في خطوة مفاجئة، أعلن سلفيو اليمن، منتصف شهر مارس الماضي، عن تشكيل حزب جديد يحمل اسم "اتحاد الرشاد اليمني"، بعد سنوات من تحريم الحزبية والعمل السياسي، باعتبار ذلك نوعا من الخروج على ولي الأمر وتمزيق الأمة، وتأتي هذه الخطوة في سياق التحولات الكبرى التي أحدثتها ثورات الربيع العربي في المنطقة العربية، حيث كان من أبرز هذه التحولات صعود الحركات الإسلامية المعتدلة (الإخوان المسلمين) إلى الحكم، وانخراط السلفيين في العمل السياسي، من خلال تشكيل الأحزاب والترشح في الانتخابات التشريعية، كما حدث في مصر وبدأ يحدث في اليمن. وطوال السنوات الماضية، كانت الجماعات السلفية في كثير من البلدان العربية تعيب على حركة الإخوان المسلمين انخراطها في العمل السياسي وتشكيل الأحزاب والجمعيات والهيئات والأندية الرياضية والثقافية، بل وصوبت سهامها طوال السنوات الماضية ضد حركة الإخوان المسلمين، متهمة إياها بشتى التهم، ووصل الأمر أن أقدم بعض شيوخ السلفية على تكفير بعض العلماء المنتمين لحركة الإخوان، وتأليف كتاب وإصدار أشرطة كاسيت متخصصة في ذلك.
- تحولات متشابهة تؤكد التطورات الأخيرة التي مرت بها الجماعات السلفية أنها ستمر بنفس التحولات التي مرت بها حركة الإخوان المسلمين، فالإخوان -عند بدء نشأة حركتهم- كانوا يرون بأنه لا داعي للتحزب، وركزوا في دعوتهم على الإصلاح الاجتماعي ودعوة الناس إلى العودة إلى الدين في وقت كانت فيه موجة التغريب تعصف بالأمة العربية بالتزامن مع الاحتلال الأجنبي وتقاسم العالم العربي بين القوى الكبرى في أعقاب الحرب العالمية الأولى وفقا لما نصت عليه اتفاقية سايكس بيكو، لكن الإخوان كانوا لا يصطدمون مع الأحزاب ولا يحرمون الحزبية أو يعترضون على قيامها، ثم أنه بعد أن ظهرت العديد من الأحزاب في مصر وأخذت تتصارع فيما بينها، واتخذت من الأفكار المستوردة -كالشيوعية والرأسمالية- منهاجا لها، عندما حدث ذلك، بدؤوا في الدعوة إلى ترك الحزبية بعد أن رأوا أنها تفرق الأمة. بعد ذلك، بدأ الإخوان المسلمون خوض السياسة من خلال تقديم النصح للملوك والحكومات والهيئات والمؤسسات المختلفة، ويدعون إلى محاربة الفساد في الإدارات الحكومية، ما أدى إلى اصطدامهم بالحكام ودفعوا ثمنا باهضا جراء ذلك، وذلك قبل أن يخوضوا الحياة السياسية عن طريق تشكيل الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية في بلدان أخرى غير مصر، لأن إخوان مصر لم يستطيعوا تشكيل حزب سياسي قبل ثورة 25 يناير 2011م، بسبب القبضة الأمنية الحديدية المحكمة حولهم، ومنعهم من تشكيل أي حزب سياسي، بل أنه عندما انشق عدد من الشباب عن حركة الإخوان قبل ذلك بسنوات وأسسوا حزب الوسط، فاجأتهم الجهات الأمنية بالاعتقالات وزجت بهم في السجون. التحولات التي مرت بها حركة الإخوان المسلمين، وخاصة في ما يتعلق بالحزبية والديمقراطية والانتخابات، وتمر بها حاليا الجماعات السلفية، تؤكد حيوية هذه الحركات وعدم جمودها وتقوقعها حول أفكار معينة، كما يحاول العلمانيون وصمها بذلك، رغم أن حركة الإخوان المسلمين كانت الأكثر تحولا قياسا بالجماعات السلفية. وفي المقابل، فإن بعض العلمانيين يعيبون على الحركات الإسلامية مثل هذه التحولات، ويصفونها