مرة أخرى، يسقط علينا غيث "التقدير" من الغرب، ليلطف جونا المشحون بالقلق والتوتر والإنهاك النفسي والجسدي. غيث الغرب الأول هطل في 7أكتوبر الجاري بجائزة نوبل للسلام للمناضلة والثائرة توكل كرمان، فكانت الجائزة بمثابة رد اعتبار لقيم النضال والدفاع عن حقوق الإنسان العربي المهدورة منذ عقود طويلة. صحيح أن السادات وياسر عرفات ومحمد البرادعي قد فازوا بالجائزة في ذات المجال، غير أن جوائزهم كانت سياسية في الدرجة الأولى، أما جائزة كرمان فقد كانت لأول مواطن عربي يناضل من أجل قيم الحرية والمدنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وغيث هذه المرة جاء أكثر تعزيزاً لربيع الثورات العربية، فقد شملت جائزة "ساخاروف" خمسة من أبرز الناشطين في ربيع الثورات، وأهمية أي جائزة تكمن في قيمتها العالمية، والجهة المانحة لها، وحيثيات المنح، و"ساخاروف" جائزة يمنحها البرلمان الأوروبي تخليداً للعالم الروسي"أندريه ساخاروف 21/5/1921 – 14/12/1989"، العالم النووي الذي ترأس حركة المدافعين عن حقوق الإنسان في الاتحاد السوفيتي في مطلع الستينيات، ليقضي بعدها ال10 السنوات الأخيرة من عمره تحت الإقامة الجبرية، وبرقابة مشددة من المخابرات السوفيتية.
اليوم الغرب يحمل توجهاً جديداً نحو الشعوب العربية، ورفع غطاءه عن الحكام، بعد أن وجد أن صمته عنهم أفرز أعباء نأى العالم بحملها: ارتفاع في معدلات الفقر والجهل والأمية والأمراض والأوبئة والجريمة والإرهاب والتخلف والكراهية للآخر، حتى أصبحت الخريطة العربية مفزعة للمواطن الغربي، ومقلقة لحكومات بلاده.
ومع استمرار هذا المشهد القاتم، استمر تدفق نوعين من التقارير الغربية إلى بلاد العرب: تقارير حكومية رسمية تشيد بمستويات الديمقراطية والشفافية ومكافحة الإرهاب، ومجالات التعاون الثنائي، وتقارير أهلية لمنظمات وهيئات مدنية تنتقد تراجع الحريات وتعاظم الفساد وغياب العدالة والمساواة، وهشاشة الديمقراطية، وانتهاكات حقوق الإنسان الأساسية في كل المجالات من التعليم إلى الصحة ومياه الشرب، إلى وضع السجون وقصور التشريعات المحلية المتعلقة بمكافحة الفساد وحقوق المواطنة المتساوية.
وفي ظل وضع كهذا لا يمكن للحكومات الغربية أن تبقى متسترة أو غاضة للطرف عن مخرجات الأنظمة العربية، وما أن أزهر ربيع الثورات العربية في تونس حتى سارع الغرب إلى دعم حركات التحرر الشعبية العربية، وهذا الدعم يعد جزءاً من إستراتيجية جديدة للغرب، تهدف إلى بناء تحالفات جديدة مع نخب عربية حاكمة جديدة، وفق مصالح وقناعات لن تكون مختلة التوازن كما هي عليه في عهد الأنظمة المتهالكة.
وقرار البرلمان الأوروبي منح جائزة "ساخاروف" لخمسة من نشطاء الثورة العربية، هو قرار سياسي بالدرجة الأولى، يكشف عن مؤشرات جديدة تقودها دول أوروبا في تعاملاتها مع الأنظمة العربية، فمن ناحية لم تشهد حركات التحرر العربي في كل البلدان الثائرة أية اعتراضات أو تلكؤ في المواقف من دول أوروبا، ومن ناحية أخرى حرصة لجنة الجائزة في البرلمان الأوروبي على اختيار خمسة أشخاص يمثلون جميع البلدان العربية التي تشهد ثورات ضد أنظمتها، باستثناء اليمن، اعتقاداً من لجنة الجائزة أن ثورة اليمن قد مُنحت ما هو أكبر من جائزة "ساخاروف"، وذلك بفوز الناشطة اليمنية توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام.
وفي قراءة عابرة لأسماء الخمسة الذين منحوا جائزة "ساخاروف" لحرية الفكر 2011 نجد وكأن أوروبا بين أمرين: الأول مساندة ثورة الشباب وتأييداً لطموحات جيل قادم يسعى لبناء دولته التي تتسق مع قيم ومعطيات عصره، والآخر أرادت أوروبا أن تكفر عن "زمن الصمت" الذي افتعلته حكوماتها مع أنظمة الاستبداد العربية، وذلك من خلال تكريم مناضلين "مسنين" عاشوا نصف أعمارهم في المعتقلات السياسية كالليبي الزبير السنوسي.
فقد فاز بالجائزة مشعل فتيل الثورات العربية، بائع الخضار التونسي محمد بوعزيزي، الشاب الذي أشعل النار في جسده في 17/12/2010، فامتدت النيران لتلتهم نظام بن علي، وتطيح بعرشه في 14/1/2011، وأسماء محفوظ الفتاة المصرية التي كانت في طليعة مؤسسي حركة "6 ابريل" الداعية إلى التجمهر في الميادين العامة حتى يسقط نظام مبارك، والمناضل الليبي المنشق أحمد الزبير أحمد السنوسي (77 عاماً) قضى منها (31 عاماً) في معتقلات القذافي مع عشرات السجناء السياسيين، دون أن يعترض الغرب، في وقتٍ أطبق فيه الدنيا فوق رأس القذافي بسبب قضايا لوكاربي والممرضات البلغاريات وامتلاك أسلحة نووية.
وفاز بالجائزة أيضاً المحامية السورية رزان زيتونة (34 عاماً)، والملاحقة أمنياً من كل أجهزة نظام الأسد، ومواطنها رسام الكاريكاتور علي فرزات، صاحب الريشة التي أفرزت الألوان الحقيقية لوجه ونظام بشار الأسد، فلاحقته أجهزة المخابرات حتى عثروا عليه، وتفننوا في التنكيل به، وكسر يده حتى لا يقوى على الرسم، لتتلقفه الكويت وتخضعه للعلاج فيها، رغم أن "فرزات" أوضح للأمن السوري بأنه ليس أكثر من "ساعي بريد أوصل حقيقية النظام إلى الشعب".
الجوائز العالمية الممنوحة من دول ومنظمات الغرب ذهبت في هذا العام الاستثنائي في مساق واحد، إلى "شرق المتوسط" الموبوء بقيم الاستبداد السياسي، وما أفرزه من تراجع في كل القيم والمناحي الحياتية، فقبل جائزتي "نوبل" و"ساخاروف" صنفت مجلة "التايم" الأمريكية الشهيرة في ابريل 2011 الشاب الثائر المصري "وائل غنيم" في المركز الأول في قائمة ال100 شخص الأكثر تأثيراً في العالم.
وكأنه "لا كرامة لنبي في قومه" فكل الجوائز المعترفة والمقدرة لحق الشعب العربي في الحرية والعيش الكريم جاءت من دول ومنظمات الغرب، في حين لا تزال الجامعة العربية والبرلمان العربي والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان في غفوة وغفلة، لا تدرك دورها وحجم التغيرات من حولها، ربما لأن جزء من العلة هو أن هذه الجهات خرجت أو لا تزال تحت عباءة الحاكم العربي. المصدر أونلاين