(1) يحتاج الرئيس السابق (علي صالح) وأتباعه إلى معجزة للتخلص من تهمة دعم المسلحين في أبين وغيرها؛ فمن غير المعقول أن ينجح المسلحون – سواء أكانوا يعملون باسم القاعدة أو أنصار الشريعة- في فرض سيطرتهم على مناطق تقع تحت مسؤولية أتباع صالح، وينجحون في الاستيلاء على معسكرات وأسلحة ثقيلة وخفيفة؛ ثم بكل استخفاف بالعقول توجه وسائل إعلام (صالح) للمعارضة والجيش المؤيد للثورة تهمة التعاون والتنسيق مع القاعديين في تنفيذ هجماتهم! ويزداد الموقف حرجا عندما نتذكر أن التهمة نفسها وجهت إليهم في الجولة الأخيرة من حرب صعدة. وفي الحالتين تكاد النتائج تتشابه؛ فالحوثيون سيطروا على كل شيء في صعدة، وصاروا دولة ينقصها فقط الإعلان الرسمي.. والقاعديون في أبين يسعون بقوة لتكرير ما حدث في صعدة وفرض نوع من الحكم في المناطق التي سيطروا عليها.. وكله منه.. وكله بدعمه وبأسلحة الجيش التي وجدت طريقها إلى المتمردين!! [قد يكون الفارق المميز في الحالتين أن الحوثيين أكملوا سيطرتهم على صعدة بسهولة نسبية بعد انتهاء الحرب، ولا يخشون تدخلا أمريكيا؛ رغم أنف الموت لأمريكا وإسرائيل؛ لأنهم غير مدرجين في قائمة الإرهاب الأمريكية؛ أما في أبين فالولايات المتحدة موجودة بقوة جوا وبحرا وربما أرضا، ولن تقبل بأن ينجح أنصار القاعدة بفرض سيطرتهم على مناطق تحاذي بحر العرب ولو لم يهتفوا: الموت لأمريكا..].
(2) من حيث لم يحتسبوا؛ أكدت التطورات الخطيرة الأخيرة في أكثر من محافظة أن مطلب تحرير المؤسستين العسكرية والأمنية من ملكية عائلة صالح و(إعادة هيكلة الجيش والأمن) أكثر أهمية لإعادة تأسيس (الدولة اليمنية) من جديد على أسس سليمة. فالجيش والأمن بدوا ليس فقط مجرد إقطاعات خاصة تعمل لصالح مقاولين؛ بل ثبت أنه يمكن أن تتناثر وحداته وكأنها رماد وسط عاصفة، بل أكثر من ذلك فيمكن أن تسقط معسكراتها وأسلحتها الثقيلة والخفيفة في أيدي قوى مسلحة (الحوثيون أو القاعدة) بالسهولة نفسها التي حدثت فيها ثلاثة تفجيرات خطيرة في قاعدة الديلمي بصنعاء – التي يسيطر عليها أشرس أتباع الرئيس وقائد القوات الجوية- دون أن يعني ذلك شيئا عندهم ثم تعلن وسائل إعلامهم بكل استخفاف أن المعارضة مسؤولة عن ذلك!
وفي كل الأحوال فهيكلة الجيش والأمن صارت له أولوية قصوى ليس فقط لتصحيح الاختلالات الخطيرة؛ بل ولضمان الحد الأدنى من مقومات بقاء شيء اسمه: الدولة.. فالدول تستطيع أن تواجه أخطارا أكبر من الخارج وحتى من قوى معارضة في الداخلة، وتحافظ على بقائها موحدة؛ لكن الذي يحدث الآن في اليمن هو أن الدولة يتم تفجيرها وتفكيكها من داخلها وبأيدي قادة عسكريين وأمنيين انتقاما لرحيل (صالح) عن كرسي الرئاسة!