ب"المتناقضة"، إذ كيف بحركة إسلامية إلى وقت قريب تحرم الحزبية والانتخابات، والآن تخوض الحزبية والانتخابات بقوة وتحقق تقدما مذهلا. ومثل هذا الطرح لا يعني أن العلمانيين حريصون على المبادئ، ولكنهم متخوفون من أن تسيطر الحركات الإسلامية المختلفة على المشهد السياسي والإعلامي وترمي بهم إلى الهامش، وهو ما حدث فعلا، ثم إن التطورات التي مرت بها الحركات الإسلامية المختلفة، وتغيير فتاواها بخصوص القضايا المعاصرة كالحزبية والديمقراطية والانتخابات وغيرها، إنما يعني أن هذه الحركات قد أعملت ما يسمى ب"فقه الواقع"، كما أن تغيير الفتوى أو التراجع عنها يعد أمرا إيجابيا ومتعارفا عليه عند علماء المسلمين قديما وحديثا، وخاصة في الحالات التي يظهر فيها الحق جليا وواضحا لا لبس فيه. ولهذا، فلا غرابة في التحولات التي تمر بها الجماعات السلفية المعاصرة، وخاصة سلفيو مصر بعد ثورة 25 يناير، ومحاولة الجماعات السلفية الأخرى أن تحذو حذوهم، حتى وإن كانت بعض الجماعات السلفية قد خاضت الانتخابات قبل سلفيي مصر مثل سلفيي الكويت والجزائر.
- السلفيون والعمل السياسي تمثل الجماعات السلفية في اليمن (جمعية الحكمة - جمعية الإحسان - أتباع الشيخ مقبل الوادعي)، تمثل امتدادا للحركة الوهابية التي ظهرت في منطقة نجد في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، الموافق للثامن عشر الميلادي، ومؤسسها هو الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (1703 - 1792م)، والحركة الوهابية -بحسب أتباعها- تمثل امتدادا للدعوة السلفية التي أسسها ابن تيمية، رحمه الله، في القرن الثامن الهجري. ويرى أتباع الحركة الوهابية أن حركتهم قامت في وقت ازدادت فيه الخرافات والشرك بالله في العبادات والمعاملات، وأن دعوتهم جاءت بالمنهج السلفي بهدف التخلص من العادات والممارسات التعبدية التي انتشرت في بلاد الإسلام مثل التوسل، والتبرك بالقبور والأولياء، والبدع بكافة أشكالها. ولعل ما يعيب الحركة الوهابية والجماعات السلفية التي تمثل امتدادا لها، أنها ترى أن الجميع على ضلال بما في ذلك الحركات الإسلامية الأخرى، وأنها هي وحدها الفرقة الناجية، وتحرم الحزبية والديمقراطية والانتخابات، وتؤكد بأنها حركة دعوية بحتة. على أن الشواهد المختلفة تؤكد أن الحركة الوهابية التي انبثقت عنها الجماعات السلفية المعاصرة حركة سياسية بامتياز منذ نشأتها وحتى الوقت الحالي، بصرف النظر عن تحريمها للحزبية والانتخابات، لأن تحريمها للحزبية وللانتخابات يصب في خدمة الحكام، حيث تحرم هذه الحركة منافسة ولي الأمر في الانتخابات، وتعتبر ذلك خروجا عليه، مع أن الحركة الوهابية ذاتها هي أول من خرج على ولي الأمر المتمثل في الخلافة العثمانية، حيث سعى محمد بن عبدالوهاب لإقامة مذهبه بالقوة والسيف، فاستولى على قسم كبير من الجزيرة العربية، وهاجم الكويت وساحل عمان ودمشق وكربلاء والنجف، كما حارب العثمانيين بشدة في هذه المناطق، وقد كفّر العثمانيون الدعوة الوهابية، ووصفوا مؤسسها بأنه "ملحد". ورغم أن الوهابيين كانوا أول من خرج على ولي الأمر (الخلافة العثمانية)، لكنهم أفتوا بحرمة ذلك من أجل مصلحة آنية اقتضتها ظروف تأسيس الحركة الوهابية، حيث تحالف الإمام