الأنوية أساس الطغيان. والانوية من الأنا وتعني التمركز حول الذات والتمحور حولها، ورد كل شيء إليها. أي أن كل الأفكار والرؤى والآراء ووجهات النظر والآمال والتطلعات والأماني والأحلام.. تنبع من الذات الانوية بمعزل عن الذوات الأخرى.. لا أريكم إلا ما أرى. الانوية عكس الغيرية التي تعني الاعتراف بالآخرين وتفهمهم والتعاطف معهم واعتبار مصالحهم.. الانوية على العكس تعني توجيه كل نزوة الحب إلى الذات والمقربين منها.. وتتنكر للآخرين وتلغي وجودهم.. الآخرون بالنسبة للشخص الأنوي هم مجرد أشياء أو كائنات مسخرة أو يجب إن تسخر لخدمته.. مجرد أفلاك تدور أو ينبغي إن تدور في عالمه. وعادة ما يستجيب الأنوي لرغباته بشكل عدواني ويشعر بالغبن وبالحقد إذا لم تسخر له كل الأمور. والأنوية هي مرحلة طفلية أو طفولية تستصحب إلى مراحل عمرية أعلى لتصير نفاجاً، ما لم تهذب وتشذب بالثقافة والعلم. والنفاج يعني المبالغة الخرافية في تقدير الذات. النفاجي باختصار هو كائن مهووس بالعظمة ورفعة الشأن. أو هو يقدم نفسه على انه كذلك دون أي جهد فعلي للوصول إلى هذه العظمة, فكل شعور بالعظمة هو مركب نقص مقلوب. وأي شخص انوي نفاجي يجد نفسه فجأة في السلطة, إما لحسن الطالع والصدف الحسنة أو على حين غفلة من الزمن والشعب، أو للأمرين معا، بما تعنيه وتتضمنه السلطة, من إمكانيات لا محدودة في السيطرة والإخضاع والتأثير.. يتطور النفاج لديه ليصبح ما يعرف ب«جنون العظمة». وهو حالة ذهان مزمن يتخذ شكل هذيان منظم يغلب عليه طابع التأويل. بمعنى إن هذيان العظمة هذا يجعل المتسلط.. الطاغية عاجزا عن رؤية الواقع كما هو بالفعل.. ويلجأ إلى فهمه فهما تأويليا على ضوء هذيان العظمة لديه. إذ تتملكه مجموعة من الهذيانات والهلاوس التي يؤمن بها كمعتقدات لها بنظره صفة اليقين.. هذه الهلاوس والهذيانات ذات طابع اضطهادي وغير قابلة للتغيير بالإقناع والبراهين العملية.. إذ هو يعتقد أنه ضحية مؤامرات تحاك ضده وتريد النيل منه باستمرار، طمعاً ربما في مكانة المصطفى من قبل الله التي خص بها نفسه ويستجيب بالتالي لما يعتقده, بمجموعة من الإجراءات الهجومية والدفاعية التي تتخذ بنظره طابع الدفاع المشروع عن النفس. أي انه يستجيب على نحو عدواني اهتياجي مع طغيان مشاعر عارمة بالسطوة والجبروت كرد فعل دفاعي تجاه مشاعر النقص الشديدة لديه.. جنون العظمة هو الوجه الآخر لجنون الاضطهاد. والسلطة مع ما توفره من إمكانيات ومع وجود الحاشيات والمتزلفين والأزلام «الذين يحتاجهم المتسلط» الأنوي النفاجي لتغذية نرجسيته, ولمنع بروز مركبات النقص لديه.. تجعل ذاته تتضخم أكثر فأكثر.. إذ تتسع وتتمدد لتبلغ حدا كونيا. بمعنى أن الكون بما هو عليه من سعة ينحسر ويتقلص بمقدار تمدد واتساع ذات الطاغية التي تتضخم لتصل حد الكون نفسه.. في هذه المرحلة لا يعود الطاغية يرى سوى نفسه.. إذ يصبح في عين نفسه أميرال الكون.. القائد الأعلى للزلازل الأرضية.. ملك الكسوف والخسوف.. مرسل السحاب ومنزل المطر.. الرجل الذي تعجز النساء عن إن يلدن مثله.. ليس كمثله بشر.. هو وحده صنو نفسه.. مما يجعله يرى أن نهاية سلطته تعني نهاية الكون نفسه.. وخروجه من السلطة يعني نهاية الحياة ذاتها. لذلك وباللجوء إلى مجموعة من الميكانيزمات «الاواليات» النفسية الدفاعية.. كالميل الاختزالي والاحتماء الدمجي.. الذي يعني اختزال كل الوطن في شخصه ليصير هو نفسه الوطن. ما يعني إن أي معارضة له هي معارضة للوطن ذاته. ولهذا قيل بحق ان الوطنية هي آخر ملاذ للوغد. إذ هي هنا وسيلة احتمائية في مواجهة الخصوم وعوامل القلق لدى الطاغية.