بالإضافة إلى ما سبق؛ فإن هناك أسبابا وطنية ومهنية توجب الإسراع في إعادة هيكلة الجيش والأمن؛ فوطنيا: لا يجوز أن تظل القوات المسلحة والأمن في قبضة قادة من منطقة واحدة وعائلة واحدة، وكأن سائر مناطق اليمن عاجزة عن تقديم قادة أمثالهم، أو لا يوجد وطنيون غيرهم! هذه الهيمنة العائلية المناطقية على الجيش والأمن هي أحد أكبر مصادر تغذية التوترات والتمردات في البلاد بحجة سهلة وهي هيمنة عائلة واحدة على كل شيء! ومن الواضح أن الخبرة لم يتعظوا بما حدث في العراق عندما تهاوى جيش العائلة كألعاب الأطفال، ولم ينفع (صدام) لا أبناؤه، ولا أشقاؤه، ولا أصهاره.. ولا أحد. ويكاد يكون ثابتا أن بعض هؤلاء القادة هم الذين سلموا بغداد بسهولة للقوات الأمريكية مقابل نقلهم للعيش في الخارج بأمان.. كما أن قتل ابني صدام ثم أسره هو لم يكن ليتم لولا خيانة المقربين حولهم! والملحوظ الآن من خلال سماع أسماء قادة ألوية الحرس الجمهوري المتورطين في مواجهة الشباب أنهم يكادون كلهم ينتمون إلى منطقة جغرافية واحدة.. ولا يقطع الشك هذا إلا أن يتم نشر أسماء كل القادة بدءا من قادة الكتائب ومطلع حتى نطمئن أنه حرس يقوده ضباط من كل مناطق الجمهورية دون تمييز. (لاعتبارات السرية يمكن أن يتم ذلك داخل مجلس النواب فقط).
الجانب الأكثر خطورة في هذا السياق هو وجود جيشين بالفعل منذ سنوات ليست قصيرة؛ أحدهما قوات الحرس الجمهوري الذي صار الجيش الرسمي لنظام صالح دون إعلان.. والآخر هو الجيش الوطني الذي أبقي عليه لاعتبارات شتى والتعامل معه كالزائدة الدودية، وتشجيع كوادره على التقاعد أو المكوث في البيت واستلام الراتب آخر الشهر؛ لكن ربما كان أبرز الاعتبارات هو وجود قادة كبار مجربين وذوي تأثير ونفوذ يصعب التخلص منهم بسهولة فتركوا للزمن ومصير كل حي! لكن أحداث العام الأخير أكدت أن (الحرس الجمهوري) هو جيش النظام الحقيقي الذي منحت له كل الإمكانيات المادية والتسليحية ليحل تدريجيا محل الجيش الوطني في يوم ما بعد أن يختفي القادة العسكريون الكبار بأي وسيلة!
ولا يوجد حسب علمي شيء في الجيوش النظامية اسمه (حرس جمهوري) تفوق عدد ألويته وأنواعها كل ما عداها من القوات. وباستثناء تجربة صدام حسين التي ربما كانت مصدر إلهام لتأسيس حرس جمهوري يمني؛ فإن هذه القوات بصرف النظر عن الاسم تختص بحماية مقر الرئيس في العاصمة.. أما أن تصير بهذا الكم الهائل من الألوية والتسليح الثقيل المتنوع، فضلا عن وضعها في أيدي الأبناء، وتوزيعها في كل محافظات الجمهورية فهي تكون بذلك قد خرجت عن مهمتها الشائعة في حماية مقرات الرئيس.. ويلاحظ هنا وجود قوات أخرى لها مهام حماية الرئيس مثل الحرس الخاص مما يعني أن (الحرس الجمهوري) هو أقرب لمليشيا ثقيلة تأتمر بأمر أفراد ولخدمة عائلة وبقائها في السلطة.. (الغريب أن مصادر أتباع صالح صرخت خلال الأسابيع الماضية تطالب بمنع تشكيل مليشيات مسلحة تابعة للأحزاب.. وها نحن نرى أن فردا واحدا في البلاد ليس لديه ميليشيا فقط؛ بل جيش كامل بمعنى الكلمة).
