كشفت الاختطافات التي تعرض لها رجال الأعمال مؤخراً إلى أي درجة أصبح القطاع الخاص اليمني ضعيفاً وعاجزاً حتى عن مجرد الصراخ أو التوجع. منذ سنوات ظل رجال الأعمال، ممثلين في الغرف التجارية ومجالس وأندية رديفة، يصدرون ضجيجاً في وجه الحكومة عندما يصدر عنها أي تحرك يهدف إلى إحداث إصلاحات ضريبية أو جمركية، ويتمكنون بالفعل من إعاقة الإجراءات الحكومية أو تأجيلها على الأقل كما حدث مع قانون ضريبة المبيعات الذي ظل محل جدل أكثر من خمس سنوات. وبتحركات وفعاليات عدة كان أبرزها اللجوء للمحكمة الدستورية وتصريحات نارية ضد الحكومة والرئيس تصدّرها رجل الأعمال الراحل محفوظ شماخ حققت غرفة الأمانة للقطاع الخاص اليمني حضوراً لا بأس به، وتكوّن شعور لدى الناس أن قطاع المال والأعمال في هذه البلاد أصبح قادراً على حماية نفسه والضغط باتجاه خلق بيئة استثمارية حاضنة لرأس المال المحلي وجاذبة للاستثمارات الخارجية. لكن الأمر مؤخرا لم يعد كذلك وبات متابعو الأحداث على قناعة أن القطاع الخاص اليمني أعجز حتى من أن يصرخ في وجه المخاطر التي تهدد أعضاءه بعد أن أصبحوا عرضة للاختطاف. وعندما يتحدث موظف في إحدى الشركات التجارية عن الفزع الدائم الذي أصبح يعيشه مديره فإن ذلك لا يبدو غريباً بعد تعرض عدد من رجال الأعمال مؤخراً للاختطاف من مقار أعمالهم أو من أحد شوارع العاصمة. وفي حديث عابر كان الموظف الذي فضل عدم ذكر اسمه يبدو مشفقاً على الحال التي أصبح يعيشها رجال الأعمال ومسؤولو الشركات التجارية. يقول: "أصبح رجال الأعمال يشعرون أنهم معرضون للاختطاف في أي لحظة ولأي سبب". ويمضي يشرح ما يشاهده من الاحتياطات التي بات رجال الأعمال يفرضونها على تحركاتهم معلقاً: "أصبح الموظفون يحرصون على فتح باب مكتب المدير بهدوء لأن أي أصوات مرتفعة أو حركة سريعة تسبب الفزع للمدير"، خاصة أن المدير الذي كان يتحدث عنه كان على علاقة وطيدة بزميل له تعرض للخطف من مكتبه قبل حوالي شهر. ويبدو الأمر أكثر إقلاقاً لمن لديهم خلافات مع آخرين، حيث يمكن لأي من الخصوم أن يستعين بقبائل مسلحين امتهنوا الخطف بالوكالة ليجد رجل الأعمال نفسه في قبضة خاطفين لم يخطروا على باله من قبل. بدأت حكاية الاختطافات في اليمن قبل أكثر من عقد من الزمن، واقتصرت في البداية على اختطاف السياح الأجانب كوسيلة اتخذها بعض رجال القبائل للضغط على النظام لتلبية مطالبهم التي بدأت متعلقة بالشأن العام وانتهت بمطالب خاصة. وفيما يقابل اختطاف الأجانب بسعي رسمي وتحركات سريعة للإفراج عن المخطوفين، فإن الاختطاف بصورته الجديدة، والذي غدا شبحا يرعب رجال الأعمال، ظل شأنا خاصا يواجهه المعنيون دون أدنى سند حكومي، باستثناء تحركات أمنية بسيطة سجلت في حالات الاختطاف الأولى. حالات الاختطاف كثيرة، وما سجَّل منها خلال الأشهر الماضية من العام الحالي 2009م قرابة العشر حالات، وصارت من الكثرة إلى درجة أنها لم تعد مادة مثيرة للاهتمام في وسائل الإعلام المحلية، لكن ما يبعث على الاستغراب أن القطاع الخاص هو الآخر استسلم للأمر وصار المخطوف لا يعني غير أقاربه، وتبدو المنظمات المعنية بحماية المنتمين إلى قطاع المال والأعمال -ممثلة في الغرف التجارية واتحاد الغرف والمجالس والأندية التي فرخت منها- غير مكترثة بالأمر. فمنذ اختطاف رجل الأعمال عبد الملك الخامري، مدير فندق حدة ومدير الشركة العربية للاستثمار قبل حوالي ثلاثة أشهر، لا تزال المفاوضات جارية بين الخاطفين وأقارب المخطوف، كما تغيب تماماً عن المشهد الجهات الرسمية. ومن خلال متابعة المشهد، فإن كل ما قام به القطاع الخاص –كمجموع- تجاه قضية الاختطاف قبل الأخيرة التي طالت رجل الأعمال الخامري لا يتعدى اجتماعاً دعت إليه الغرفة التجارية بأمانة