الفريق علي محسن الأحمر ينعي أحمد مساعد حسين .. ويعزي الرئيس السابق ''هادي''    ما لا تعرفونه عن الشيخ عبدالمجيد الزنداني    «الرياضة» تستعرض تجربتها في «الاستضافات العالمية» و«الكرة النسائية»    الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    بين حسام حسن وكلوب.. هل اشترى صلاح من باعه؟    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    السيول تقتل امرأة وتجرف جثتها إلى منطقة بعيدة وسط اليمن.. والأهالي ينقذون أخرى    السعودية تكشف مدى تضررها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    ريمة سَّكاب اليمن !    الشيخ هاني بن بريك يعدد عشرة أخطاء قاتلة لتنظيم إخوان المسلمين    حزب الرابطة أول من دعا إلى جنوب عربي فيدرالي عام 1956 (بيان)    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    مشادة محمد صلاح وكلوب تبرز انفراط عقد ليفربول هذا الموسم    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة الشّباب.. من المسيرة الأولى إلى المبادرة*
نشر في المصدر يوم 11 - 07 - 2012

*ورقة عمل بحثية محكمة علمياً قدمت إلى ندوة الثورة اليمنية، الخلفية التاريخية.. الخصوصية، الافاق، بتنظيم من المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات – الدوحة/ 18 – 19، فبراير 2012.
الملخّص
تستكشف هذه المادّةُ البحثيّةُ المساراتِ التي مضت فيها الثّورة اليمنيّة خلال عام، منذ انطلاقها متأثّرةً بمناخ الرّبيع العربيّ، إلى حين نجاح الجوار الإقليميّ والفاعلين الدّوليّين في فرض التّسوية السّياسيّة على ثورة الشّباب اليمنيّ، عبر المبادرة الخليجيّة وآليّتها المُزمنة التي وقعها ومضى في تنفيذها تحالف اللّقاء المُشتَرك وسلطة صالح، وتتعرّف خلال ذلك؛ كيف تكيف الشّباب اليمنيّ في فعلهم الثّوريّ مع الأطراف والقُوى الأخرى التي التحقت بالثّورة، وكيف تفاعلوا مع التّعقيدات النّاجمة عن المبادرة الخليجيّة، واستجابتهم لأدوار الأطراف الفاعلة فيها؛ مع قراءة أوليّة للعوامل الضّمنية المُحرّكة لهذه الأدوار. كما تحاول الدّراسة استكشاف بعض مسارات ثورة الشّباب اليمنيّ عَقِبَ التّوقيع على المبادرة، وبدء المسار السّياسيّ المتّصل بها، بما يستبطنه ذلك من تعقيدات وفرص.

مقدّمة
انطلقت ثورة اليمن الجديدة في أوائل عام 2011، معتمدةً على شريحة الشّباب الذين تصل نسبتهم إلى 43% من مجموع السكّان، وَفقًا للإسقاطات السّكّانيّة (الملحق)، ومُستفيدةً بشكل أساسيّ من الإلهام والزّخْم الذي أطلقه نجاح ثورتي تونس ومصر، لتطبع الرّبيع العربيّ بهُويّتها المتمايزة التي شكّلتها على مدى العام الذي استغرقته على الرّغم من كون البيئة الاجتماعيّة والسّياسيّة التي تبلورت فيها، تبدو أكثر تعقيدًا من غيرها؛ وحيث يتمظهر النّظام الذي ثار عليه اليمنيّون في مستويات متعدّدة وغير منظورة، تتجاوز مستوى القوّة العارية وأدوات القهر والقمع الذي بادرت إليه سلطة صالح لإجهاض هذه الثّورة.
لقد شكّل استغراق الثّورة زمنًا طويلًا قارب مدّة العام، عاملًا مهمًّا في تكيّفها المستمرّ في مواجهة التّحدّيات المتعدّدة، وتطوير المكوّنات الثّوريّة لأدواتهم وإمكانياتهم، إلى جوار القُوى التّقليديّة من أحزاب وقبائل وكيانات أخرى؛ أصبح بعضها طرفًا في الثّورة، بينما وقف البعض الآخر في مواجهتها، مع احتفاظ الجميع بحذرهم منها. كما شكّل هذا الأمد الزّمني فرصةً أكبر لتداخل هذه الثّورة بعمق مع المجتمع، متجاوزةً شريحة الشّباب الذين شكّلوا حاملها الأساس، بما خلّفه ذلك من تداعيات على العلاقات والتحالفات بين مراكز القُوى التّقليديّة في المجتمع التي ارتطمت بها الثّورة فجأة، وهو ما أدّى في محصلته إلى تجلّي التّعقيدات الكامنة في العلاقة بين مكوّنات السّلطة الاجتماعيّة والسّياسيّة وتداخلها، وإلى تبلور الشّباب كفاعل جديد وغير تقليديّ في قلب كلّ هذه التعقيدات، مع أنّه يتّضح بعد ما يدلّ على تأثيره، وما يتوفّر له من الفُرص والمواقع إلى جوار الآخرين.

