إنها جمعة الكرامة إنه يوم الثامن عشر من مارس 2011.. يوم سطر التاريخ فيه أكبر تضحية من شعب اليمن لوطن الإيمان.. لم تكن جمعة لاداء صلاة في محراب العبادة بقدر ماكانت جمعة لاداء واجب في محراب الكرامة.. في يوم الثامن عشر من مارس 2011 تجلت الثورة اليمنية الشبابية الشعبية السلمية بكل ملامحها حين خرج الشباب بصدور عارية مملؤة بالثأر للكرامة المنهوبة والدم المسفوح والوطن المُهان على موائد النظام.. صدح الشعب بكل فئاته الاجتماعية وبمختلف انتماءاته السياسية وبجميع طبقاته الاقتصادية وبأنواع مستوياته الثقافية صدح الشعب بصوت يملئ الآفاق برحيل نظام جثم على الصدور وكتم على الأنفاس لأكثر من ربع قرن من الزمن، صدى الصوت المدوي من فوهات الحناجر أيقظ منام الجاثم ليحوله الى جثمان شيعه الشعب الى مزبلة التاريخ.. أراد الساقط دخول التاريخ من أوسع الابواب فخرج من أضيقها حين سقط أخلاقياً وسياسياً في آن واحد بسقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى في يوم واحد وفي زمن واحد وفي مكان واحد والذي كان مدعاة لسقوط قناع الحاكم وتحطمه على صخرة الانشقاق السلطوي والحزبي بعد أن اعطى أشارة البدء بإحراق المراحل من على طائرة هيلكوبتر جابت أعناق المرتلين لابتهالات اسقاط المستبدين.. شهد العالم بأسره تساقط النظام كاوراق الخريف بفعل جمعة الكرامة فشهدنا ماراثون سباق محموم لسيل من الاستقالات محلياً ونهر جاري من الشجب والتنديد اقليمياً وبحر من النقد والتوبيخ دولياً مثلت جميعها سيف جلاد في أقامة حد أو إسقاط واجب الى حد التساؤل الاستنكاري لمعاصر الرؤساء الاستاذ محسن العيني «كيف تنام قرير العين في منزلك وانت قتلت زهور شباب اليمن».. فكان الجواب اعتراف بحجم الجُرم المرتكب حينما قال صالح بلسان عبده الجندي «إن أكبر خطاء ارتكبناه كان يوم جمعة الكرامة» ليكون هذا الجواب دليل قاطع على أن جمعة الكرامة كانت المسمار الاخير في نعش النظام..
أفاق العالم على صفارة إنذار جمعة الكرامة لكل ما يُعتمل داخل أروقة النظام السلطوي من نازية في الحكم وصهيونية في إجهاض الانتفاضات الشعبية لنعيش قصيدة البردوني غزو من الداخل لاسيما في البيت القائل: ترقى العار من بيع الى بيع بلا ثمن ومن مستعمر غاز الى مستعمر وطني فكانت تلك الصفارة بمثابة البداية الحقيقية للثورة على مستعمر من أبناء الجلدة، صفارة الانذار تلك التي جسدت ملامحها كل ساحة في كل مديريات ومدن ومحافظات الجمهورية لتبدو اليمن بركان ثائر لن ولم يخمد غضبه بمرور السنين ولا بتقلبات الايام حتى يتم تلبية مطالبة وتحقيق اهدافه.. لذلك وذاك لم تقف جمعة الكرامة عند حد الثورة دون أن تكون ايذاناً بتدشين ثورات أخرى ولدت من رحم ثورة الكرامة لترغم العالم على الإنصات الى إعجاز يأسر الالباب في صنع ثورة سلمية لصانع يملك ستين مليون قطعة سلاح دون أن ينجر الى إشعال نار حرب أهلية في اختبار حقيقي لضبط النفس والقدرة على الصبر والثبات حتى اخر مرحلة من مرحلة استنفاذ المُشعل لجميع وسائل الاشعال.. وفق فرضية أبي القاسم الشابي (اذا الشعب يوماً اراد الحياة ** فلا بد ان يستجيب القدر).. كانت