ما الذي حَدَثَ، في حدثٍ 11 سبتمبر؟ سؤال عالجه "جاك دريدا" في كتاب من ترجمة الصديقة "صفاء فتحي".. يبدو لم يزل الحدثُ، ولم تزل هنالك كتب ستعالجه، لكن على مستوى الحارات في شوارعنا العربية!
1
قبل ما يقارب العقدين، في زيارات تكررت لمقر السجن المركزي بصنعاء، بحكم طبيعة دراستي الجامعية التي كانت تقتضي مثل هذه الزيارات للسجون والمصحات النفسانية، في سجن النساء، (الذي فاجأني مؤخراً تغير شكله كليا عما كان عليه) في الساحة التي كانت أشبه بفناء مدرسة، ومواعيد الزيارة تجعلها أكثر شبها بمدرسة وقت "الراحة"، تتداخل السجينات بالزائرات لحد الالتباس! (الدخول ببطاقة والفاقدة بطاقتها لا تخرج!)، في ذلك الحفل الحاشد، الذي لا يزيد عدد أفراده عن المائة على أية حال، لكنه يبدو لك حشداً حافلا، لا تتطلب جهداً، معرفة أن 98% من السجينات، تهمهن تنحصر في الدعارة والقوادة، والزنا، والاختلاء (تلك التهمة التي لم ينزل الله بها من سلطان!) والخ.. من تهم الجنس وأعماله. نسبة تقول لك دون مبالغة أنك من بلد سكانه لا يشتغلون بشي غير الجنس! فرحت عندما التقيت حالة سرقة، وأخرى قتل! والأخيرة لها في اجتماعية السجن درجة مرتفعة، وتتصرف كبطلة منفردة في فلم كل شخوصه كومبارس، فيما عدا المخرج طبعا! في تلك الساحة ولعديد مرات التقيت سجينات خطر لي حينها أن أسميهن "نزيلات"، إنهن يستعملن السجن تماماً كما يستعمل النزلاء الفنادق! مع فرق أن هؤلاء يعرفون لماذا، وأين ومتى، ويحددون الدرجة الفندقية الملائمة لموازناتهم ودخولاتهم المالية، لكن هؤلاء النزيلات لا يحددن شيئا، لا يعرفن لماذا حبسن، ولا متى يخرجن.. بعضهن يدس في يدك قصاصات ورق بأرقام هواتف، بقراءة أسماء أصحابها يصيبك الذعر! معقول فلاااان هو المتعهد! الحجرات أيضا تشبه الفصول المدرسية (كان ذلك الشبه قبل 17 سنة) دونما كراس طبعا ولا مناضد مدرسية. في واحدة من تلك الحجرات التقيت طبيبة! فاجأني أن أجد في السجن جامعية وطبيبة! لم تطل الحيرة! إنها طبيبة نساء "ولادة" وعمالة الجنس وبنسبتها المرتفعة تلك تحتاج إلى تلك الطبابة، بل إن طبيبة واحدة لا تكفي! (بالمناسبة: تصادف؛ بعد سنين طويلة، أن التقيت تلك الطبيبة، لقد أصبحت صاحبة عمارااات وثراء.. اللهم لا حسد! لكنني لا أخفيكم، لعنت الكتابة اللي ما تأكلش عيش، وإن عُدتْ عملا، فإنها في بلدي، العمل الذي يزري، بينما الجنس وأعماله لااا!!!).
خارج السجن، سألت محامياً شهيرا، كثرة اشتغاله بمهمة إخراج تلكم "النزيلات" من السجن، لفتتني؛ ألا تشبه مهمته تلك ذاتها التي تقوم بها الطبيبة داخل السجن؟ سألته لماذا، وهو اسم ذائع الصيت، يزج بنفسه بقضايا يفترض أنها من حيث المبدأ خاسرة..! هو يعرف أن هذه ال"س" فعليا تمتهن الدعارة، إنه يخرجها من السجن كل مرة، لتعاود العمل بالدعارة. على الفور أجابني بزهو طباخ يقول لك: هكذا أصنع الكعكة! دائما ثمة خطأ في إجراءات القبض على الواحدة من هؤلاء، أبحث كل مرة أين يكمن الخطأ في تلك الإجراء، وأطلعها براءة! لكنك أقول له -تعرف أنها ليست بريئة- فكيف تقبل، ضميريا، أن تشهد لها بالبراءة؟ أنا لا أشهد قال لي، أنا عملي في القانون.. وهذه مهارتي، أن تكون الحلقات مغلقة وأجد حلقة واحدة ضعيفة تفرط العملية كلها!