تفاعلت الثّورة اليمنيّة مع تدخّلات مُختَلِفة استهدفت إعاقة تشكّل نموذج وطنيّ يمنيّ جديد، يأتي على حامل هذه الثّورة. وتأسّس انفتاح الجوار الإقليميّ على ما يحدث في اليمن تحت عنوان المبادرة الخليجيّة، استجابةً لاحتمالات متعدّدة، منها: تفتّت الدّولة وانهيارها تحت وطأة الانقسام العسكريّ في المؤسّسة العسكريّة، وما قد يؤدّي إليه ذلك من مشكلات لا حصر لها بالنّسبة للخليج والعالم. علاوةً على المخاوف السّعوديّة تحديدًا؛ من تحرير المجال السّياسيّ اليمنيّ من سيطرتها، وهي التي استثمرت طويلًا في النّظام السّياسيّ القائم، وفي مراكز قُوىً قبليّةٍ وسياسيّةٍ متعدّدة، لضمان استمرار مستوى ثابت من الولاء لها.

تحاول -إذًا- هذه الورقة؛ التعرف على المسارات المتعدّدة التي سلكتها الثّورة اليمنيّة خلال عام تقريبًا، مع التّركيز على كيفيّة تطوّر التّجربة الثّوريّة والسّياسيّة للشّباب اليمنيّ، وطبيعة استجابتهم للتحدّيات التي واجهتها ثورتهم، والتّحولات التي مرت بها، من خلال النّظر القريب في أحداث مركزيّة تفاعلوا فيها مع الكثير من المتغيّرات السّياسيّة ذات الأبعاد الدّاخليّة والخارجيّة، مع تَحسُّسِ المآلات التي قد تصير إليها الثّورة، عَقِبَ تسارع العمليّة السّياسيّة التي أتت على خلفيّة المبادرة الخليجيّة.

الخريطة السّياسيّة للثّورة خلال عام
تبلورت الفعاليّة السّياسيّة للقوى الشّبابية النّاشطة في ساحات التّغيير والحرّيّة في اليمن، عبر أكثر من إطار تنظيميّ ثوريّ ضمن الهدف المركزيّ الجامع والقائل بإسقاط النّظام، هذه الأشكال التّنظيميّة من التّبلور السّياسيّ للشّباب، لم تأخذ هُويّتها النّهائيّة إلّا بشكلٍ متأخّر نسبيًّا، على بدء المسار الاحتجاجيّ الذي انطلق في 15 يناير 2010، بالتّزامن مع انتصار الثّورة التّونسيّة وبدء تجربة ميدان التّحرير في القاهرة في 25 كانون الثاني / يناير 2010، حيث اتّسم الحضور اليوميّ للشّباب اليمنيّ في الثّورة، بمزاجٍ مُندفعٍ يُعرّف نفسه بالتّناقض الكُلّيّ مع النّظام، ضمن شعار (الشّعب يريد إسقاط النّظام) من دون أن يعتني الشّباب بتعريف أو تأطير أنفسهم بشكل محدّد في إطار هذا التّناقض؛ واتّسم الشّهر الأوّل -شهر شباط / فبراير - من المسار الثّوريّ، بحماسة متصاعدة بشدّة تغذّت على النّجاح الملهم للثّورة المصريّة وانتصارها الحاسم في 11 شباط / فبراير ، حيث خرج حينها آلاف الشّباب المُتحمّسين في مدينة "تَعِز" جنوب وسط اليمن، وقاموا بأوّل اعتصام في حينه، وتأسيس أوّل ساحة ثوريّة في اليمن، والتي عُرفت لاحقًا بساحة الحرّيّة في تَعِز( )، وشارك الشّباب في مدينة عَدَن جنوب اليمن في الزّخْم الثّوريّ، وشهدت مظاهراتٍ عدّة، ليسقط فيها أوّل شهيد في الثّورة (محمد العلواني)( ) .
وكان من اللافت؛ أن القوى الشّبابيّة المحسوبة على أحزاب اللّقاء المُشتَرك، وهي الأكثر تنظيمًا وفعاليّةً، لم تُنظّم بشكلٍ كُلّي إلى الحركة الاحتجاجيّة والتّظاهرات التي كانت تخرج في صنعاء وتَعِز وعَدَن، وهو ما أفصح عن عدم تبلور موقف حاسم لدى الأحزاب تُجاه الحركة الاحتجاجيّة حينها، والتي اكتفت بتنظيم مسيرة جماهيريّة كبيرة بتاريخ 3 فبراير، في قلب العاصمة صنعاء، حاولت عبرها استثمار هذا الزّخْم الذي بدأ في التّصاعد، وتوظيفه للضّغط على النّظام، للحصول على تنازلات سياسيّة أكبر منه. وتميّز الحضور الشّبابي في تلك المرحلة المبكّرة والحاسمة من الثّورة اليمنيّة، بغلبة المستقلّين الذين أتوا من خارج حقل السّياسة في معظمهم، وهكذا فإنّ (الأمر اللافت أكثر من غيره، كون هذه الاحتجاجات تقودها وتنظّمها مجموعة جديدة من الشّباب وناشطي المجتمع المدنيّ، الذين يعملون بشكل مستقلٍّ عن الأحزاب السّياسيّة الرّسميّة)( ).

