أنا مواطن يمني، دمي يجري في هذه الأرض منذ خمسة ملايين سنة ، هو عمر أقدم جمجمة بشرية على ظهر الكوكب، لا أستبعد أنها تخص جدّي الأول. لي الحق الكامل في أن أعيش وأتناسل على هذه الأرض لخمسة ملايين سنة قادمة، حتى يعثر أحفادي على جمجمتي هُنا، على أرض حميَر وحضرموت ويمنت. ومن حقي وحق أبنائي، حين سيعثرون على جمجتي، أن لا يكتشفوا فيها أي خدش، أي أثر لخرطوش، أو وشمة بارود. من حقّهم أن يكتشفوا، باستخدام ما يبتكرونه من تقنيّات، أنّي متّ على سريري، آمناً مطمئناً مثل البعير. نعم، مثل البعير، لا مثل نابليون بونابرت، ولا مثل حنا بعل، ولا حسين الحوثي. ولا حتى مثل الحمدي. أنا مواطن يمني، دمي يسيل في جبال هذه الأرض، لا كما تسيل الديموقراطية في عروق السيد الرئيس كما قال الأستاذ الشاطر، بل كما يسيل الزمن في جينات أرض الملوك، سبأ العظيمة. أريد أن أحيا مثل بقية شعوب العالم. وكحد أدنى: كما يعيش هؤلاء البدو المترفون، الذين كانوا ينوحون بجوار " ابن خذام " عندما كنّا نعلم الدنيا هندسة البناء وفنون الكتابة. من حقّي أن أعيش مطمئناً، في رحاب القانون والضمير، وكحد أدنى: كما يعيش السادة البدو، أو العبيد السعداء كما أسماهم المفكر الإنجليزي أمارتيا صن، الذين كانوا يسرقون أموال الحجيج، ويهدهدون مواليدهم " أبو عيون لجلاج، تكبرْ وتسرق الحجّاج" حين أن كان آباؤنا المتأخرون يبنون قصر الحمراء في أسبانيا..
أريد أن لا يزعجني أحد حين أنام، ولا يقرفني آخر حين أصحو. هذه أرضي، ومن أراد أن يعيث فيها فساداً فعليه أن يغادرها فوراً. أنا هُنا، أحرس عظام أجدادي العظماء، وأقرأ الصلوات على دمهم النائم. أجدادي الذين حققوا مُراد الإله على الأرض كما لم يفعل جنس بشري مثلهم. ذلك أنهم صنعوا المدينة العالمية " التي لم يخلق مثلها في البلاد" وزرعوا السهل والجبل، حتى استحالت هذه الجغرافيا المرعبة إلى " جنتين عن يمين وشمال".. من حقّي الآن أن أسرح في هذه الأرض، أضحك فيها بأعلى صوتي، وأنام حتى تسخر السماءُ من شخيري. هذه أرضي، أنا اليمني ابن اليمني ابن اليمني، ومن أراد أن يجعل منها نادياً للرماية، أو مزاداً للإتجار بعظامنا فعليه أن يغادرها فوراً، وفي الحال..
هذه أرضي التي لا أملك أرضاً سواها، وشخصيتها هي شخصيتي التي ليس بمقدوري أن أستجلب شخصية أخرى غيرَها. فمن أراد أن يجاورني فيها فبشروطي أنا، أنا مالك هذه الأرض. ومن ادّعى مشاركتي ملكيتها فليحترم قوانين هذه الأرض، وشروط الحياة عليها، كما تواطأ عليها أجدادي القدماء، وكما نريدها في المستقبل.
