ورود ، أعلام ، شعارات الثورة السلمية . يقابلها هراوات ، فؤوس ، خناجر( جمبية) ، قنابل غازية ، رصاص . هذه الأدوات والأسلحة والشعارات ، لفريقين أحدهما قد تشبع بالعلوم الحديثة وقرأ مبادئ وأهداف ثقافة ما بعد الحداثة والعولمة وقرأ التاريخ فاتعض كل ما فيه من سلبيات وأعتبر بها وغادرها إلى كل جميل وحضاريٍ إيجابي فأغترف منه وأسس لثقافةٍ عصريةٍ جديدة يحلم أن يراها في وطنه فكان ذلك عسيراً عليه بسبب المعوقات السياسية القمعية التي كبحت جماح الطموح الإنساني للشباب في مستقبلٍ مشرقٍ ينعم به في بلده . فصعُب عليه الأمر ففكر ملياً في وسيلةٍ ما تمكنه من تحقيق طموحه . فأبتكر الشباب أولاً ثم الشعب بأكمله الثورة السلمية كوسيلة ٍ للتحرر و الإنعتاق من الاستبداد والظلم والقهر . فكانت هي الأنجع والأسلم والأكثر صواباً في الوصول بشعبنا إلى طريق الخلاص . أما الفريق الآخر فقد قرأ التاريخ بطريقةٍ معكوسةٍ جعلته يُغادر كل ما هو حضاريٌ وإيجابيٌ وجميل ، إلى كل ما هو سلبيٌ وقبيح ومُعادٍ للإنسانية والفطرة السليمة .
فتمترس ورأى التخلف والجهل والماضي بسوءاته المفضوحة والسلبية ، التي ظهرت جلياً في كمين القاع الذي نصب للثوار الأحرار إذ كانوا يحملون الورود ويلقونها إلى أفراد الجيش والأمن، ويحملون الأعلام الوطنية، ويرفعون شعارات السلم مثل : ( سلمية .. سلمية .. لا للحرب الأهلية ) أو ( الشعب يريد ...بناء يمن جديد ) أو ( الشعب يريد ... محاكمة السفاح ) ... وهذه الورود، والأعلام، والشعارات, لا تحمل أي إشارةٍ إلى العنف . وإنما هي تحمل رسالاتٍ مفادُها الخير، والحب ، والسلام ، بما يضئ غدنا المشرق الخالي من الفساد ، والمحسوبية ، والرشوة ، والعنف ، والقمع . فلماذا قوبِلوا بالخديعة والمكر؟. فما أن تعمقت المسيرة في القاع الملعون حتى واجههم أفراد الأمن، والحرس العائليين، و البلاطجة, بالضرب، والقتل مستخدمين العُصي، والفؤوس، و الجنابي، والرصاص الخفيف، والثقيل، فضلاً عن الإختطافات لمجموعة من المُتظاهرين الثوار, الذي مورس عليهم أشد أنواع التعذيب، و الإهانات، وفي غالب الأحيان القتل بعد التعذيب. وهذه الوحشية بمختلف أصنافها و وجوهها القبيحة تذكرنا بالمجتمعات الصحراوية وبدوها الرُحل الذين كانوا يعانون من قطاع الطرق فيسلبونهم وينهبونهم بقسوةٍ متناهية وعنفٍ يُبينُ عن وحوش كاسرة في صورة بشر ويذكرنا الأمر ببعض المجتمعات البدائية التي كانت تستند في حياتها إلى العنف كوسيلةٍ للحياة والصراع المستمر ليعيش الأعنف منهم .
أما بعض هذه المجتمعات كما يحكي علماء الأنثروبولوجيا فقد كانت تختار من بينها زعيماً فصيح اللسان قوي البُنية قادراً على سياسة القبيلة أو العشيرة ، قادراً على الدفاع عن عشيرتهِ وتأمين قوت يومها وإن عجز عن القيام بإحدى هذه المتطلبات عُزل وعينت العشيرة بدلا عنه شخصاً يستطع القيام بهذه الواجبات المشار إليها سلفاً ،حتى يستحق التحية له بإنصات العشيرة في نهاية اليوم خاطباً فيهم بلغةٍ فصيحةٍ وجميلة مستعرضاً فيها إنجازات اليوم وبطولاته وعظمة عشيرته . وما حدث في القاع هو أن الجنود ..( البواسل ).. و البلاطجة ..( الأشراف) .. قد جهزوا أنفسهم ليذيقوا الشباب رافعي راية السلم والتحرر ، من العذاب أصنافه شتى، ومن الوحشية أقساها .
يستندون إلى تحريض زعيمهم ، وفتوى عالمهم ، مدافعين عن فرد وهو ما يعكس الآية التي أشرنا إليها في بعض المجتمعات البدائية فالزعيم فيها يخدم العشيرة وهؤلاء يخدمون الفرد الذي يُحسن إهانة اللغة ، وقتل البشر ، وتحويل ما هو عام إلى خاص له ،..( وكفئٌ ) في خدمة الكرسي والحفاظ عليه وهو بعد كمين القاع قد أجتمع ( بعلية) البلاطجة وقادة الحرس والأمن العائلي ليمدحهم على ما أظهروه من شجاعة في سفك دماء الشباب وقتلهم وخطف البعض منهم وتعذيبه وأهانته وإخفائهم في أماكن مجهولة .
وهذه الحالة ستكون محلاً لدراساتٍ أنثربولوجية تقرأ مجتمع اليمن ممثلاً بحي القاع في القرن الواحد والعشرين بسلوك بعض المجتمعات الوحشية البدائية التي اتخذت من العدوان والسلوك الهمجي وسيلةً للحياة على حساب الآخرين وكأن كمين القاع ينبئ عن استشراف السلطة للماضي بسلبياته لأنه بحرها التي تستطيع العيش فيه ، وتدير ظهرها للمستقبل الواعد بالخير والسلام لأنه بحرنا الذي سنعيش فيه . وشتان ما بين مجتمعٍ كره الظلم والاستعباد والاستبداد ويطمح لحياةٍ أساسها الكرامة ، الحرية ، المواطنة المتساوية ، الخير ، الأمن، والسلام . وسلطةٍ أخلاقها القمع وحياتها الأزمات و وسيلتها العنف والإرهاب . وهنا لابد من التأكيد على العمل من أجل إزاحة النقطة السوداء في تاريخ بلدنا المتمترسة بالكمائن ، لتكن اليمن جديرةٌ في السعي إلى الإسهام في الركب الثقافي الحضاري للإنسانية. المصدر أونلاين