قبل عامين، وفي ظروف شبيهة، أي في جو ينضح بالدعارة والقوادة، تكرر أن طرحت مثل تلك الأسئلة، لكن مجيبي هذه المرة قالها، والحق أني طربت لها؛ إجابته: أنا لا أدافع عن الدعارة ولا عن القوادة ولا عن القتلة، ويؤسفني أن ينجو أي من هؤلاء رغم فعلتهم تلك، لكنني أدافع عن القانون، هنالك قانون شهير في العالم كله اسمه قانون الإجراءات.. هل تعرفين أنه من ابتكارنا، قال، وسرد علي قصة عمر بن الخطاب حين داهم سكرانين في عقر دارهما ليضبطهما متلبسين بمعاقرة الخمر فحاججاه أنه إذا كان عليهما إثم واحد فإن عليه اثمين اثنين الأول تصنته عليهما (وتليا عليه آية لا تجسسوا) والثاني تسوره أي أنه قفز إليهما من فوق السور، (وتليا عليه: وأتوا البيوت من أبوابها..) فعاد أدراجه دون أن يمسهما بسوء. أضف إلى أنه ينطبق عليهما فقه: وإذا ابتليتم فاستتروا، والمهم أن قصاص الحدود، له شروط مشددة، وبمقاصد قانونية غايتها خدمة المجتمع وحماية أفراده.
2
القانون الذي فيه؛ المدعي والمدعى عليه! الواحد منهما ند للآخر. ليس للمدعي سيادة ولا سلطة على المدعى عليه، كلاهما ينتظر كلمة القانون، الكلمة الفصل، التي بعدها يذهب كل منهما إلى حاله، دون أن يكون له ثأر، أو عليه ثأر. وحتى الذي ينفذ إلقاء القبض، سلامة الإجراءات تنزهه أن يكون عدوا شخصيا للمتهم. القانون يجعل من المتهم ندا حتى للقاضي الذي سينطق بالحكم، وظيفته التي تخول له أن يحكم لا تعني أبدا أن له سيادة شخصية أو سلطة على هذا المتهم.
الكلام عن قانون، وعن ناس تحت مظلة من قانون، يشبه الكلام عن مدينة فاضلة!
3
إذا كانت المدينة هي مجموعة البنى الخدماتية، من كهرباء، وهاتف، ومياه، وصرف صحي. ولمن أراد أن يفرط: صحة وتعليم... الخ. فإن المدنية هي باختصار: مجموعة القوانين "المحترمة" أقصد النافذة دونما انتقاء..!
الحمدلله، نحن لا مدينة ولا مدنية. ليس لنا من مظاهر المدينة غير أقسام الشرطة (لمن دخله غير محدود أن يضيف الهاتف). كما ليس لدينا من المدنية غير نقاط التفتيش. باعتبارها تعكس القانون، ولمن أراد الدقة: قانون الطوارىء. والأخير في كل بلدان العالم يقتضي إعلانا مسبقا عندنا يمكنه أن يسري دونما إعلان.. (عندهم حق لمن يعلنون!) نقاط تفتيش تزداد كل يوم، ويزدحم بها المرور، حتى يخال إليك، أنها ستمتد إلى داخل بيتك.
انتبه: سيكون لديك عسكري يضع برميله غير المرئي في المساحة ما بين غرفة نومك والحمام!
وتذكر: إنهم يحرسون الديموقراطية!
ستقول لي أن الديموقراطية لا تحرس بالأعيرة النارية (والمالية). لا سلاح لها غير احترام القوانين والأنظمة! يا محترم! هذا الكلام هناك، في بلاد الكفار! نحن ديمقراطيتنا غير!
ما هي الديموقراطية؟ سؤال وجيه، لكنني أعتقد أنه يحتاج إلى تدقيق لغوي: من هي الديموقراطية، أو من هو الديمقراطية، أو من هم الديمقراطية؟
الجواب: لا أعرف! كل شخص عندنا هو ديموقراطي بامتياز، يحدثك عن الديموقراطية كأنما هو الذي ابتكرها، (وشحنها في شيول إلى أمريكا)، كلنا يتكلم في الديموقراطية، وينظّر لها، ويؤسس لقواعدها، ويعتقد، ويرى، ويتأمل، ويحزن، ويبتئس لأن الآخرين ليسوا ديموقراطيين. وفجأة حين يغضب منك، أو يختلف معك، يبلغم، ويندفع من داخله شيول!
ربما هذه هي الديموقراطية بالفعل؟
على الأقل هذه هي الديموقراطية التي أسسنا لها منذ السبعينيات، بل منذ مؤتمر خمر 65م. والمسارات كلها تسير بالديموقراطية لتكون هذا الذي صارت عليه: "شيول"!