لسنا مماليك لأحد، لذا فلن نورّثَ كالمتاع. لسنا حشواً لمخدّة أحد، كما لسنا عمال سُخرة ولا مرتزقة حروب. نحن هُنا، اليمني بجوار اليمني، نشكّل مجتمعاً كاملاً قوامه الملايين، يمتد في التاريخ والمستقبل لملايين السنين. ولأننا نريدُ أن نعيش في المستقبل، لأن أعيننا قفزت إلى الغد، كما يفعل شعوب العالم الحر، فإننا لا نمانع أن يكون لدينا إدارة عُليا تدير شؤوننا. من حقّي، بوصفي ابناً شرعيّاً خالص الشرعية لهذه الأرض، أن أسعى لأن أكون حاكماً عليها وفقاً لشروط وتوافقات أبنائها. وعندما سأحكمها وفقاً للقوانين والقواعد التي أرادها شعبي ووافق عليها فإن شعبي العظيم سيقول عني: لقد قرّر أن يخدِمنا. وسأكون : الخادم الكبير، أو الأجير الأعلى. لن أكون صاحب سمو، ولا ذا فخامة، سأكون مستأجراً من قبل مواطني بلدتي العظماء، هؤلاء القوم الذين يريدون أن يضحكوا بلا منغصات كما يفعل بقية خلق الله، لحين أن يروا أن صلاحية بقائي في قمرة القيادة قد بلغت كمالها. عندئذٍ سأعود إلى الصفوف، أقترح أشكالاً للمستقبل مع أبناء شعبي الرائعين. ورغم هذا الحق الأصيل، فأنا أفضّل أن أكون مواطناً، مواطناً عاديّاً أعمل خفية لمصلحة أبناء بلدتي الطيّبين. لا أطمح، وأنا ابن هذه الأرض وأحد مالكيها، لأن أكون حاكماً لشعبي، لكني أحتفظ بحقي في اختيار " أجيرٍ" يقودنا طبقاً لقواعدنا نحن، لا أهوائه ولا نزواته. فهو، مهما بلغت قدراته الخاصة، ليس آينشتاين لكي يتنبّأ بحركتنا النسبية أو المطلقة في المستقبل. كما إنه بكل تأكيد لن يكون الخضرَ عليه السلام لكي نسمح له أن يدّعي العلم بكل شيء.
وهكذا، فنحنُ اليمانين، أبناء هذه البلدة العظيمة، لا نفهم أبداً ما معنى أن يكتب الأستاذ علي ناجي الرعوي، أطول رئيس تحرير صحيفة على كوكب الأرض، عن الرئيس: إنه أكثر زعيم في العالم معرفة بما يجري في العالم. مع أن العالم لم يعد فيه زعماء، بل مدراء، ولا قادة بل رؤساء من البشر، تلاحقهم الفضائح الجنسية مثل أي مواطن بسيط.
نحنُ أبناء هذه البلدة لا نعترف بالخوارِق، ولا بالخوازيق. نحنُ رائعون وبشر، نصنع منجزاتنا معاً. هكذا بنينا أقدم مدن الأرض، وزرعنا أطول مروجه الخضراء. نحنُ أرضيّون عقلاء لا نريد طرزان، ولا عُوجَ بن عنق، نُريد لذواتنا البشرية أن تبتكرَ مستقبلنا، تغيّر حاضرنا، تستلهم العبقري العابر للأزمنة من ماضينا. تكفينا سخرية عمرو بن بحر الجاحظ: ماذا أقول عن قوم ملكتهم امرأة وهدم سدّهم فأر. لقد قلنا له ولغيره: لن تملكنا امرأة بعد الآن، ولن يملكنا رجل، ومن سيحكمنا فإنه لن يكون أكثر من مواطن أجير يعمل وفقاً لمصلحتنا وحسب. وسنعمل بكل انتباه كي لا يبقى فأرٌ واحد في أرضنا الطيّبة. ولطالما نخرت الفئران في جدران بلدتي، بكل وسائلها وذرائعها، حتى جعلوا منّا أيتاماً يتأفف منّهم الأثرياء.. أولئك البدو الميامين الذين ما كانوا ليعيشوا ويتناسلوا حتى الآن لو لم يتقطّعوا لقوافلنا تجارتنا، ويتطفلوا على فضل زادِنا طيلة التاريخ. وبصفتي مالك هذه الأرَض، مثل بقية أبناء بلدتي، فأنا أطالب المتحاربين في صعدة أن يرحلوا عن أرضي. لقد أزعجوني أكثر مما أحتمل. أرهقوني، وأرهقوا أبناء بلدتي. وها هم، في دورة هذا العام، بدلاً من أن يعطوني راتب شهر رمضان الإضافي – المسمى بصورة مهينة : إكرامية- فإنهم اعتذروا عن سداده لأنهم صرفوا أموالي، أموال أرضي، في شراء الرصاص. أنا لا أريد هذه الحرب، ولا أقبل أن يحدثني أحدٌ عنها. هذه ليست حربي، ولا هي معاركي أنا وأبناء بلدتي. معركتنا مع أسئلة المستقبل، في الصحة والتعليم والمعرفة والإبداع. حربُنا هي البحث عن الأسئلة قبل الإجابات، مراودة المستحيل، ومناورة العاصفة الحضارية. أما من أراد أن يوزّع الرصاص في الوديان والمتاريس في الجبال فإن عليه أن يغادر بلدي إلى أي صحراء أو قارعة فارغة.
