ليس أكثر من "بس" محشور في زاوية، يرفض مغادرتها، ويتسلى بابتزازهم بمعرفتهم أنه "سيخارش" ويعيث في البيت إن هم ضيقوا عليه أكثر وقرروا الإمساك به وإخراجه بالقوة.. فعادة عندما تصل مطاردة "بس" ما إلى زاوية ضيقة من البيت، يلجأ المطاردون إلى عدم الضغط عليه أكثر، ويبدؤون بإغرائه بأساليب متعددة لإقناعه بالمغادرة طوعا، قد يحضرون له السمك، أو اللحم أحيانا، لمسألة تتعلق بتجنب الكلفة. إلا أنه عندما يتمادى في المراوغة والتدلل ورفض كافة الإغراءات للخروج الطوعي، يذهبون إلى إجباره بالقوة.. فليس مقبولا بقاءه في البيت مقابل الخوف من كلفة حشره في الزاوية.. ربما على "البس" أن يعرف ذلك أيضا.. أعتقد أن ذلك بالضبط ما يحدث بشأن موقف "صالح" من المبادرة الخليجية التي تعد خطة إقليمية ودولية وبقبول محلي لإخراج "البس" من الزاوية سلميا، ليس حبا فيه، وإنما لتجنيب البلد كلفة عملية الإخراج بالقوة، لا يرغبون في حدوثها. ولأن صالح يعرف تلك الحقيقة.. أغراه أن يبتزهم بها، ويتمادى في مراوغاته بشأن المبادرات المقدمة إليه حتى الآن، تارة أنه لا يريد القطريين، ومرة أن كرامته لا تسمح له بالتوقيع في الرياض، وأخيرا أنه سيوقع كطرف عن المؤتمر الشعبي مع 14 آخرين وسيعمد الاتفاق في الأخير كرئيس للجمهورية.. إلا أن رضوخ الخليجيين لتعديل ما يتعلق بالتوقيع على المبادرة بذلك الشكل، وتفسيره على أنه ليس تعديلا لها، بحجة أنه لا يمس البنود، كما جاء على لسان الزياني، بعد أن كانوا قد قالوا إن المبادرة في نسختها الثالثة التي أتى بها أمين مجلس التعاون إلى صنعاء في 21 إبريل، نسخة نهائية وغير قابلة للتعديل، أمرا معيبا لأداء الوسيط، ويمثل بداية غير مشجعة.. إضافة إلى أنهم كانوا قد أقنعوا المشترك بالتراجع عن تحفظه على المشاركة في الحكومة في فترة الثلاثين يوما، ومطالبته لهم بتفسير بند إنهاء مظاهر التوتر السياسي والأمني.. الأمر المعيب الآخر في أداء الوساطة هو البت في التعديل عملا برغبة الطرف الأول الذي هو "الرئيس" وبدون مشاورة الطرف الثاني الذي هو "المشترك"، وكعرف للوساطة يعد ذلك أمرا مخلا، ويجعل من مصداقية الوسيط على المحك.. ومع ذلك لست مع من يذهبون إلى اتهام الأشقاء في الخليج بالتآمر والتواطؤ مع صالح لإجهاض الثورة، ربما ينم عن قلة حنكة لدى الوسيط، أو هو أمر مشابه لعمليات إغراء "البس" بمغادرة الزاوية طوعا، ولا يعني قبولا من أي نوع ببقائه في البيت. وهو أيضا ما أعتقد أنه أخر حتى الآن أي تحرك إقليمي ودولي قوي للضغط على صالح كتجميد الأرصدة أو الخروج بموقف حازم في مجلس الأمن، أو رفع ملفه كمجرم حرب إلى محكمة الجنايات الدولية، فهم كما يبدو لم يرغبوا في حشره في الزاوية منذ أول الأمر وقد بدت التجربة مع القذافي غير مشجعة. فيما لا يبدو أن أي من الوسطاء الخليجيين أو من يسندونهم من سفراء الولاياتالمتحدة وأوروبا يجهلون طبع صالح "المراوغ"، أو أن مراوغاته الآن بشأن المبادرة أصبحت مملة ولا تطاق. هذا الأسبوع خرج أهم الكتاب الخليجيين كمدير شبكة العربية "عبدالرحمن الراشد" والكاتب المخضرم "داوود الشريان" وهما سعوديان صديقان لأفراد الأسرة المالكة، يتحدثان عن "صالح المراوغ والضعيف"، وأنه إن أصر على عدم الخروج السلمي سيخلع مثل "السن التالفة" غير مأسوف عليه، ودعوا بصراحة دول الخليج إلى إعادة استراتيجية تعاملهم معه.