الشرعنة.. الاستبرار: قيام ثورة على طاغية هذا حاله يعني انهيار عالمه كله.. وبسب هذيان العظمة لا يستطيع رؤية الحقائق كما هي في الواقع, العياني الملموس، بل يراها من فوق عرش أوهامه.. بمعنى انه يعجز عن النظر إلى الثورة بوصفها حركة شعبية عفوية وتلقائية, ويلجأ إلى رؤيتها وفهمها فهما تأويليا في ضوء هذيان العظمة لديه. ولتعزيز هذا الفهم الهذياني يلجأ إلى ما يسمى بالشرعنة أو الاستبرار.. وهي عملية نفسية ناجمة عن رد فعل البراءة.. أي تبرأه الذات وتأثيم الأخر لتبرير إفراغ كل العدوانية المكبوتة عليه.. والآخر هنا عدو مصطنع في الغالب لغرض إفراغ هذه العدوانية وصبها عليه, وعلى كل العوامل المسببة للقلق. لهذا فالثورة هي نتيجة لمؤامرة حيكت وحبكت ضده بهدف النيل منه.. من قبل هذا العدو المصطنع.. لذلك ومن خلال تحميل هذا الآخر/العدو مسئولية المأزق العلائقي الذي وصلت إليه العلاقة والنظر إليه بوصفه عقبة كأداء في طريق السعادة الذاتية.. يشرعن العدوان عليه. لذلك وعلى الرغم من أن علي صالح عند إعلان المشترك انضمامه لثورة الشباب ظل يردد واصفا المشترك بقوله «هؤلاء راكبي موجة» إلا انه عاد بتأثير هذيان العظمة إلى تصوير الثورة كأزمة مفتعلة من قبل هؤلاء. جاعلا إياهم بمثابة الشجرة التي تحجب الغابة.. مركزا كل جهده وجهد أزلامه وإعلامه عليهم. كنوع من الشرعنة والاستبرار بغية تبرير العدوان على الاعتصامات والمسيرات والمظاهرات.. وبطريقة أو بأخرى مكنه ضعف الأداء السياسي.. والتردد والتراخي والحيرة لدى هؤلاء.. على تصوير الأمر على هذا النحو. والجدير بالتركيز هنا هو أن اندلاع الثورة في وجه الطاغية الذي أطمئن إلى وهم تملكه للبلد أرضا وبشرا «لا يراهم إلا كأشياء» وفي أحسن الأحوال مجرد بشرا يرون في النعاج القدوة الحسنة لهم.. بدليل سعيه لتوريثهم لأبنائه.. هذه الثورة تخلخل عالم الطاغية وتنسف أوهامه وتصيبه بجرح نرجسي.. ومعناه المساس بأعمق جوانب الذات.. بصميم الاعتبار الذاتي المحوري.. بصلب الكبرياء.. ما يولد ألاما شديدا وحميمة جدا، ويفجر كل العدوانية المكبوتة. هذه الحالة وهذا الجرح النرجسي يجعلنا أمام سيناريوهين محتملين يتحدد كل منهما في ضوء العوامل الذاتية والموضوعية المحيطة بشخص الطاغية.. الذاتية: المتصلة بشخص الطاغية نفسه، درجة التعليم مستوى الثقافة والوعي.. والموضوعية: مدى تجانس النسيج الاجتماعي في البلد.. والأهم مدى الصلاحية المتمثلة خاصة بالصرف من المال العام.. وحالة الجيش، هل هو مؤسسة وطنية مهمتها الدفاع عن أمن وسيادة الوطن.. أم منقسم مع وجود وحدات عسكرية خاصة ذات ولاء عائلي ومهمتها حماية الكرسي والدفاع عنه.. وبالتالي وتبعاً لهذه العوامل فليس أمام الطاغية إلا إن يقبل بجرحه النرجسي ويغادر السلطة بكبرياء مجروح.. كما في حالتي بن علي ومبارك.. اللذان خرجا, أو أرغما على الخروج, وهما يلعقان جرحيهما.. وإما أن يختار مواجهة ضغط الثورة وخوض الصراع معها إلى منتهاه.. وهذا ما يجعل الطاغية عرضة لتفاقم حالته سوءا ليقع أخيرا فريسة للفصام التام ونعني تحديدا وقوعه في عرض خطير من أعراض