عَقِبَ مسيرة 3 شباط / فبراير، تشكّلت أوّل نواة لساحة التّغيير في صنعاء من شباب وطلاب جامعيّين، رفضوا الانسحاب عَقِبَ انفضاض المسيرة مقابل بوّابة جامعة صنعاء، ودعوة أحد قادة المُشتَرك للمشاركين في المسيرة للعودة إلى منازلهم، قائلًا: (انصرفوا راشدين)، وما لبِث إلّا وأن قامت قوّات الأمن في المساء بفض الاعتصام. وكان هؤلاء الشّباب ذاتُهم، الذين تصدّروا واجهة المسيرات اليوميّة التي انطلقت منذ أوّل اعتصامٍ نُفّذ أمام السّفارة التّونسيّة في صنعاء، عَقِبَ انتصار الثّورة التّونسيّة، وكان يتمّ تفريقهم بالقوّة من أجهزة الأمن في شوارع صنعاء.

لم يستغرق تشكّل ساحة التّغيير في صنعاء عَقِبَ ساحة الحرّيّة في تَعِز إلّا أيّامًا قليلة. وتشكّل التّصعيد الاحتجاجيّ الذي انتهى بتشكّل السّاحة في يوم 12 شباط / فبراير، على خلفيّة مواجهات متعدّدة بين مجموعة من الشّباب الجامعيّين، يشاركهم ناشطون مستقلون، مثل: أحمد سيف، وتوكّل كرمان، وآخرون؛ كانوا يتجمّعون يوميًّا أمام بوّابة جامعة صنعاء الجديدة، في دوّار "الحكمة يمانيّة"، وما يلبثون أن ينطلقوا في مسيرات صاخبة ومُتحدّية، على امتداد الشّارع الدّائريّ في قلب صنعاء الذي يضمّ على جانبيه معظم كلّيّات الجامعة، متعرّضين خلال ذلك لاعتداءات متكررة، وعمليّات اعتقالٍ من قوّات الأمن( ).

لقد شكّل تدشين فعل الاعتصام المستمرّ في السّاحات، النّواة الأوّلى لتشكّل التّنظيمات الثّوريّة الأولى، ومواجهة الأسئلة الكثيرة التي تطرح على مستقبل الحركة الاحتجاجيّة للشّباب، حيث كان عليهم البدء بالتّفكير في: ماذا يريدون وماذا يفعلون؟ وكانت مستويات النّقاشات الأولى متمحورةً حول أهداف الثّورة بشكل أساسيّ. وأفرزت تلك النقاشات أوّل مستويات التّبلور التّنظيميّ بين المجموعات الشّبابيّة، على قاعدة اتفاق كلّ مجموعة على الأهداف الثّوريّة، وكان أن نشأت الائتلافات في السّاحة بشكل كثيف، قبل أن تبدأ بعض الائتلافات التي تضمّ مجموعات صغيرة في التّجمّع مع بعضها ضمن أطر تنظيميّة أوسع؛ وكان في الصدارة عددٌ من تلك الائتلافات الكبرى مثل: "تنوّع" و"المنسقيّة العليا لشباب الثّورة" و"التّحالف المدنيّ" و"اللّجنة التّحضيريّة لشباب الثّورة" و"شباب الصّمود"، علاوة على "اللّجنة التّنظيميّة" التي شُكّلت بقرار سياسيّ من أحزاب اللّقاء المُشتَرك؛ وضمّت في عضويّتها مُمثّلين من الشّباب، ينتسبون إلى أحزاب اللّقاء المُشتَرك؛ بالإضافة إلى بعض الفاعلين المستقلّين الذين حضروا في الواجهة الاحتجاجيّة الشّبابية منذ البداية، مثل: البرلمانيّ المستقل أحمد سيف حاشد، والصّحفيّة والنّاشطة توكّل كرمان، والإعلامية سامية الأغبري وآخرين. وشكّلت اللّجنة التّنظيميّة الفاعل الأساسيّ في إدارة ساحة التّغيير في صنعاء، والمُحرّك لقرار المسيرات الاحتجاجيّة في مواجهة النّظام.