ربما بات الخليجيون والقوى الدولية على قناعة أن "البس" في محاولات إقناعه بالخروج الطوعي يحتاج إلى جانب "الإغراءات" إلى "النكز بالعصا" أيضا، سياسة "العصا و الجزرة"، في هذه المرحلة على الأقل.. فأمر الوساطة كما هو مصلحة يمنية هو مصلحة إقليمية ودولية أيضا، فتجنيب البلد "الفوضى والانهيار"، بقدر ما هو شأن يمني بالدرجة الأولى، هو يعنيهم أيضا، ولا أظنهم يرغبون في دولة منهارة إلى جوارهم وعلى أهم ممر بحري في العالم. كلفة الانهيار، أمنيا واقتصاديا عليهم، وكلفة إعادة الاستقرار بعد ذلك سيكون أكبر بكثير من كلفة لو توصلوا لخروج آمن وسلمي، مع علمهم أنهم سيدفعون على كل حال.. ربما حسبة من تلك قد تبدد كل توجسهم من الثورة المجاورة، أو أن يتآمروا عليها وتوجساتنا أيضا. أظن أنهم لن يعلنوا نهاية الوساطة أمام عقدة التوقيع، وربما سيضغطون على صالح، ولأمر يتعلق بهذه المسألة بعث رئيس حكومة تصريف الأعمال علي مجور إلى ملوك وأمراء دول الخليج باستثناء قطر التي اتخذها عدوا معلنا.
فمن عادته منذ بداية الأزمة عندما تصل أمور الوساطة إلى ما يشبه الطريق المسدود، يبادر صالح إلى الاتصال بالملوك والأمراء، ويرسل المبعوثين على طريقة القبائل في "وجيهكم"، هو مراوغ لكنه ليس صلبا وديكتاتوريا حقيقيا ليواجه الكل.
فيما يخص موقف المشترك وتمسكه بنص المبادرة في نسختها الثالثة بدون التعديلات على الموقعين، فهو موقف مشروع ويستند إلى تأكيدات الوسطاء سابقا أنهم لن يقبلوا بتغيير وتبديل حرف واحد. ليس لذلك فحسب، بل لأن المشترك لا يملك التنازل أكثر مما قدم، خاصة في شأن تعديل التوقيع وقد حرف الوساطة إلى أزمة بين حزبين وحول الرئيس كطرف من جهة وراع وضامن من جهة أخرى. أظن أن رأيا كان في داخل المشترك يميل إلى الموافقة على المبادرة رغم التعديل المشين، من باب أن البنود تلزم صالح بالتنحي خلال ثلاثين يوما على كل حال، ويمكن تعريته حينها إن رفض. إلا أن ذلك كان سيحدث شرخا كبيرا في صفوفه المشترك بصفة خاصة، والثوار بصفة عامة.. لم يملك المشترك إلا أن يرفضها، بالأصح يتمسك بالمبادرة كما هي، فهو لم يستشر بشأن التعديل على التوقيع. الكرة في ملعب الوسطاء المعلنين الخليجيين وغير المعلنين الأمريكيين والأوربيين، ويتطلب منهم ضغوطا قوية على صالح معلنة وغير معلنة، ليكف عن هذه المراوغة المملة.. بما أن المغريات وحدها لم تكف، فقد بات مطلوبا التلويح بالعصا. إن تلويحا رسميا منهم وإن لم يعلن عن تجميد أرصدته الخارجية، وتلويح آخر بتحريك ملف قتلى المظاهرات في محكمة الجنايات الدولية، أو عدم الاعتراف بشرعيته السياسية، قد يكون كافيا ليجبر صالح على الكف عن المراوغة، فيما يخص التوقيع في المرحلة الراهنة على الأقل.
أعتقد أن القضية اليمنية من الأهمية بمكان للأشقاء في الخليج، ما يجعلها محل اهتمام أكبر مما سبق، ربما يتطلب منهم الأمر نقل مهمة المفاوضات المباشرة مع الأطراف من أمين مجلس التعاون عبداللطيف الزياني إلى أحد الأمراء وزراء الخارجية.. في تصوري قد يبدو الزياني كرجل ينتمي لدولة تشهد ظروفا مشابهة "البحرين" غير مؤهل للعب هذا الدور في اليمن. ما يهم قوله إن أداء الوساطة الخليجية قد يكون متفهما من جهة، إلا أنه لم يكن جيدا من جهات أخرى، أهمها أن الأمور تأخذ فيه وقتا أكثر مما يجب، وهو كأداء قد لا يكون مقبولا في زمن الثورات والأزمات التي توشك على الانفجار. ومع ذلك لست مع من يفترضون في الأشقاء سوء النية، وأتفهم أن صالح قد يبتزهم أيضا بالانهيار والفوضى، غير أن ما يمكن قوله إن وساطتهم باتت تتطلب أداء مختلفا أكثر حزما وحسما وسرعة، ما لم، فليدعونا نواجه قدرنا بشجاعة.