الفصام.. وهو ما تشير إليه بعض المراجع النفسية ب«الجمدة» الشخصية الانفجارية: والجمدة هي احد أخطر أعراض مرض الفصام. تتخذ طابع التخدير الكلي للإحساسات 'في حالة من الإعراض التام عن العالم وإدارة الظهر كليا للوجود. يتوقف فيها الجهاز الحركي عن التفاعل مع المحيط الخارجي ويجمد متخذا شكل المواقف الشخصية الثابتة.. وتتضمن هذه الحالة عدوانية شديدة تنفجر في فورات غضب خطير.. كما تنطوي على عناد ذهني شديد ورفضا أشد للتجاوب مع الآخرين.. هي في العمق حالة دفاع متطرف ضد طغيان الأخطار الخارجية التي تتهدد الذات.. وتقوم على أساس من نفي التأثر بتلك الأخطار عن طريق إبطال الإحساس بها. وهذا أساسا ما يمكن المصاب من الاحتفاظ بشيء من توازنه النفسي والوجودي في مواجهة الأخطار والتهديدات الخارجية. وهي الحالة التي لاحظناها لدى القذافي، الذي رأيناه يظهر متماسكا إلى حد ما على الرغم من تراكم الخطوب والأخطار الداخلية والخارجية في وجهه.. وهي ذات الحالة التي يقود علي صالح نفسه إليها، حسبما يظهر من خلال مؤشرات وشواهد عديدة. والجدير بالتأكيد هنا هو ان المصاب يعيش انفجارا داخليا خطيرا. هو تحديدا الانفجار الناجم عن ضغط الأخطار والخطوب المتراكمة في وجهه.. وعن اليقين الداخلي المموه بأنه يسير في طريق مسدود. وهذا بالذات ما يفسر جنوح هؤلاء إلى خيارات تبدو للشخص العادي، السوي ,خيارات عبثية وعدمية.. كارثية وانتحارية. إن مأساة الطغيان تتلخص في كون إن الطاغية الذي يعيش حالة يرثى لها «هي حالة رئيس مدى الحياة» يصبح سجين سلطته الخاصة.. إذ يرى إن كل الناس ينتهي بهم الحال إلى إن يختاروا أسلوب التقاعد الذي يناسبهم إلا هو لا يمكنه ذلك. ذلك إن الطاغية «مذ صعوده إلى سدة الحكم» لم يكن يحكم بل بالأحرى يتحكم، ما يجعله يسير في طريق ذي اتجاه واحد لا يحتفظ لنفسه بخط رجعة.. هو هنا أشبه بمن يجد نفسه فجأة على ظهر وحش كاسر فيمسك بلجام هذا الوحش ويستخدمه في البطش بالآخرين والتنكيل بهم بغية السيطرة والإخضاع.. ويبقى أن الطريقة الوحيدة لبقائه، هو نفسه في مأمن هي في البقاء على ظهر الوحش.. لأن نزوله يعني «بالنسبة له» أن الآخرون سينقضون عليه انقضاض سرب من كلاب الصيد على غزال. الطغيان تبعا لهذا معناه إن تضع نفسك في وضعية مأزقيه كهذه وتترك الآخرون يدفعون ثمن الخلاص منها.
استخلاص: نخلص إلى القول بان علي صالح قد حدد خياره بوضوح، أوان قدره قد ساقه إلى إن يحدد خياره بوضوح، على النحو سالف البيان. ما يفرض على قوى الثورة السلمية إن تحدد، هي الأخرى، خيارها بوضوح. أي أن عليها إن تحدد خيارا استراتيجيا، وليس تكتيكيا، يتواءم وواقع الحال، بالنظر إلى إن علي صالح قد حدد خياره بوضوح، والى إن الثورة قد حققت أهدافها من حيث إسقاط الشرعية عن علي صالح ونظامه. وان بقي هذا النظام موجودا على الأرض، فوجوده إنما هو محض وجودا مادي يتساوى وفعل الغصب والاعتداء. أي انه وجودا ماديا مجردا من أي شرعية، قائما على قوة السلاح فحسب. ما يقتضي، والحالة هذه إزاحة وجوده هذا بفعل مادي، وفي إطار مبدأ السلمية الذي انتهجته الثورة ذاتها.