ينفذ هذه الجريمة الجريئة وينجو كل هذا الأمد من التاريخ!
سيخوض صالح جولة جديدة من التفاوض الأسطوري حول ممرات العبور الآمن. لقد تحسّب للأمر، وحاول خطف معركة مصغرة ضد الأحمر لكي يضع شروطه هذه المرة على الطاولة وهو يقهقه. لم يحالفه الحظ، وربما لن يحالفه الحظ حتى النهاية. وفيما يبدو، فلم يعد بمقدور صالح أن يقهقه كما كان يفعل.
لقد كانت معركة الحصبة الرابعة خلال شهر واحد: العر، نهم، الحيمة، الحصبة. لم يفعل جيش النظام شيئاً جديداً. فقط انهزم كالعادة. وربما انهزم بمحض إرادته، وتحت ضغط من ضمير أفراده اليمنيين المختطفين. أفراد هذا الجيش يمنيّون رائعون، لكنهم اختطفوا من قبل النظام وشحنوا في سراديب اسمها معسكرات صنعت خصيصاً لحماية مجلّدات وبرديّات الأسرة الدموية ومكتسباتها التي يجري وصفها دائماً بحسبانها: مكتسبات وطنية. لذا، فإن عقيدتهم العسكرية بلا دلالة، وماركة بلا منتج. وعندما يطلقون النار فأقصى أمانيهم أن لا تصيب رصاصتهم أحداً.
لا توجد طريقة مشرّفة للهرب، ولا طريق سهل للحريّة. هذه المعادلة يمكن قسمتها على طرفين: صالح والثورة. الثورة تعي تماماً الجزء الخاص بها. صالح لا يعي، ولن يعي، الجزء الخاص به. ومن يفهم مبكّراً يصل مبكّراً.