(3) مهنيا؛ تتمثل خطورة عدم هيكلة الجيش والأمن على أسس صحيحة في أن الجزء الأكبر منه سقط في أيدٍ لا تتمتع بالمواصفات العسكرية والأمنية المهنية المطلوبة؛ وفي مقدمتها: الأقدمية والخبرة العسكرية والأمنية.. فمن غير المعقول أن يوضع (شاب) على رأس جيش اسمه الحرس الجمهوري لمجرد أنه ثقة ومأمون، ولن يفكر بالانقلاب على الرئيس ليس لأنه يحترم الدستور والفصل بين السياسة والعسكرة ولكن لأنه هو الذي سيرث المنصب في النهاية ولا يوجد ما يجعله يعمل للانقلاب على الرئيس، ففي الأخير سيأتيه الكرسي عاجلا أو آجلا (فهم ذلك عامة المؤيدين ولذلك رفعوا صورتي صالح وابنه، وها هي قنواتهم المنهوبة من مال الشعب تبث كل يوم رسائل مثال: أحمد رئيسنا بعد عامين). والأقدمية في الجيش والأمن والخبرة لا يمتلكها (عسكري أو رجل أمن) لمجرد أنه قادر على التوقيع على الأوراق والمعاملات وطلبات الإعانات، أو لأنه الابن الأكبر لقائد مؤسسة أمنية حتى ولو قضى عمره مشغولا باهتمامات سياحية وفنية ثقافية ثم لما مات أبوه عينوه بدلا منه فصار قائدا أمنيا لا يشق له غبار.. متخطين من هم أقدم منهم رتبة وجهودا في خدمة البلاد.
يمكن ملاحظة الأثر السيئ لعدم وطنية هذه القوات المشار إليها وعدم مهنيتها في الأداء الفاشل لها خلال أحداث العام الماضي؛ فقصارى ما قدرت عليه هو قصف القرى والأحياء في المدن، وقتل المدنيين العزل بدم بارد.. وها هي الآن تتحول إلى عقدة مستعصية أمام إعادة هيكلة الجيش والأمن فقد صار وجود أقارب صالح في قيادة هذه الوحدات من ثوابت اليمن، ومجرد التفكير في تغييرهم خيانة والمطالبة بذلك يعني تفجير حرب أهلية!
(4) من حق اليمنيين كلهم، دون استثناء، أن يطمئنوا أن مؤسستهم العسكرية والأمنية لن تكون بعد الآن رهينة في يد فرد أو قبيلة أو منطقة أو حزب. ولن يتحقق هذا المطلب الوطني العظيم إلا إذا تم تحرير الجيش والأمن من القوى المسيطرة عليه الآن.
ولأن أتباع صالح يروجون الآن لمقولة إن الهيكلة بتفاصيلها الدقيقة بحاجة إلى سنوات.. إذاً؛ فلتكن البداية في إحالة كل من تولى مسؤولية عسكرية أو أمنية بدءا من قائد لواء لأسباب عائلية أو قبلية مناطقية؛ وعلى أسس غير مهنية لا تتفق مع القانون العسكري؛ إلى التقاعد القانوني أو المبكر ولو كان ما يزال شابا. ومثل هذا الإجراء لن يؤدي إلى فوضى ولا يحتاج إلى سنوات ومناورات. ويمكن للذي يرى نفسه مظلوما في هذا أن يصبر في بيته حتى تتم الهيكلة بعد شهور أو سنوات ثم يعاد للعمل.
الأمر الآخر المستعجل هو ضرورة دمج الوحدات العسكرية الطارئة التي أريد بها تكوين جيش وأمن ذات ولاء فردي في إطار الهيكل العام المعروف للجيوش النظامية مع تقليص أعدادها بما يتناسب مع مهامها المعلنة.