اخرجوا عن بلدي، وتيهوا في أي مكان آخر: في البرّ أو البحر. نحنُ هُنا في هذه الأرض من قبل أن يأتي السيد الهادي بخمسة ملايين سنة. على الحوثي أن يعي هذا جيّداً. نحنُ من آوى جدّه الهادي، بعد أن حاصرته الصحراء والبدو وقطّاع الطرق. وعليه فلسنا من مملوكيه، وإذا أراد أن يتولى إدارة شأننا، لرغبة في خدمتنا، فسنفكّر بالأمر فيما بعد شريطة أن يكون أجيراً لا مُلهِماً ولا سيّداً، وأن يوافق عليه أبناء بلدتي الطيبون.
وفي الجانب الآخر، على الأخ الرئيس أن يعتذر لنا، نحن أبناء هذه الأرض، عن مقولته: لم يتحقق لليمنيين شيء سوى في عهدي. أحب، أنا ابن هذه الأرض، أن أذكر الأخ الرئيس بأنني هُنا في جبال هذه البلدة وصحرائها من قبل أن يأتي إلينا بخمسة ملايين سنة. كما أحب أن أضيف إلى معلوماته أننا هنا منذ ملايين السنين نشرب من المطر ومن البحر، على السواء، ولم نكن نرى في ذلك عيباً ولا عقوبة. ولأننا شربنا من البحر فقد أحببناه، وبحبّنا له فقد وقفنا ضد أن يتحوّل إلى طريق شاسع للتجارة السوداء، والرقيق الأبيض، وتهريب الطاقة.
إنّنا أصحاب هذه البلدة سئمنا الانكسار والحروب والشتات والضياع، وأن كل انكساراتنا كانت بسبب أفعال الساسة لا المواطنين الطيبين المبدعين. لا حرب سوى تلك الحروب التي نقرّر نحنُ أننا بحاجة إليها. ولا مغامرات سوى ما نعتقد نحنُ أنها ضرورية لما تنطوي عليه من ممكنات اختراق المستقبل، ومنافسة العالم الحر. أوقفا هذه الحرب، وارحلا عن بلدي فقد آذيتماني بما يكفي لأن أن أتذكر أذاكما إلى الأبد. كلّ منكما يدافع عن الله، وكل منكما يحرس الأرض من شرور الآخر، وكلّ منكما يملك اليقين بصواب رصاصته، وكل منكما يقرأ سورة الأنفال قبل أن يقتل صاحبه.. ونحن الذين نقع خارج صوابكما، نحنُ أبناء هذه البلدة الذين لم نأذن لكما أن تقيما حربكما المقدسة هذه على أرضنا، نحنُ مالكي هذه الأرض الذين لا يعلمون لماذا تتقاتلان، ولا ما علاقتنا نحنُ بطيشكما أو حتى رشدكما .. نحن نطالبكما الآن أن تخرجوا من أرضنا، فقد سئمنا حروبكما الاحترافية هذه على نحو مخيف. خذوا عدتكم العسكرية، البسوا السلاح والنيران، وليبلغ كل منكم مدرّبه الأساسي: السعودية أو إيران، بوجهته الجديدة، على أن لا يمر طريقكما الجديد في أرضي. لن تكون أرضي طريقاً للنيران، ولن أسمح بذلك. احترفوا في ريال مدريد، أو جالاتاسراي، أو حتى في نادي منشستر يونايتد. أما أرضي فهي ملكٌ لي ولأبناء بلدتي، شبعت من الضجيج والدخان، تريدُ أن تنام باكراً وتصحو باكراً كما كانت تفعل من قديم قبل أن يباعد الله بين أسفارها، ويبدلها بجنيتن ذواتي أكل خمط، بسبب أفعال رجال لا تختلفون عنهم، أنتم يا أيها المتحاربون، كثيراً. أنا مالك هذه الأرض، اليمني ابن اليمني ابن اليمني، الذي يسيل دمه فيها منذ خمسة ملايين سنة، ولا ينازعني فيها أحد إلا رجل جاور دمُه فيها دمي، وعظام جدّه عظام جدي. أقول لكما بملء فمي: اغربوا عن وجهي، وارحلوا عن أرضي، فلا شأن لي بحروبكما النتنة هذه. إن أرضي ليست ملكاً لكما، لم يشترِها أيّ منكما بماله، ولا وهبتها له السماء دوناً عن بقية أبناء بلدتي. أنا مالك هذه الأرض، ومعي عشرون مليون مالكٍ آخر، لقد سئمنا كل هذا. فاخرجوا منها، ودعونا نتدبّر شأن مستقبلنا ومصالح سلالتنا. الوحا الوحا، العَجَل العجَل، الساعة الساعة.