بإلتحامهم المبكر بالثورة السلمية بدو في طريق كسب أهم معاركهم ضد صالح ونظامه , فبعد قتالٍ مرير فُرض عليهم اختاروا النضال السلمي , ومنحوا قضيتهم أبعادها الوطنية العادلة , وهزموا صالح بأكثر مما فعلوا خلال جولات الحرب المتعاقبة . كان موقفاً فاجأ كثيرين , وحسم الرأي الداخلي والخارجي لصالحهم , لقد أعلنوا عن أنفسهم , طلاب دولة مدنية , وأدانوا حروب الحكم الهمجية ضدهم بأرقى الأساليب وأكثرها تحضرا . فرضت الثورة عليهم الإلتقاء بمن يكرهون , ووقفوا أمام تحديين , إما تصفية ثاراتهم على حساب الثورة , أو ترك الثورة تصفي حسابات اليمنيين جميعاً مع بيئة القهر والفساد والتخلف , صانعة الحروب , والمنتجة للثأرات والنعرات والعصبيات المقيتة , ولقد نجحوا في التجاوز على هذا الصعيد , معطين بذلك رسائل مطمئنة ومعززة للثقة , لاح الوطن منتصراً في هذا الإنصهار , بدت ثأرات الأمس سهلة الوأد أمام اليمن الجديد , المتعدد المتحد, المختلف المؤتلف , الملتحم بكليته في هذا المد الثوري الضافر , الذي يجسد عظمة اليمن واليمنيين . في ساحات وميادين الثورة إجتمعت اليمن كلها , ولأول مره واجه الجميع تحديات العيش المشترك في مساحة واحدة محددة , واجهوا إختبار ما هو أكبر من مجرد التعايش , مواجهة الموت جنباً إلى جنب , من أجل الحياة بكرامة , وجدوا الوطن الحلم الذي يوحدهم , ادركوا أن معركتهم هي ضد ما يفرقهم ويجعلهم طعاماً للغول الحاكم , كان حصاد الجمع الهادر إنتصار بكل ما للكلمة من معنى , ورغم ما يفرضه هذا الإحتشاد غير المسبوق من تبعات فقد ضلت الأخطاء والحماقات غير منظورة , في المشهد النبيل الزاخر بالروح المفعم بالعاطفة المتسم بحضور أخلاقي لافت يحكم مسلك الثائرين . لم تفلح كل محاولات النفخ في الهِنات , وإثارة المكبوتات , ضلت الثورة إندفاعاً نحو الأمام , لا يسمح بالإلتفات إلى معارك الأمس البينية الصغيرة والحقيرة , بدا أن كل نكوص خيانة , عارٌ لا يليق بأحرار خرجوا للتخلص من السجان , وكل موروثات السجن العتيق . ما الذي يحدث الآن ؟ ولماذا يحدث ؟ ثمة شحن عصبوي أرعن , يتلهى البعض بإيقاظ الحزازات النائمة , يغريهم إستعداد البعض للتشمير عن الشر وإبداء وجه مبغض قديم , طافحٍ بحنق العصور , هناك من يدفع بالإخوة الحوثيين لأن يكونوا المعادل لشرور الحكم الذاهب , وفي المقابل هناك من يظن أن بمقدوره جر الإصلاح لأن يكون الأخ الأكبر وارث الثأرات والخصومات . إستجابة الأخوة الحوثيين تجعلهم يبدون كما لو أنهم في مهمة البحث عن عدو يعوض خساراتهم ربما لأهم عدوين لدودين كانا يمثلان مكسبهم الأهم من الحرب . لا يريد إخوتنا الحوثيون أن يقال أنهم خسروا أعدائهم في هذه الثورة , أهم ركيزتين قامت عليها أسطورتهم , هم يدركون قصدي تماماً , ولا يريدون أن يقال أن الثورة السلمية أضافت إلى خسرانهم سلبهم سطوة المحارب المتمنع بقوة السلاح , وأنهم