العاصمة بعد أكثر من أسبوع من حادث الاختطاف الذي نفذه مسلحون ينتمون لقبائل بني ضبيان إثر خلاف غامض مع الخامري عمره حوالي عشر سنوات. الخاطفون يدعون أنه لم يدفع لهم مبالغ مالية مقابل سلعة بيعت له يقولون إنها "زئبق أحمر"، بينما ينفي الخامري هذه القصة ويتهمهم بمحاولة ابتزازه، وسبق أن دخل الجانبان في تحكيم قبلي بعد عملية اختطاف سابقة نفذوها بحق أحد أقارب الخامري. وبعد ذلك الاجتماع، وتهديد الغرفة بتنفيذ إضراب شامل ما لم تقم وزارة الداخلية بتحرير الخامري ومحاكمة مختطفيه خلال أسبوع كمهلة أعطتها الغرفة للداخلية مددتها بعد ذلك دون أن ينتج عن ذلك الضغط الآني أي تحركات رسمية، كما لم تواصل الغرفة فعالياتها الاحتجاجية وفق برنامج مزمّن. تختفي الغرفة التجارية بالأمانة من المشهد تماماً طيلة الأشهر الماضية، بينما لا يزال الخامري مختطفاً وأسرته وحدها هي من تتحرك دون مساندة من القطاع الخاص، بينما لم يبد الاتحاد العام للغرف التجارية أي اهتمام وهو الذي يفترض به أن يكون المعني الأول بحماية قطاع المال والأعمال وفي المقدمة حماية رجال الأعمال من أي انتهاكات. إلا أن الاتحاد العام للغرف التجارية الذي يشهد ركوداً مستمراً -على عكس الغرف التجارية التي تتحرك موسمياً- ينأى بنفسه تماماً عن الحديث في هذا الموضوع، كما هو غائب عن القيام بدور ملموس، حيث اعتذر خالد طه مصطفى نائب رئيس الاتحاد عن الحديث في هذا الموضوع تماماً عندما اتصلت به "المصدر" لمعرفة ما الذي عمله الاتحاد، أو على الأقل، تقديم تبرير منطقي لهذا الغياب، وتعلل بأنه مشغول في اجتماع طالباً توجيه السؤال إلى آخرين في قيادة الاتحاد. وبإلحاح أكثر اتجهت "المصدر" إلى مقر اتحاد الغرف التجارية لتوجيه السؤال لمدير عام الاتحاد المعين حديثاً إقبال بهادر، إلا أنه اعتذر عن مقابلتنا بحجة أنه مشغول في اجتماع، لكنه رد على اتصال لاحق كان لغرض معرفة ما الذي قام به اتحاد التجار إزاء حوادث الاختطافات التي تعرض لها التجار فقال بأن كل هذه الاختطافات حصلت في أمانة العاصمة وغرفة الأمانة هي المعنية بهذا الموضوع. وبالتالي فإن مضمون حديث بهادر هو أن الاتحاد لم يقم بشيء إزاء كل هذه الانتهاكات. غرفة الأمانة، وبحسب موظفين فيها، رئيسها أو أي من قيادتها المنتخبة لا يتواجدون فيها إلا في مواعيد الاجتماعات، ولا يوجد فيها سوى مدير الغرفة الذي حاولنا الاتصال به أكثر من مرة على هاتف مكتبه فيجيب الموظفون هناك أنه خارج المكتب منشغل بحملة جمع التبرعات لنازحي صعده. وبذلك فإن ما لم تستطع الحكومة توفيره من أمن لرجال الأعمال قد قابلته لامبالاة وتساهل واضح من المنظمات المدنية المعنية بالدفاع عنهم، خاصة أن الاختطافات تعدت كونها حالات فردية إلى ظاهرة استمرأها المختطفون كمصدر رزق، وشجعهم على ذلك نجاح عمليات سابقة عادت عليهم بمبالغ كبيرة، آخرها عملية اختطاف هايل بشر مدير شركة المتحدة للهندسة والسيارات التابعة لرجل الأعمال شاهر عبد الحق. الاختطافات خلال أقل من عامين طالت أحد أفراد أسرة آل السدعي التجارية، وعمر الخامري والطفل العديني، كما اختطف المقاول نصر البحم من أمانة العاصمة في شهر مارس الماضي، وجاءت بعده حادثة اختطاف رجل الأعمال هايل بشر الذي ظل محتجزاً لدى خاطفيه سبعين يوماً، بينما فشلت خلال الفترة نفسها محاولة اختطاف رجل الأعمال الشامي وانتهت بمقتل شخصين من منفذي محاولة الاختطاف وإفلات الشامي، وبعدها تعرض رجل أعمال لنهب مبلغ مالي من قبل أحد النافذين بعد خروجه من أحد البنوك بالعاصمة صنعاء. حوادث كثيرة مماثلة لم نتمكن من إحصائها لعدم وجود إحصائية محددة لدى الجهات المعنية، من ضمنها اختطاف رجل الأعمال جمال عبد الواسع هايل مدير عام شركة ناتكو وهو في طريقه إلى مقر