محمد عبدالوهاب (مؤسس الحركة الوهابية) مع محمد بن سعود (مؤسس الدولة السعودية الأولى)، عام 1157ه في بلدة الدرعية، فبايع محمد بن عبدالوهاب الأمير محمد بن سعود على السمع والطاعة، وبايعه الأمير محمد على نشر دعوته إذا استتب الأمر له. واشترط محمد بن سعود في مبايعته للشيخ أن لا يتعرضه فيما يأخذه من أهل الدرعية مثل الذي كان يأخذه رؤساء البلدان المختلفة على رعاياهم، فأجابه محمد بن عبدالوهاب على ذلك رجاء أن يخلف الله عليه من الغنيمة أكثر من ذلك. وبلغ هذا التحالف أن قاتل الوهابيون بشدة إلى جانب آل سعود ضد خصومهم، وارتكبوا جرائم فظيعة في حق المسلمين من أبناء نجد والحجاز وغيرهم من أبناء شبه الجزيرة العربية، وذلك قبل قيام الدولة السعودية الثالثة على يد عبدالعزيز آل سعود. وفي عام 1215ه، وصلت أول حملة نجدية لنشر الدعوة الوهابية في اليمن بقيادة رجل يدعى حزام بن عامر العجمي اليامي، ودارت مواجهات بينه وبين بعض رجال القبائل، وجرى الصلح بين الطرفين، وتمكنت الدعوة الوهابية من إيجاد موطئ قدم لها في المخلاف السليماني وبعض مناطق اليمن.
- التمزق السلفي في بداية الثمانينيات، أسس الشيخ المحدث مقبل الوادعي، رحمه الله، مركز دماج العلمي في صعدة، كإطار عام يضم جميع السلفيين اليمنيين. ومنذ العام 1990م، بدأ سلفيو اليمن ينقسمون على أنفسهم، ففي يوم 21/8/1990م، أعلن عدد من أتباع الشيخ مقبل الوادعي انشقاقهم عن مدرسته وتأسيس جمعية الحكمة في مدينة تعز، وشنت مدرسة الوادعي حربا شعواء على هذه الجمعية وأتباعها، واتهمت قياداتها بمختلف الاتهامات، مثل التكسب باسم الجمعية وسرقة الدعوة وغير ذلك، وارتبطت هذه الجمعية بجمعية إحياء التراث في الكويت. ومن أبرز رموزها الشيخ عبدالعزيز الدبعي، والشيخ أحمد بن حسن المعلم، والشيخ عبدالله بن غالب الحميري، والشيخ أبو الحسن المأربي، وكان قد استقال من مدرسة الشيخ الوادعي قبل أن يستقطب من قبل جمعية الحكمة. وفي عام 1992م، انشق عدد من أعضاء جمعية الحكمة وأسسوا جمعية الإحسان في محافظة حضرموت، ومن أبرز رموزها الشيخ عبدالمجيد الريمي، والشيخ محمد بن موسى العامري البيضاني، والشيخ عبدالله الحاشدي، والشيخ عبدالوهاب الحميقاني. وانفتحت هاتان الجمعيتان على أطراف العمل السياسي والحزبي في البلاد، وشهدت تحولات فكرية في السنوات الأخيرة أفضت في النهاية إلى تشكيل حزب سياسي. وبدأت فكرة الحزب السياسي تختمر لدى هاتين الجمعيتين منذ قبل انطلاق ثورة الشباب، وازدادت الحماسة حيال ذلك بعد انطلاق الثورة، وخاصة بعد الإعلان عن تأسيس الائتلاف السلفي اليمني بعد اندلاع الثورة، ودعا هذا الائتلاف -حينها- جميع الأطراف إلى التعاطي الإيجابي مع المبادرة الخليجية، وكان موقفهم ما بين مؤيد للثورة ومحايد، باستثناء أتباع مدرسة الشيخ مقبل الوداعي (مركز دماج بصعدة)، الذين اعتبروا أن ثورة الشباب تعد خروجا على الحاكم. وفي الأشهر الأولى للثورة، بدأ السلفيون الترتيب لتشكيل حزبهم الذي أطلقوا عليه حينها "حزب العدالة والتنمية"، برئاسة الأستاذ عمر عبده قائد، إلا أنهم فجأة توقفوا عن ذلك ولأسباب غير معروفة، وربما كان تأجيل الإعلان عن اسم الحزب بسبب إقدام بعض المنشقين عن حزب المؤتمر الشعبي العام