باتوا يعيشون أزمة وجود وضياع هوية , وأنهم يتخبطون بحثاً عن ذاتهم المضاعة في ميداني الفعل الثوري و السياسي , وهما ميدانان غريبان عنهم لم يختبرا هما من قبل ولم يتدربوا على إحراز سبق فيهما , لهذا يذهبون بعيداً للإعلان عن أنفسهم بيأس بالطريقة العنيفة التي يحسنونها . إن أسوأ ما يمكن أن يقال عن حماستهم للقتال , وبحثهم الأعمى عن الإعتراك والإشتباك مع هذا أو ذاك , ممن تتوافر فيه بعض موجبات الخصومة أنهم نبت الحرب , وأنهالم تعد وسيلة دفاع بالنسبة لهم , بل صارت حياة , ومشروع وجود , وأنهم خاضوا صراعاً مديداً ثم تركوه يقودهم , وأنهم قد أسسوا وجودهم على الحرب حتى غدوا أُسارى لها , بل أكبر ضحاياها على الإطلاق , وأنهم ما عادوا يستطيعون العيش بدونها , إذ هي التي سوقتهم وعرفت بهم وأعلنت عنهم , حتى أختفت قضيتهم تماماً , وصارت الحرب هي القضية . لهذا يبدون مفتعلي حروب , لا يتخيلون بقاءهم دون معركة , والثورة السلمية لاتناسب المزاج المحترب , لذا يجهدون لجعلها ساحات توتر وصراعات لاتهدأ , وذاك لكي يضلوا في مرمى الأنظار . إن أفدح ما يسوق إليه هذا المسار أن يصل اليأس بهذا الباحث عن معركته , لأن يخوض معارك الأخرين بما فيهم معارك عدوه بالأمس . أي إعتراف يطلبه إخواننا ؟ وعلى أي أساس ؟ وممن بالضبط ؟ أيريدونه إعترافاً على قاعدة المواطنة المتساوية ؟ أم على عصبية استعلائية أو جهوية و مناطقية ؟ أم على ما هم عليه من القوة والقدرة على إثارة المشاكل وصنع الأزمات ؟ أم لأنهم مظلومون ويستحقون أن يدفع لهم الجميع الثمن الذي يقررونه ويقدرونه ؟ ام لأنهم المحاربون الذين تواضعوا فوضعوا السلاح جانباً وأنخرطوا في ثورة سلمية وهو ما يستوجب تعاملاً مختلفاً وإمتيازات بعينها ؟ ثم ممن يريدون هذا كله ؟ من الدولة ؟ أم من الباحثين عنها ؟ يتحمل الحوثيون مسؤولية الخطاب العام , الذي يتحدث عنهم ويعرضهم ويصورهم كتهديد دائم للمشروع الوطني , وكحركة دينية عصبوية , تتكئ على عقيدة قتالية , تعتمد العنف خيار وجود . يراهن البعض على أن للفتنة حمّلةٌ جاهزون , وبنادق موغرة مشرعة نحو الصدر, وعقول جامدة , غير قادرة على التعامل مع المتغير الجديد , والإنفتاح على الفضاء السياسي بما يحسم الهوية , ويحدد الوجود , وبما يعزز من الإندماج في الفضاء العام و الشراكة مع مختلف القوى الفاعلة في صناعة القرار والفعل , ضمن شروط العمل المتعارف عليها دونما إجحاف , أو إعتساف . ما أنا واثقٌ منه , أن الإصلاح لن يكون العدو سهل المنال , وأن من يبحث عنه كوريث لصراعات الماضي لن يجده أبداً , لأنه حزب المستقبل , وصاحب مشروع وطني متجاوز للعصبيات , وللمشاريع الثأرية الضيقة البغيضة . وما أنا متأكد منه أن إخوتنا الحوثيين لن يسمحوا بأن يتحولوا إلى حامل لصراعات ما قبل الثورة , ولا إلى أكبر ناصر للماضي المندحر والمنهزم . نقلاً عن صحيفة الصحوة