توقفت الحرب، أخيراً. وتقرّر في الكتمان أن تستكمل في أوقات أخرى، ومؤقتاً سيكون الحوارُ هو الطريق الأمثل لحل مشكلة صعدة. هكذا اتفق أبو بكر القربي مع السيد عمرو موسى، طبقاً لتصريحات الأخير. ستتحاور الدولة مع " الإرهابيين، المتمرّدين، المخرّبين، القتلة، عملاء الخارج، قطاع الطرق، الخارجين عن القانون ... الشياطين". واحدة من هذه الصفات تكفي لأن تمد الحرب بأسباب بقائها خالصة الشرعية حتى ظهور الدابّة.
سكت الرصاص، فجأة، قبل أن تتغير الصفات السابقة إلى نواقضها. سكت الرصاص، دون أن يعلن الحوثيون الاستجابة للمطالب الستّة. وهم الذين ، طبقاً لإعلام السلطة، قد ناصبوا الأهداف الستة الأولى عداءهم المقيم، وها هم يقفون ضدّاً لكل ستّة في المستقبل، ضد الستة الأم والستة الإبنة. نامت الحربُ، أيها المقاتلون، فناموا، على الطرفين السلام. ذهب الحسم أدراج الدخان، واختفى في الدوّامة الأبديّة، ولن يراه بعد الآن أحد، كما لا يوجد بيننا من يقول أنه رآهُ من قبل.
لكي تحسم حرباً بالرصاص عليك قبلها أن تحسم المعركة الوطنية ضد الفساد، وإلا فإنه سيزحف في اتجاه كل شيء حتى يأكل سيفك. سيفك الذي لن يكون قادراً على المواجهة، إلى الأبد!
لقد خانت السلطة هذه الأمّة اليمنية حين قبلت إيقاف الحرب ضد أعداء الأمن والسلام الداخلي. هذه خيانة دستورية لا لبس فيها. أمرٌ واحد فقط يمكن أن ينجي السلطة من تهمة خيانة الوطن، وهو أن الحوثي وأصحابه ليسو أعداءً لهذا الوطن. هُنا، ستكون السلطة قد خانت الوطن حين اتّهمت فريقاً من أبنائه بالخيانة، ثم قتلتهم دون حق قانوني أو أخلاقي!
عندما اشتعلت الحربُ السادسة، استطاع الجيش اليمني أن يسيطر على حرف سفيان في لمح البصر. لقد نظّفها تماماً من آخر جيب للمتمرّدين، وعادت عروساً زرقاء العينين إلى عرش السلام في صنعاء. هكذا، بكل مجانية ويسر: انتهى التمرّد من حرف سفيان قبل أن يرتد إلى الحوثي طرفه.
وبعد ثلاثة أسابيع من المعارك، على قمم الجبال – التي ألهمت اليمنيين القدامى فنون المعرفة والإبداع – سكتت الحرب. لا شيء مهم يمكن أن يضاف هُنا سوى هذه الخبريّة: خرق الحوثيون قرار تعليق الحرب، بعد سريانه بساعتين، حين قاموا بهجوم كثيف ضد موقع عسكري في حرف سفيان. يااا إلهي، أليس هو حرف سفيان الذي حرره النسور والصقور والوحوش قبل ثلاثة أسابيع!
استخدم الحوثيون تقنية الصوت والصورة لترافق بيانات " مكتب السيد عبد الملك الحوثي" حول يوميات الحرب. وعبر موقع يوتيوب اطّلع آلاف البشر على قصص مصوّرة تقول أشياءً كثيرة عن الحرب، تختلف جذريّاً مع البيانات الرسمية المكتوبة . في ذات الوقت، كان " مصدر مسؤول" يسخر من ادّعاءات المخرّبين حول سير العمليات. السخرية في مواجهة الصورة، يا لها من استراتيجية خارقة للعادة! هُناك من يعتقد أن الحوثيين كسبوا المعركة الإعلامية باعتمادهم حساباً بريدياً على " الجي ميل"، لا غير، في مواجهة إعلام الدولة من صحافة وإذاعات وقنوات فضائية!