4
بالقياس إليه؛ ستكون حوادث الثأر ديمقراطية (إنه يحكم لنفسه)، وحوادث الاختطاف ديمقراطية، وامتلاك الأراضي بوضع اليد ديمقراطية، أليس يقتسم الثروة بينه وبين غيره! ويصبح الشخص أكثر ديمقراطية إذا كان مقتدرا، ولديه ثكنة عسكرية في بيته، ومعتقلاً، ويحبس، ويحاسب، ويعاقب، وبكل ديمقراطية! إنه لا يفعل شيئا أكثر من أنه يساعد ويشارك في الحكم! ثم إنه حكومة أساساً. ألم تتسع رقعة الجهاز التنفيذي (وحتى التشريعي) للتجار والشيوخ، ليحكموا لا بالقانون، بل بما تمليه عليهم، ضمائرهم، وبصائرهم. وهذه هي الدمقراطية!
وإذاً؛ لماذا يُستغرب حادث الحصبة 15 ابريل 09م؟ (لا أحد يستغرب، فقط أنا وأشباهي الذين بلا شيول!) إنه أقوى ما يمكن تصوره من تجسيد لمقولة: الشعب يحكم نفسه بنفسه. أليست هذه، هي المقصد النهائي لانتهاج الديموقراطية؟ سرنا، بل قل: وصلنا والحمدلله إلى غاية أن يحكم الشعب نفسه بنفسه!
سؤال: ما دمنا شعب يحكم نفسه بنفسه دون أي تدخل من أية حكومة، فلماذا لم تزل تجثم فوق أكتافنا هذه الحكومة.. وثقيلة، وباهظة
سؤال؛ إما أنه غبي، أو أنه مغرض، طبعا لابد من حكومة! كلنا، بالجملة هكذا موجودون لأجل أن تكون هناك حكومة! حتى لو لم نكن موجودين، أيضا سيكون هناك حكومة!
5
هل تعرف ما هو حادث ابريل الحصبة؟ أشك أنك تعرفه! لأن رئيس الجمهورية لم يكن هناك، فتهب الكاميرات وتلتقطه ضمنا! الرئيس هو الصورة، الحادث خلفية! كلها الصور كانت للرئيس والحوادث خلفية! حتى فيضان حضرموت كان ملحقا خبريا بتنقلات الرئيس وتصريحاته! الرئيس لم يهب إلى الحصبة يومها.. فما من حادث..!
ابريل الحصبة، ليس شهيرا، ليس حدثا كبيرا إلى تلك الدرجة التي يفترض أن يكون عليها. وتم بسهولة ويسر، حتى أنه لم يتدخل عسكري واحد لمنعه. صحيح؛ كيف يتدخل عسكري لمنع حق ديمقراطي مكفووول، وستجد فيه الحكومة مكسبا، تحديدا؛ الحاكم!
مساكين العسكر، في مظاهرة (تموز 2005) رابطوا ودباباتهم، أياماً بلياليها في الحارات والأرصفة، بمدافع ورشاشات متيقظة، كأنما هي سماعة أذن، يجسون بها نبض الشارع، ويضبطون تنفسه! بينما لم يتمكنوا من التدخل لحماية بيت واحدة تدك وتهدم ليس فقط في حجارتها بل وسمعتها وعيشها بين الناس!
المسكينة حقا هي الصحف الصفراء، ستنخفض دخولاتها المالية، لأنه ستقل جدواها للحاكم، وقد تنخسف بالمرة.. وبشيء من المبالغة لن يكون هنالك حاجة لاستنساخ صحيفة أو حزب، أو مظاهرة، أو حراك.. يكفي أن ينزرع لك "جار"! قديما كان ما يسمى ب"الاحتساب"، يقدم لجهة ذات اختصاص، وتسمع نصه عبر الإعلام، يقرأ علنا وتليه استتابة، اليوم تطور كل ذلك إلى "جار".. إلى شيول!
6
ابريل الحصبة، ليس حدثاً ذا شأن، ليدخل جدول أعمال البرلمان. والأخير، جيد أنه لم يرسل برقية شكر، يؤيد بها ممارسة الشيول! لكنه أرسل، على أية حال، لجنة تقص، ليس لتفقد المواطنين، سكان البيت، وحصر أضرارهم، بل للتثبت من صحة ما نسب إليهم من تهم! هل هذا وقت تقصي التهم! فات وقت بحث التهم، ثمة الآن تدخل غير قانوني وغير مسؤول، حرمنا كلنا، من حق البحث في تلك التهم، والمحاسبة عليها، طبعا عبر ممثل لنا هو النيابة والمحكمة! يا برلمان يا الذي اختصاصك إقرار القانون وتوقيره!
