"رفعت الجلسة". أعلن الرجل ذو الوشاح الأخضر. كنا متأكدين بأن الجميع متأكد كم إن المحاكمة لم تكن محاكمة قط، وكم إن الحكم ليس حكما، والجريمة ليست جريمة. كان ذلك صباح السبت، حيث كان الطقس باردا، عندما أكملت صحيفة المصدر إجراءات الحصول على الفاتورة رقم واحد، أو بالأحرى فاتورتين في فاتورة واحدة. هذا كل ما في الأمر. المسألة أشبه بالوقوف أمام شباك دفع فواتير. لقد قدرت عدالة القاضي بأن الكلفة المستحقة مقابل المساس بالذات المبجلة ل"الأخ الكبير"، هي كالآتي: "معاقبة رئيس التحرير، بالحبس لمدة سنة كاملة مع وقف التنفيذ، وحرمانه من مزاولة العمل كرئيس تحرير أو مدير تحرير أو ناشر، أو محرر، في إحدى الصحف لمدة سنة كاملة. ومعاقبة الزميل منير الماوري بالحبس سنتين كاملتين، وحرمانه من مزاولة مهنة الصحافة بصفة دائمة". الكلفة باهظة. أليس كذلك؟ بالطبع. لكن ما يجعلها باهظة أكثر ولا تُحتمل هو كون الدفع مسبق، والمساومة والتظلم ليست محظورة لكنها تأتي لاحقا.
و"الأخ الكبير"، هو الصورة النموذجية القصوى، التي قدمها جورج أورويل في رواية "1984" لما يفترض أن يكون عليه الديكتاتور، ولما يفترض أن تكون عليه الحياة في ظله. فالعالم الافتراضي المظلم والبربري الذي تخيله صاحب الرواية العظيمة "مزرعة الحيوانات"، يوشك أن يصبح حقيقياً في اليمن بطريقة لا تصدق. ذلك النمط من العيش الذي لا تفضي فيه جريمة الفكر إلى الموت، بل هي الموت نفسه. هناك في "أوقيانيا"، حيث لا مهرب من لافتة "الأخ الكبير يراقبك"، وحيث يختفي الناس أثناء الليل، ويرفرف على مبنى وزارة الحقيقة شعار "الحرب هي السلام، الحرية هي العبودية، الجهل هو القوة"، وفيها وزارة الحب هي المصدر الحصري للرعب.
أنت في كنف "الأخ الكبير" لا تملك سوى تلك "السنتيمترات المكعبة داخل جمجمتك". فأنت لا تعرف كم أو كيف يمكن أن تخترق شرطة الفكر حياتك الخاصة، فهذا أمر لا يمكن التنبؤ به، وإن كان من المفترض أنها ترصد الناس جميعا بلا انقطاع. لقد "كان عليك أن تعيش، بحكم العادة التي تحولت إلى غريزة، مفترضا أن كل صوت يصدر عنك مسموع وأن كل حركة مرصودة".
البعض يجادل بأن الرئيس علي عبدالله صالح لم يكن يوماً ديكتاتوراً ناجزاً. وهم يعترفون فقط بأن في داخله ديكتاتوراً مجهضاً، أو أنه ربما ليس ديكتاتورا بما يكفي. ونحن من جهتنا لا نزال نظن بأن الرجل أكثر تسامحاً من أن ينعت بالديكتاتور. بالتأكيد إنه يلجأ للقضاء، وهذا جيد، رغم أنه يخفي المقالح تحت جنح الليل، ويوقف صحيفة الأيام، لكنه والحق يقال، لا يقتل الصحفيين. في كنف "الأخ الكبير" يتبخر الناس، وتنتاب وينستون، الموظف في وزارة الحقيقة، نوبة هستيرية، بعد أن يكتب في لحظة شرود: "ليسقط الأخ الكبير". وظل يكتبها حتى امتلأت الصفحة. وحين انتبه من شروده تملكه شعور بالفزع. بيد أنه أدرك أن تمزيقها لن يجدي فتيلا، فقد اقترف، وما زال يقترف جرما. بل وحتى لو لم يضع القلم على الورق فقد اقترف أم الجرائم بمجرد اقتنائه مفكرة يدون فيها مذكراته. لهذا راح وينستون يكتب "بخط متعرج: سيرمونني بالرصاص، بيد إنني لا أبالي. سيطلقون النار علي من الخلف غير إنني لا أبالي. وليسقط الأخ الكبير.. إنهم دائما يطلقون النار عليك من الخلف لكنني لا أبالي، ليسقط الأخ الكبير".
ثمة طوابير من الصحفيين ينتظرون أمام محكمة الصحافة لدفع الفواتير. وتوجد مستويات لا حصر لها من الأثمان بعضها إعدام. ولمن لا يعرف ف"المصدر" تواجه تهماً أخرى كبيرة جدا. وإذا أخذ القاضي القوانين بحرفيتها فإن العقوبة يمكن أن تكون "إعدام". حينها سننتبه إلى أننا دخلنا عوالم جورج أورويل دون أن ندري.
في الواقع، كلمة "قاسي" ليست هي الكلمة الملائمة بالنسبة لما انطوى عليه قرار المحكمة بحق صحيفة المصدر. فبمقدورنا أن نطلق هذه الكلمة فقط على مداومة رئيس التحرير مرتين أسبوعيا في محكمة واقعة في أطراف العاصمة، أو نقول بأن انفعال القاضي، مثلا، في إحدى جلسات المرافعة، وارتعاش صوته، وتوجيهه باحتجاز رئيس التحرير أيضا 7 أيام، كان تصرفا "قاسيا"، أو وصف حرمان القاضي "للمتهمين" من حقهم البديهي في الدفاع، وحجز القضية للنطق بالحكم، بالإجراء غير العادل و"القاسي". إننا بإزاء حكم هو بمثابة الذراع الكبيرة التي امتدت لإسدال الستار على فصل مضيء في حياة الصحافة اليمنية.
وليسمح لي بتكرار ما ورد في بيان "المصدر" بأننا مثلما امتلكنا، نحن معشر الصحفيين، الجرأة والجسارة والصبر لانتزاع الحق في نقد الرئيس وكشف الفساد والظلم والانحياز للحقيقة، فإنه حري بنا ألا نسمح لأحد بتجريدنا هذا الحق أو الانتقاص منه، مهما كلفنا الأمر. ولنردد تلك العبارة التي همس بها زميل وينستون في وزارة الحقيقة: "سنلتقي يوما حيث لا يكون ظلام".