عند النظر للمشهد اليمني بعين التجرد والحياد فإن ثمة حقائق تفرض نفسها بقوة.. أولاً: قد يمثل الشعب اليمني استثناءً في المنطقة بل والعالم. فالشعب لديه شغف كبير بإقامة دولته المدنية, وهذا ما تنشده حتى القبائل اليمنية قاطبة رغم إرثها القبلي العريق على هذه المعمورة. كل فئات المجتمع سئمت الاحتراب والتخندق ضد الأخر, والإقصاء والتهميش..للأسف الشديد لم يستطع نظام صالح التقاط هذه الرغبة الشعبية الجامحة والانطلاق بها نحو فضاء أوسع للدولة المدنية الحديثة..دولة المؤسسات والعدل والمساواة..وهذا هو مصدر كل مشاكل البلاد. لا تستطيع أن تصف اليمن كله بالمجتمع القبلي التقليدي, ولا تستطيع تصنيفه في عداد الدول المدنية..إنما هو عوان بين التصنيفين..وكل فئة مشغولة بالتخندق ضد الأخرى على حساب الاستحقاق التنموي في شتى المجالات; لنجد أنفسنا في عداد الدول الأقل نمواً في العالم..نستجدي الشرق والغرب لرصف طريق أو بناء مرفق ما, رغم إمكانياتنا البشرية والطبيعية الهائلة.. ثانياً: من محاسن هذه الثورة المجيدة أنها أعطت اليمنيين فرصة أكبر للتعرف على ذواتهم وقدراتهم.. حتى نحن هنا في الخارج اكتشفنا أن اليمنيين يمتلكون العديد من الكفاءات الرائدة في كل المجالات العلمية والإنسانية على السواء..ففي أيام معدودة وجدت نفسي منتمياً إلى هيئة علماء و أكاديميي اليمن في المهجر والتي تضم مئات الكفاءات التي لم تستطع دول الخليج مجتمعة إنتاجها بنفس الجودة- رغم إمكاناتها المادية الهائلة..صدقوني كثير منا يعمل مستشاراً لدوائر القرار العلمي التقني في الخليج والعالم, وبلدنا لم تكترث حتى بمعرفة عدد علمائها في الخارج. ثالثاً: التطورات الأخيرة في اليمن أكدت أن الجيل الجديد من اليمنيين يتوقون إلى بلد جديد يحلق بهم بعيداً عن مشاكلنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية..تحية إكبار لكل الشباب وكل مكونات العمل الثوري.. رابعاً: الوضع الحالي: يعيش اليمن حالياً صراعاً بين النّخب الحاكمة في السلطة والمجتمع اليمني تصطفّ فيه ركائز النظام الموالية لصالح ضدّ المؤيّدين للثورة. ومن البديهي أن تحاول النخبة المتبقّية من نظام صالح الاستمرار في السلطة من خلال صورة شكلية لنائب الرئيس. وهو الذي قد ينحاز للثوار في أيّ لحظة تضعف فيها قوّة الأجهزة الأمنيّة داخل النظام. وربّما تتراجع هذه النخب المتبقّية لاحقًا لتقبل أن تبقى عنصرًا فاعلاً في السلطة المقبلة. ولا يتعارض هذا مع توجّهات بعض الأطراف الخارجية في محاولتها الحفاظ على علاقاتها مع جميع القوى في الساحة وتقديم الدعم لها بأشكال مختلفة. والملفت للانتباه هو تحرّك أطراف خارجية بعد أشهر من الثورة للعب دور الوسطاء الذين يمكنهم الجلوس مع الأطراف كافّةً. والحلّ المطروح من قبلهم كتسوية تجنّب البلد الحرب الأهلية وتحقيق المطلب الديمقراطي في الوقت ذاته هو فصل الأمن عن السياسة، بحيث يبقى النّفوذ الأمني بيد أصحابه وتشارك المعارضة في السلطة السياسيّة عبر الانتخابات. غير أنّ هذه المعادلة بالغة الخطورة وتجعل السّلطة السياسية في هذه الحالة سلطة وهميّة. وهذا ما ذهب إليه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. بقي القول أن شباب الثورة عليهم ألا يتركوا الطرف الخارجي الذي لا يهمه في اليمن إلا التبعية الأمنية, يسيطر على المشهد السياسي. فبعض الأطراف الخارجية تعمل على استغلال الفراغ السياسي الذي تركه الرئيس صالح- نتمنى له الشفاء-والشروع في ترتيب تقاسم السلطة بين النّخب القديمة, وذلك على حساب طموح ونضال شباب الثورة العازمين على بناء الدولة اليمنية الحديثة..دولة المدنية والمؤسسات التي ستكفل الحياة الكريمة للجميع وتنأى باليمن بعيداً عن أتون الصراعات والاحتراب. خامساً..تحية خاصة لإخواننا في الجنوب وقد أحسن قادة الثورة عندما تبنوا القضية الجنوبية وجعلوها ضمن أولويات الثورة ومدخلاً لإصلاح الوضع اليمني برمته..إخواننا في الجنوب هم من أسسوا نواة المدنية في الجزيرة العربية وسوف يعودون لدورهم الريادي كما عهدناهم.. وإلى أهلنا في تعز كل العالم يدرك التضحيات التي قدمتها وتقدمها تعز..وهنا في أوروبا صوتكم مسموع وقد شرعت بعض محاكم أوروبا بالنظر في ملفات جرائم النظام في تعز وكل اليمن..وستسمعون قريبا ما يسركم بإذن الله.. وأخيراً نأسف لوجود بعض الخلافات السطحية في الساحات, وأحب ن أذكر الجميع أن الثورات تتطلب الإيثار والتعالي على الخلافات والإقصاء ,والتهميش لبعضنا البعض...لقد ضرب شعبنا مثلاً رائعاً للعالم في المثابرة والتجرد والجلد والصبر من أجل تحقيق أهداف ثورته العظيمة رغم أنواع العذابات التي يواجهه بها النظام..ليس عصياً على هذا الشعب العظيم أن يزداد وحدةً ومنعةً وينطلق بثورته بجهود الجميع نحو تحقيق أهداف الثورة كلها..على شبابنا ألا يصغوا لأصوات الفرقة والتمزق ويتذكروا نشيدنا الوطني الذي حاكه شاعر الثورة الفضول من كل شمس.. ليس منا أبداً من فرَّق....ليس منا أبداً من مزّق ليس منا أبداً من يسكب الزيت ..على أزهارنا كي تُحرق رحم الله شاعرنا وشهداء الثورة أجمعين وشفى الله الجرحى.. ونصر الوطن والثورة.. *أستاذ مشارك.. جامعة أدنبرة نابير - بريطانيا