7
ليس دفاعاً عن أسرة لا أعرفها أصلاً، لكن؛ في هذه البلاد، ليس هنالك دعارة قطاع خاص.. لا يسمح لراغبة أو مضطرة إلى هذه المهنة، أن تعمل لحسابها الخاص. أستطيع أن أجزم: إذا كان لا يزال هنالك، في هذه البلاد، ما يمكن تسميته بالقطاع المختلط، فإنه يتركز في مجال الدعارة والقوادة، ومرافقه، وعماله بدءاً من البنت (المجرورة غصبا عنها، ومن أول زلة) مرورا بحشد هائل من التجار والضباط والمرابين، إلى الوزير المختص هنا، إلى الوزير المؤهل هناك.... الخ..
لا ضرورة لأن تغاروا على نسوانكم، ولا تصدقوا الذين يفترون، ويعتدون على جيرانهم تحت مبرر هذه التهمة. لأنه؛ تطورت قوادة اليوم، وترسملت. (لولا الفساد لكانت واحدة من أهم مصادر الدخل القومي)، إنها مافيا لا مجال فيها لرؤوس المال الخفيفة والمتوسطة. والمنتسب إليهم يصبح مكفولا ومحميا بقوتهم ونفوذهم، لا يطاله جار، ولا يقدر على هدمه شيول!
8
والآن؛ ما الذي حدث بابريل الحصبة؟
تريد الحقيقة: نحن لا نرى ولا نسمع إلا ما يريد لنا الحاكم أن نراه ونسمعه!
بينما الحادث كان في غاية الأهمية للحاكم، ربما أكثر أهمية من حروب صعدة التي يبدو لم تُجْده، في حساباته الدولية! لكن حادث ابريل الحصبة! هل أفضل من هكذا حادث! إنه الحادث الموضة.. هل أفضل من أن يكون لديك، كحاكم؛ حروب صغيرة ليس من شارع لشارع، بل من بيت لبيت! وتحت السيطرة، ومضمونة! إنه قمار مكافحة الإرهاب الذي يحتاج إلى لاعبين صغار؛ يمكن إتلافهم، واستبدالهم أولاً بأول!
هل سمعت تلك النكتة، أذاعتها قنوات الأخبار باقتراب خروج معتقلي جوانتنامو: لسنين واليمن تطالب بمواطنيها المعتقلين، يبدو؛ كان ذلك فقط من قبيل المزايدة. وأخيراً أعلن المزاد، طلبت اليمن لتستقبل أبناءها، مبلغ مائة مليون دولار! لكنها، ولأن المزاد مرن في العادة، فقد ظهر المدافعون عن شرف اليمن وسمعتها، لا لينفوا، بل ليؤكدوا لكن بتعديل المبلغ: لم يعد مائة مليون دولار، عشرة ملايين تكفي! يا بلاش!
يبدو، هؤلاء الخارجون من المعتقل، هم قيمة مستهلكة، ويخشى أنهم؛ لا يصلح الواحد منهم لإعادة إنتاجه، ومن ثم إعادة استعماله في حرب الحارات، الحرب التي من بيت لبيت! والتي لا يكترث لها أحد، أو لا ينبغي أن يكترث لها أحد غير المخابرات الأمريكية!
هوامش على دفتر الشيول
شيولة الديون: هذه ليست تفسيراً لجدولة الديون، بل بديل، ولا بأس فيها من التضحية ببعض الأفراد، أو بعض الأسر!
لصغار المرتشين، لا يوجد كبار مرتشين، والذين تظنونهم كذلك، هم في الواقع أصحاب "حصص" مقطوعة ومفتوحة وتطال كل مصدر دخل ضؤل أم عظم شأنه. وإذا: لصغار المرتشين: أظنه آن لكم، للواحد منكم، وهو يطلب "حق القات" أن يضيف: "حق الشيول"!.
للوزراء الذين منعوا هكذا يقولون أنهم منعوا من السفر للخارج فقلبوها سفر داخلي، وببدلات خيالية لا تدري فيما يصرفونها في سفرهم "الداخلي" ذاك ونفقاته كلها توافى بها وزاراتهم كفواتير مستحقة السداد. لهؤلاء: جدّ بدلٌ، اسمه: بدل أزمة مالية في أمريكا. مبروك!
وأنت! ما عندكش بدل سفر؟ ولا بدل شيول! حاجة تخوف، لا جعلك الله جارا لغافل!
هنالك وزراء منصبهم برمته هو عبارة عن بدل شيول. الرمة: هي خطام الجمل، وأحيانا الحبل الذي يربط الحمار من رجله، وأحيانا الوظيفة العامة العليا التي ترتبط درجتها على دم مسفوح.
من هنا صار لضعفائك استبدال صيحاتهم الساذجة: "يا دولتاه" بالصيحة الذكية: "يا شيولاه"!
وعلى هذا القياس يصبح لزاما على الأحزاب، وعلى الانتخابات أن تنزل إلى الشارع باستحقاق: التبادل السلمي للشيول!