عمله أواخر شهر رمضان الماضي من قبل مسلحين يرتدون الزي العسكري ويستقلون سيارة شرطة ليتم اقتياده بعدها إلى مأرب. ونتيجة لتحركات شعبية واسعة بذلها مشائخ ووجهاء في مأرب تم الإفراج عنه بعد حوالي 24 ساعة، بينما جاءت التحركات الأمنية متأخرة جداً وهزيلة، ولم يصدر أي موقف عن القطاع الخاص ولو حتى لمجرد تسجيل موقف. وبعد ثلاثة أسابيع من العملية أصدر نادي رجال الأعمال اليمنيين - وهو مؤسسة أنشئت مؤخراً وتضم نخبة من رجال الأعمال الشباب يرأسها رجل الأعمال أحمد بازرعة بينما يشغل فتحي عبدالواسع موقع الأمين العام – أصدر بياناً مقتضباً أدان فيه العملية ودعا المؤسسة الأمنية والقضاء إلى "ممارسة الأدوار المنوطة بها بمسئولية تجاه مثل هذه القضايا وتوفير الأمن والعدالة للمستثمرين". ولا تزال عمليات الاختطاف مستمرة، حيث أقدم مسلحون مطلع الشهر الجاري على اختطاف عبدالله حسين شميلة مدير سوق شميلة بصنعاء مطالبين بتعويضات لبساطين قالوا إنهم منعوا من العمل في السوق. تتعدد الأسباب والمبررات التي يسوقها الخاطفون، وينشط الخاطفون في ممارسة مهنة غدت مجدية ومربحة في نظرهم، لكن كل هذه التفاصيل تلتقي عند النقطة الأم وهي غياب القانون وانعدام الثقة في مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى حالة ركود يعيشها المجتمع ومؤسساته وعلى رأسها مؤسسات القطاع الخاص التي باتت عاجزة حتى عن مجرد الشكوى بعد أن أصيبت بالتبلد والتعامل مع هذه المخاطر كأمر واقع يفكر كل فرد كيف يتحاشاها قدر المستطاع، خاصة أن الشراكات التجارية التي أقاموها مع مسؤولين وقيادات أمنية وعسكرية بغرض الحصول على الحماية باتت هشة وغير فعالة بما يكفي. فكثير من الشركاء المعول عليهم الحماية مستعدون بطريقة أو بأخرى لتوفير أرض للمشروع أو استخراج إعفاءات ضريبية أو ....، لكنهم -كما أثبتت الأحداث خلال الفترة الماضية- غير مستعدين لدرء خطر قد يجعلهم عرضة لتحمل نتائج سيئة. فهل تظل مؤسسات المجتمع المدني، وفي مقدمتها المعنية بالدفاع عن القطاع الخاص، كسيحة بانتظار معجزة تهبهم دولة نظام وقانون وتضمن لهم مناخاً آمنا للاستثمار، أم أن عليهم التحرك والدفاع عن أنفسهم حتى يسهموا في الخروج من هذا الوضع المتردي؟!
اتحاد التجار.. يراقب بصمت قلعة صامتة دوماً.. حتى لكأنها قد أكسبت الشارع الذي تقبع فيه هدوءا يتلبسك حال اجتيازك البوابة العتيقة. منذ عقود، يربض مبنى اتحاد الغرف التجارية في شارع صغير متفرع من شارع الزبيري مجاوراً لنادي ضباط القوات المسلحة لا شيء يمكن من خلاله استشفاف أيهما حل قبل الآخر، لكنهما جاران اكتسبا من بعضهما صفة الهدوء. كان إلى وقت قريب هو المبنى الأكبر في المكان، لكن السنوات أحالته الأصغر بعد أن ارتفعت حوله مبان عملاقة ولها من الجاذبية والأناقة ما يجعله يبدو صدئاً ولافتته خافتة. عند دخول المبنى ستشاهد موظفين قابعين خلف مكاتبهم يتحركون بانسيابية، لكن عند الصعود باتجاه الدور الثاني، حيث يقع مكتب مدير عام الاتحاد، عليك أن تثبت هويتك والمهمة التي جئت من أجلها. في الغالب، مؤسسات بهذا الحجم ينتمي لها هذا الكم من الأعضاء تشهد حركة دائبة، لكن هنا الصورة مختلفة.. سكرتارية المدير تستقبل المترددين على الاتحاد، وهم قليلون جداً، لكن المدير يبدو غير مستعد لاستقبال صحفي دفعه الفضول لمعرفة دور الاتحاد تجاه اختطافات يتعرض لها أعضاؤه. المدير جديد ويعتقد أن مواضيع من هذا القبيل تخص غرفة الأمانة. المبرر يبدو مقبولاً من الناحية الشكلية .. لكن ما يبدو أكثر منطقية أن المدير، وهو معين حديثاً، لا ينبغي أن يكون مسؤولاً عن سنوات من الغياب وعن قيادة منتخبة للاتحاد اختارت لنفسها أن تراقب بصمت بينما توكل المهام الصعبة عادة إلى الغرف التجارية.