قبل قليل، مر من هنا، طفلٌ يمتلك صوتاً مبحوحاً للغاية، لكنه يطلق حتماً، ما يشبه الصرخة؛ ما يشبه الفرحة المكبوتة في أعماقه منذ ألف حٌلم وعٌمر. لم يدلف إلى مسمعي من موجات صيحته العجولة إلا اليسير، وكان يسيراً عليا حينها، أن أفهم أنه مبتهج لشأن ما قد استجد في عشاء الأربعاء الفائت، حتى قبل أن تصلني بعض أحرف لكنته الصنعانية وهو يجري من أمامي صارخاً "وقّع... وقّع...!!". لكم أن تتخيلوا معي الآن، مشهداً بهيجاً، أستعيده بكل تفاصيله المرتبكة هنا، للصبي الذي جٌبل على الحزن والألم هو ووالده على الأرجح؛ وبدا كما لو أنه تدرب جيداً على إطلاق هكذا شهقة ثورية قبل توقعها بسنين. لقد أوقفت صرخته، هدير المسنين المهمومين بآرائهم، وتجاوزت صخب الشبان الذين أشعلوا جدلاً مملاً بجانبي، وأوقعتني أحاسيسه البريئة، في حرج عظيم. حينها، بدا لي أنا المحشور في زاوية ما بأحد أحياء العاصمة، أن الأمر مرتبط كليةً، بتوقيع صالح على المبادرة في الرياض، أو هكذا؛ هو سيناريو المرور المفاجئ للطفل الذي يبدو أن أحلامه أكبر من عمره بألف ضعف، كما هم غالبية اليمنيين من جيله أو من غيرهم، ممن أثقلت كواهلهم ولا تزال طموحاتهم النبيلة وآمالهم العراض. شخصياً، ليس من شعور بالانتصار انتابني لحظة متابعتي لمراسيم التوقيع على المبادرة، ربما لأنني كنت ولازلت مؤمن بأن هناك أمر ما؛ سيء الصيت؛ لصق بطبع هذا المدعو صالح وسيقف دونما شك، في طريق أي محاولات للفرح، ناهيك عن أنه سيوقف أي عرض لمسرحية تريد إقناعي بأنه حان وقت الانتعاش. غير أنه ومن باب إحياء الروح اليمنية التي بدأت تذوي عند بعض الكائنات ممن أصيبوا بيأسٍ أكبر من طموحهم، من جلادتهم، ومن مؤهلات الصبر. إنه لحدثٌ لو تعلمون عظيم يا أحبائي المبالغون في تهميشه وتهشيم رؤوس رجالاته؛ إذ يكفي أن الرجل المدحور استسلم لأول مطالب الشعب المسالم في هذه الثورة المباركة؛ وهو ترحيله عن الحكم نهائياً بثورة دبلوماسية لا تقلل بالطبع، من شأن الفعل الثوري الشعبي في الساحات. ما من شك أن الحل السياسي أو الدبلوماسي أمر معيب ومخالف لاسم وفعل الثورة غير أنه في حالتنا اليمنية كان أقرب ما يبدو إلى خطوة صحيحة تمهد لأخرى في طريق الدولة المدنية التي ينشدها الجميع داخل اليمن وخارجها. دعونا نستمع لهذيان بعض أنصار صالح وهم يتهامسون عن التوقيع الشؤم ويبالغون في التباكي على خذلان صالح لهم، علاوة على مكابرتهم، في تحويل الأمر إلى إشادة بمواقف صالح الحكيمة حسبما يظنون! وفي كل الأحوال، لا أحد يخالفني الرأي في أن الرجل لم يستدعٍ تلك الجرأة الحكيمة إلا لأنه أصبح محاصراً بالهزيمة ومحاطاً بألف سيناريو حزين ونهاية واحدة. لست بصدد تقييم المفارقة المفترضة في ضمائر ونوايا من ابتهجوا بهذه الخطوة باعتبارها مكسب أولي للثورة الشبابية السلمية، أو غيرهم ممن غلبتهم مشاعر الخوف والتوجس من كل قادم مبهم، أو أولئك الشباب الذين تناسوا لسبب أو لآخر، أنهم وقود كل تغيير، وأنهم أصبحوا عين على كل مستقبل؛ طالما وقد زرعت في صدر كل منهم ساحة بحجم الوطن. أقدر السأم الذي بدا عليه جبين الساحات عشية التوقيع، وأعي أهمية وجود مثل هذا المشهد المزعج جدا لكل من يحاول أن يمس القادم اليمني الطمَوح بأي سوء، غير أنا بحاجة أيضاَ لأن نفرح ونصدح بأي عبارات وإيقاعات قطرات أول الخير؛ ومثلما كانت عبارة "بن علي هرب" ملازمة لصوت الفرحة التونسية بعد نجاح ثورة الياسمين! صرخ الفراعنة بعد تنحي مبارك وهم يدركون أن الجيش هو من ساندهم بذلك ب«ما فيش خوف تاني». أيضاً، «الشعب يريد معمر كبش العيد» كانت صيحة الليبيين قبل أن يخرجوا «جرذهم» من مخبأه ليقتلوه! أما نحن في اليمن، على الثوار أن يغنوا ويرقصوا على إيقاع "صالح وقّع" وهذا لا يعني أن عليهم أن يغفلوا رقابة كل مراحل الانجاز اليمني القادم!