استجابة القدر يوم جمعة الكرامة بحجم ارادة الشعب لحياة العزة وعدم الرضوخ والاستسلام للحكام الطغاة، فخرجت الشعوب تصيح بمليء فيها (الشعب يريد إسقاط النظام، الشعب يريد محاكمة السفاح).. لقد أقر الشعب بإرادة إسقاط نظام في الحادي عشر من فبراير فيما أقر الحاكم بإسقاط الشعب في جمعة الكرامة في الثامن عشر من مارس ولأن ارداة الله من إرادة الشعوب كان الفعل من جنس العمل في حادث دار الرئاسة.. بمنطق قوله تعالى (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية.. وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) صدق الله العظيم. وبما أن دم الحُكام مهما بلغ عدلهم ناهيك عن بلوغ ظلمهم لن يكون أغلى من دم امرء مسلم ناهيك عن دم حافظ للقران الكريم ولاحاديث محمد صلى الله عليه وسلم ومن بينها قوله عليه افضل الصلاة وازكى التسليم (لئن تهدم الكعبة حجراً حجرا خير من إراقة دم امرى مسلم).. إذاً، دم المسلم الواحد أغلى من قِبلة يقصدها أكثر من مليار ونصف المليار مسلم طبقاً لحديث من لاينطق عن الهوى أن هو الا وحي يوحى.. أنها بحق معادلة صعبة الفهم والاستيعاب لسباحين في نهر من الدم وصاعدين الى الحكم على سلسلة من الاغتيالات للبقاء على كرسي التحكم بالبلاد والعباد.. أنه كرسي السلطة كرسي فيد بامتياز رخص دونه كل غالي وسُهِل له كل صعب ومثل فيه الحاكم دورين في آن واحد دور الزاهد في الحكم ودور الراقص على رؤوس الثعابين ليخوض لأجله الحكام الزهاد معركة البقاء في مواجهة الافناء الشعبي، فيما خاضها المحكومون معركة من أجل الكرامة ليكون الحكم الفصل بالفوز هو مشروعية المطلب ومطلب المشروعية الشعبية لا الدستورية المفصلة على مقاس كل مرحلة من مراحل التمديد لتوريث الاستبداد بإطالة بقاء المستبد.. يوم الثامن عشر من مارس 2011 يوم مشهود يستوجب الذكرى ويستحق أن يتمثل النصر بالوفاء لوقود الثورة وتحقيق كامل الأهداف وعدم النكوص عن أي مطلب سالت من أجله الدماء لتخلع عنا ثوب الطاعة العمياء والولاء المطلق وتطهرنا من دنس الارتهان بالطمع في ذهب المعز أو الخوف من سيفه.. اعتماد رواتب شهرية للشهداء ومعالجة الجرحى لن يفي بأي وجه من الوجوه بأي حق من حقوق هؤلاء ما لم يتم محاكمة القتلة وإسدال الستار على مسرحية الحصانة الهزلية الممنوحة مِن مَن لا يملك لمن لا يستحق. على الرغم من أن جمعة الكرامة جرح نازف لم ولن يلتئم حتى محاكمة الجارحين القتلة ويوم مشهود لم ولن يُمحى من ذاكرة الاجيال مالم نشهد رحيل المجرمين بحبال المشنقة..
رغم ذلك إلا أنها جمعة صيحة بعث أيقظت ضمير أُمه وجسدت وحدة شعب وأعلنت صحوة ضمير ومثلت صك غفران عن ذنب الاستسلام والرضوخ للظلم على مدى 33 عام.. يستحضرني الشاعر الساخر أحمد مطر وأنا اتحدث عن جمعة الكرامة كرسالة واضحة المعالم الى طغاة العالم على وجه العموم والى طغاة سوريا واليمن على وجه الخصوص في قوله: بلغ السيل الزُبى ها نحن والموتى سواء فأحذروا يا خلفاء لا يخاف الميتُ الموتَ ولا يخشى البلايا قد زرعتم جمرات اليأس فينا وعلينا.. وعليكم فاذا ما أصبح العيشُ قريناً للمنايا فسيغدو الشعب لغماً وستغدون شظايا..