ليس للحوثي أهداف واضحة في هذه الحرب، فهو يزعم أنه اضطرّ إليها. أيضاً، ليس للنظام السياسي أهداف كلّية من هذه الحرب، فهي تزعم أنها أجبرت على خوضها. انسَ الأهداف الجزئية التي يتوزّعها رجال سبأ الأقوياء. لذا، كان متوقّعاُ أن تنتهي هذه الحرب في أي لحظة، كما متوقعٌ أن تشتعل من جديد في أي لحظة. الطرفان يعيشان في حالة من الفراغ والتخمة، في آن. السلاح والرجال المجهّزون من جهة، بما يمثّلونه من عبء على القيادة إذا لم تحسن تفريغ حمولاتهم من شحنات الهوس بالنار والدم والانتصار، تحت مسمّيات أرضية وماورائية عديدة. وفراغ البال من أسئلة المستقبل، من جهة ثانية. إنها حرب دائرية ،تقفُ فقط لكي تمتلئ الأحواض من جديد، ثم يترجل الفرسان ويبدأ الصراخ.
قال لنا إعلام النظام: هذه حربٌ تهدف إلى إعادة/ تعزيز هيبة الدولة. لكنها توقفت عند نقطة أبعد ما تكون عن هذا الهدف. توقفت في لحظة مؤاتية جدّاً لإسقاط حضور الدولة الذهني من عقول المواطنين. ما فعلته هذه الحرب هي أنها أسست لأخلاق جديدة ستمثّل واحدة من أهم عوائق بناء دولة المستقبل. من الآن فصاعداً سينظر اليمنيّون للدولة كبنية موازية لمجمل البنى التي تؤسس هذا البلد الكبير. سيُرفع السلاح ضد الدولة في كل مكان، فهي أضعف من أن " تحسم " المواقف الحادة لصالح هيبتها المزعومة. الدولة التي تخلق أسباباً غير واضحة، وغير مقنعة، لقتال مواطنيها، ثم توقف الحرب بدعاوى أخرى لا تقل هشاشة عن دعاوى الحرب .. هذه الدولة لن يُنظر إليها بوصفها حارسةً للأمن والسلام الداخلي في المستقبل، كما سترفع من حساسية التكوينات العشائرية والقبلية ضد سلوكياتها وقراراتها، لأن المعنى الذهني والأخلاقي والقانوني للدولة أصيب في مقتل.
بقي الحوثي في الجبال، مع رجاله وسلاحه، وعادت مجاميع القبائل التي اشتركت في قتاله إلى ديارها وهي لا تخفي إعجابها ببسالة خصومها. يتعلّم القبيلي من خصمه الكثير من فنون السلم والحرب. هذا السلوك جعل القبائل اليمنية تعيش أخلاقاً مشتركة في كل طقوس الحياة. الآن، تتعلم قبائل الموالاة من قبائل المعاداة " إنما النصر مناجزة ساعة" كما صاح حوثي مرموق. ويعودان معاً، الخصمان، إلى داريهما يحملان جثة كبيرة اسمها " هيبة الدولة".. مئات التعليقات في عشرات المواقع على الإنترنت رددت هذه الفكرة بصياغات وتنويعات قولية لا حصر لها! تكفي مثل هذه النتائج الذهنيّة لحرب ما لأن تجعلها خاسرة وبمنتهى الوضوح.
