لا شك أن كثيرين منا يعرفون معنى وأصل هذه الكلمة «موكا» التي تدل على البن اليمني والتي حرفها النطق الغربي من اسم ميناء «المخاء» الشهير الذي كان يتم من خلاله تصدير البن اليمني إلى مختلف أنحاء العالم بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر.. واليوم يشير مصطلح «موكا كوفي» إلى أجود أنواع البن في العالم! ولكن ربما أن القليل منا يعرف أهمية وشهرة وقوة هذا المحصول الذي يُعد من المشروبات الأكثر شعبية في جميع أنحاء العالم بل يقال أن البن الأخضر هو ثاني أكثر السلع تدوالاً في العالم بعد النفط الخام!! ويقول المختصون أن أجود أنواع البن هي تلك التي تُزرع على ارتفاعات كبيرة مع توافر جو دافىء ورطب لذلك تفضل التلال والمناطق الجبلية.. وبالتالي – وفقا للمختصين- فإن اليمن تُعد من أفضل الأماكن لزراعة البن! ولا يوجد خلاف أيضا أن البن اليمني يُعتبر من أجود أنواع البن في العالم! بل إن اليمن كانت أول دولة مصدرة للبن عالميا! ومن المحزن جدا – والمخزي في نفس الوقت- بعد قراءة هذه المعلومات أن نعرف أنه في قائمة أعلى الدول إنتاجا للبن نجد أسماء عشرين دولة ليس من بينها اليمن! كنا قد تكلمنا في مقال سابق عن الثروات العديدة والموارد التي حبا بها الله اليمن ولم يٌستغل أكثرها للأسف.. واليوم نتكلم عن البن الذي يُعد أحد الثروات المهمة جدا للبلد.. والحديث عن البن والعوائد المتوقعة منه يحتاج منا إلى «وقفة» حقيقية وجدية في مناقشة هذا الجانب ..فليس هناك خلاف أو جدال أن البن سلعة هامة جدا وذات مردود عالي بالنسبة للدول التي تصدر هذه السلعة.. والذي يشكك في هذا الأمر أو يظن أني أبالغ فليعلم أن دولة مثل كولومبيا والتي تعتبر ثاني منتج للبن على مستوى العالم يمثل البن لوحده نصف صادراتها.. لاحظوا اننا نتكلم عن دولة يُقدر الناتج المحلي الإجمالي لها ب228 مليار دولار سنويا! وفي الحقيقة فإن مايجري في بلدنا عجيب جدا.. فقد استبدلنا شجرة البن التي رزقنا الله بها بدون تعب او مشقة بشجرة القات الضارة والتي نزرعها ونستهلكها بشراهة محليا ولا نجني منها ما يمكن أن يساهم في تنمية الناتج المحلي أو دفع عجلة الاقتصاد أو تطوير الدخل الفردي أو القومي.. بينما -وعلى سبيل المثال- لم تعرف ماليزيا شجرة المطاط من قبل وإنما جُلبت أشجار المطاط إليها في القرن التاسع عشر في محاولة لزراعتها هناك واليوم تعد ماليزيا من كبار الدول المنتجة للمطاط حيث تنتج ماليزيا واندونيسيا فقط ما يعادل 85% من إنتاج المطاط الطبيعي في العالم! ولا تزال ماليزيا أول دولة على مستوى العالم في تصنيع وتصدير المنتجات المطاطية.. بل وفي فترة من الفترات كان المطاط الدعامة الأساسية للاقتصاد الماليزي! ولكي نعرف ما الذي يعنيه أن تهتم الدولة بمورد ما وتطوره بما يعود عليها من النفع والفائدة يكفي ان نعرف أن صادرات ماليزيا من منتجات المطاط الطبيعي في عام 2009 تجاوزت الثمانية مليار دولار وهو مبلغ يزيد بكثير عن ميزانية البنك المركزي في بلدنا الحبيب ويقل قليلا عن الموازنة العامة للدولة التي أقرت للعام 2012 بمبلغ 9.8 مليار دولار!! أنني أدرك يقينا أن كثيراً من اليمنيين – للأسف الشديد – يتبنون فكرة أن البلد في حقيقة الأمر فقير وتعيس ولذلك فإن غالبية الناس تعيش في فقر مدقع وبؤس شديد! نعم هذا صحيح بالنسبة للفقر والمعاناة التي لها أسباب عديدة ولكن هذا لا يعني أبدا أننا فقراء في الموارد.. بل على العكس بلدنا غني جدا بالموارد التي لم يُستغل أكثرها للأسف أو تم إهماله كما هو الحال مع موضوع البن.. ولذلك نجد الفقر منتشر في كل مكان ليس لأننا لا «نملك» ولكن لأننا لا «نستغل» ما نملكه بالفعل! فعلى سبيل المثال لماذا لا ننتبه الآن إلى هذه الثروة الطبيعية المهمة جدا التي بين أيدينا ألا وهي «البن» ونقوم بدعمها وتطويرها وتصديرها بحيث يمكن أن تجني البلد أرباحا طائلة من هذه السلعة؟ من المضحك المبكي في آن معا أن اليمن قبل مئات السنين كانت تصدر إلى بلدان العالم أكثر من 20 ألف طن من البن سنويا أما الان فلا يتجاوز حجم التصدير 4 آلاف طن!! ولو قامت الحكومة بالالتفات إلى هذا الجانب وتشجيعه وتطويره ورفع الوعي بشأنه وتقديم التسهيلات والارشادات والخدمات له لأصبحت صادرات البن فقط تدر علينا المليارات سنويا ولأمكننا أن ننافس عالميا في هذا المجال بل ربما نتفوق على الجميع أيضا! وربما كان من المفيد أن نعلم أن عائدات البن قديما كانت هي الداعم الأساسي لميزانية الدولة بل إن عملية توحيد اليمن أيام حكم الأئمة كانت من أهم النتائج السياسية التي ترتبت على وجود اقتصاد قوي ناتج عن توفر كميات كبيرة من النقود، حصلت عليها اليمن من زراعة وتجارة البن بدرجة أساسية وهذه المعلومات وغيرها وردت في كتاب «تجارة البن اليمني» للباحثة اليمنية أروى الخطابي التي تؤكد في نفس الكتاب أن الاحتلال البريطاني لعدن كان يعود إلى الرغبة في السيطرة على تجارة البن أساسا! يجب على أي حكومة وطنية تريد فعلا البحث عن أسباب ومصادر للتنمية بدلا من احتراف «التسول» وتلقي «الهبات» من الخارج أن تبحث في امكانية استغلال كل الموارد الطبيعية للبلد ومن بينها – وربما على رأسها- البن! ينبغي على الحكومة أن تتبنى خطة شاملة للنهوض بهذا القطاع من خلال نشر حملات توعية واسعة بين المواطنين والمزارعين على حد سواء.. ومساعدة المزارعين على زراعة البن بدلا من القات من خلال فرض ضرائب عالية جدا على القات وتخفيضها على البن في المقابل وتوفير السوق اللازمة لتسويق وتصريف البن وشراء المحاصيل بأسعار مغرية من المزارعين وكذلك دعم الدراسات والأبحاث المتعلقة بزراعة البن اليمني وتسويقه عالميا عبر وسائل الإعلان المختلفة بحيث تكون هناك أرباح عالية جدا من تصديره..
ويجب أن لا ننسى أيضا أن جزء كبير من المسئولية في هذا الجانب يقع على المواطنين أنفسهم.. فيجب أن تتضافر الجهود جميعها من خلال الوعي أولا بما نملك ومدى أهميته والمنفعة المرجوة منه لنا جميعا ومن ثم العمل على دعم واستغلال هذا الذي نملكه .. إن من أكبر الجرائم التي نرتكبها في حق أنفسنا هي قيامنا باستبدال شجرة البن العظيمة بشجرة القات السيئة والمضرة!! لن أقول أن استغلال الموارد هو مسئولية وواجب الدولة فقط ولكنه مسئولية كل فرد يريد فعلا لبلده أن يتطور ويتقدم فيجب على هذا الفرد أن لا يكتفي بالتحسر والندب وإلقاء اللوم على الآخرين بل من المهم أن يبدأ المرء بنفسه ولو في أضيق وأبسط الحدود.. ففي مقابل كل فلس نخسره جراء إهمالنا للبن وعدم اهتمامنا بتصديره يوجد أحد «المخزنين» الذي يساهم في عملية الخسارة هذه بشرائه للقات يوميا وتشجيع من يزرعون هذه النبتة على مواصلة زراعتها على حساب البن!
واجبنا جميعا أن نلتفت وننتبه إلى ما حبانا به الله تعالى من ثروات وموارد تمثل كنوزا حقيقية وأن نعمل على استغلالها وتنميتها بحيث تعود علينا جميعا بالفائدة.. حينها فقط سندرك أننا لسنا «فقراء» وأننا لا نحتاج إلى «هبة» أو «صدقة» من أحد.. وساعتها فقط سنبني اقتصاد حقيقي قائم على موارد البلد وعلى أيدي أبناءه.. هذا الكلام ليس إنشائيا ولا خياليا.. ولا يحتاج منا إلا أن نشمر عن أيدينا وأن نبدأ كل في موقعه وبقدر ما يستطيع.. فهل نفعلها أم أننا سنستمر في جعل هذه الكنوز تضيع منا واحدا تلو الآخر؟