على تأسيس حزب يحمل تسمية مشابهة "تكتل العدالة والبناء". وقبل الإعلان عن حزب "الرشاد"، أفادت تسريبات قبل ذلك بأن السلفيين كانوا قد استقروا على تسمية حزبهم ب"حزب التمكين"، ثم أعلنوا عن تشكيل حزب "اتحاد الرشاد اليمني"، وهي تسمية يرى البعض بأنها باهتة وغير موفقة. وينقسم السلفيون في اليمن بخصوص العمل السياسي إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول، هو القسم الذي شهد تحولا فكريا حيال العمل السياسي منذ عدة سنوات، وكان أتباعه لا يرون حرجا في العمل السياسي شريطة التقيد بقيود الشرع وأحكام الدين الإسلامي، وأصحاب هذا الاتجاه هم من أعلنوا تأسيس حزب الرشاد اليمني السلفي، وأبرز رموزه الشيخ عقيل المقطري، والشيخ مراد القدسي، والشيخ محمد بن موسى العامري، والشيخ عبدالله الحاشدي. والقسم الثاني، ما زال على موقفه بتحريم العمل السياسي والحزبي، وهو باق على موقفه هذا حتى بعد ثورات الربيع العربي، ويمثل هذا الاتجاه الشيخ يحيى الحجوري، القائم على مركز دماج العلمي بصعدة، ومشائخ وطلاب هذا المركز وأتباع مدرسة الشيخ المحدث مقبل بن هادي الوادعي، رحمه الله. أما القسم الثالث، فيمكن القول بأنه يقف موقفا وسطا بين القسمين السابقين بخصوص العمل السياسي، حيث يرى أتباع هذا الاتجاه أن العمل السياسي لا بد منه وفق الضوابط الشرعية، غير أنهم يرون أن ممارسة العمل السياسي الشرعي يجب أن يكون عن طريق النصح والإنكار على المخالفين عبر الوسائل المتاحة وليس الدخول في اللعبة السياسية من خلال تشكيل الأحزاب والمشاركة في الانتخابات، وأبرز ممثلي هذا الاتجاه الشيخ عبدالمجيد الريمي وعدد آخر من طلبة ومشائخ الدعوة السلفية.
- ما بعد الحزب السياسي لا شك أن تأسيس حزب سياسي سلفي من شأنه إنعاش الحياة السياسية، ومن الصعب التكهن حاليا بمدى قوة الحزب، لكن المؤكد أنه سيكون له شعبية كبيرة، خاصة وأن جمعيتي الحكمة والإحسان السلفيتين اللتين أسستا الحزب تحظيان بتواجد كبير في محافظات تعز وإب وحضرموت، وهي محافظات معروفة بثقلها السكاني. كما أن تأسيس الحزب سيثير الانقسام في أوساط السلفيين أنفسهم، لأن هناك بعض منتسبي جمعيتي الحكمة والإحسان لا تروق لهم فكرة العمل السياسي من خلال الحزبية والانتخابات، وستزداد حدة الانقسام في الأيام المقبلة، وخاصة عندما يبدأ الحزب في التعبير عن توجهاته السياسية، ومع من سيتحالف ومن سيخالف من الأحزاب القائمة بمختلف توجهاتها. ويبدو أن هناك ارتياحا واسعا من قبل حزب الإصلاح لتأسيس حزب سلفي، وفي المقابل، هناك توجس وحالة عدم ارتياح لدى اليساريين والعلمانيين، فحزب الإصلاح لا يخشى منافسة السلفيين له، بسبب قوته التنظيمية وخبرته السياسية من جهة، وضعف الهيكل التنظيمي للسلفيين وانقسامهم على أنفسهم من جهة أخرى، وستختفي التهم المختلفة الموجهة نحوه من قبل السلفيين بسبب الحزبية والانتخابات، أما اليساريون والعلمانيون، فمخاوفهم من قيام حزب سلفي تكمن في أن هذا الحزب سيقذف بهم إلى هامش المشهد السياسي كما حصل في مصر، وسيتحول التنافس السياسي والاستقطاب بين الإسلاميين أنفسهم (إخوان وسلفيين)، بعيدا عن اليساريين والعلمانيين وخطابهم النخبوي الاستعلائي البعيد عن هموم المواطن العادي.