أعلن النظام الحرب على المتمرّدين لحماية المواطنين في صعدة. هكذا جاء في بيانات اللجنة الأمنية، والناطق الإعلامي وبقية شلّة حسب الله وخالتي فرنسا وأحمد سعيد. وبلا مقدمات أعلن النظام إيقاف الحرب على المتمرّدين لحماية المواطنين في صعدة. هكذا، أيضاً، جاء في بيانات اللجنة الأمنية و ... إلخ. إنها حكمة القيادة في أحلى تجلّيها، ذلك أنها اكتشفت أن الأسباب التي دعت للحرب كانت هي ذاتها الأسباب المثلى التي تدعو لإيقافها! وما بين اللحظة التي صدع فيها الرصاص بما يؤمر، واللحظة التي أمر فيها بالصمت تواردت أسباب كثيرة تبرّر هذه الحرب، كان كل سببٍ منها أباً فاضلاً لجملة من الأسباب الأبناء، حتى اكتشفنا في لحظة ذهول أن اليمن تحارب العالم كلّه ( دول خليجية، العراق، إيران، قوى معادية متصهينة ... إلخ) مرّة أخرى، توقفت هذه الحرب استجابة للدعوات الإنسانية التي أطلقتها كل هذه الدول المعادية!
أعلنت اللجنة الأمنية الحرب ضد المتمرّدين الذين يعيشون في صعدة وعمران ( أي بين البشر والدواب والأشجار). وفي منتصف الحرب اكتشفت هذه اللجنة الخاصّة مشكلة جسيمة: نازحون بمئات الآلاف يفرّون من الموت. يصعبُ على أبسط عقل بشري أن يتخيّل كيف أن لجنة أمنية معنيّة بالتخطيط لحرب قاسية لم تضع هذه المشكلة في الحسبان بينما هي تتوعد باقتلاع التمرّد من جذوره ونصب المتاريس مكان المدارس. طمّنتنا السلطة أن أحد أسباب إيقاف الحرب كان مشكلاً إنسانيّاً " نازحو صعدة". فكيف أتاحت السلطة لنفسها الحديث عن حرب تنتهي بالحسم النهائي دون أن تفكّر في مواجهة مشكلات ضخمة، كالقضايا الإنسانية، لا تحتاج لعقل جبّار للتنبؤ بها! وأن تقترح حلولاً عملية لتجاوزها لكي لا تقف هذه المشكلات الجانبية الضخمة حدّاً دون إنجاز الهدف الكبير: حسم المعركة مع المتمرّدين بصورة أبدية!
كتبتُ أثناء الحرب الخامسة، في صحيفة النداء، أن القائد الفارسي الشهير نادر قيلي انطلق يفتح الشرق والغرب حتى اجتاز حدود سيبريا. كان يسوق موته أمامه، ويخشى تلك اللحظة التي ستنتهي فيها الحرب عن الدوران. فقد قال لمستشاريه: أخشى إن انتهت الحربُ أن لا أجد ما أفعله لهذه الأمّة، فتكلفة الحرب بالنسبة لي أخف من تكلفة السلم. وهكذا، ظل يقاتل حتى غاصت روحه في جبال الدنيا الكبيرة.
ثمة اقتراح بسيط. أود أن يبادر فاعل خير إلى التقاط مشروع " الاتحاد العربي" الذي قدمته القيادة السياسية لقمّة الكويت الأخيرة، بغية إصلاح حال الأمة، فرفض على نحو مثير للشفقة. على أن يبادر فاعل خير آخر، شريطة أن يكون هو نفسه صاحب هذا المشروع، ويعيد صياغته بحيث يصبح عنوانه " الاتحاد اليمني". وأن توضع كلمة "اليمن" و" الشعب اليمني" محل أي كلمة على شاكلة " العرب، الأمة العربية". إذ لا تتفق هذه الظواهر مع بعضها: دعوة رئيس الجمهورية كل المكونات السياسية والاجتماعية اليمنية للحوار، ودعوته للحرب ضد مكوّن يمني حقيقي بعد الدعوة الأولى بأقل من شهرين. علماً بأن صاحب الدعوتين، الحرب والسلام، هو ذاته صاحب مشروع "توحيد الأمة العربية"..
* هذا المقال كُتب عقب إعلان اللجنة الأمنية العليا تعليق الحرب.