أفصحت سيطرة اللّجنة التّنظيميّة عن ثقل الحضور الحزبيّ في الحركة الثّوريّة، واستيلائه على الموقع المركزيّ في قرارات الثّورة، وهو أمر تغذّى على الإمكانيّات التّنظيميّة والموارد الكبيرة التي تملكها التّنظيمات السّياسيّة، وعلى الرّغم من وجود الاستياء تُجاه السّيطرة الحزبيّة، ونشوء صدامات محدودة بين المستقلّين والحزبيّين في السّاحات، وانسحاب بعض المستقلّين من عضويّة اللّجنة التّنظيميّة عَقِبَ فترة قصيرة من تشكيلها، مثل: أحمد سيف حاشد، وعبدالباري طاهر( ). إلّا أنّ التّوازن كان يميل إلى مصلحة الحزبيّين، مُرجّحًا في النّهاية كِفّة الفاعل السّياسيّ الضّمنيّ المسيطر والمُتمثّل في اللّقاء المُشتَرك الذي أدار المواجهة السّياسيّة مع النّظام على خلفيّة هذه السّيطرة، بحسبانها تُرجّح أوراقه التّفاوضيّة أمام الوسطاء الإقليميّين والدّوليّين، وبالأخصّ الولايات المتّحدة والسّعوديّة.

(وحدثت الدَّفعَةُ الأكبر من الانضمام للثّورة ومطالبها، بعد المجزرة التي تمّت في حقِّ المحتجّين في ساحة "التّغيير" يومَ الجمعة الموافق الثّامن عشر من آذار/ مارس 2011، وسقط ضحيّتها ما يزيد عن الخمسين قتيلًا)( ) لقد ساهمت مذبحة جمعة الكرامة في تَعِزيز الحركة الثّوريّة، وأضعفت بنية النّظام بشكل خطير، وشكّلت تداعياتها أبرز تحوّل في الثّورة بعد مضي 3 أشهر على اندلاعها. كما شكّل الانشقاق الأبرز في الجيش، والذي قاده اللّواء علي محسن قائد الفرقة الأوّلى المدرّعة وإعلانه "الحماية والانضمام السّلميّ"( ) إلى الثّورة الشّعبيّة، ثِقلًا سياسيًّا كبيرًا أضيف للقُوى الموجودة في الثّورة. هذا؛ وقد انضمّ إلى الثّورة كلٌّ من قائد المنطقة العسكريّة الشّرقية اللّواء محمد علي محسن، وقائد المنطقة العسكريّة المركزيّة اللّواء سيف البقري، والعميد حميد القشيبي قائد اللّواء 310 في محافظة عمران. وانشقّ عن النّظام عدد من القادة العسكريّين المُهمّين، مثل: قائد القاعدة الجويّة في اللّواء 67 بمحافظة الحديدة، العميد الرّكن أحمد السنحانيّ، وهو أوّل انشقاقٍ في القوّات الجويّة اليمنيّة( )، وهو أمرٌ أثار تباينات كثيرة في أوساط الحركة الشّبابية الثّوريّة التي رأت فيه -مع بعض الأطراف- عسكرةً للثّورة وحرفًا لطابعها السّلمي، حيث يتخوّف بعض شباب الثّورة من أنّ انحياز علي محسن لها سوف يمسّ بمدنيّتها، ويؤدّي إلى اختطافها من العسكريّين. هذا؛ عدا عن كون محسن أحدَ رموز المرحلة السّابقة( )، بينما رأت فيه مجموعات أخرى حماية للثّورة من القتل الذي يتعرّض له شباب الثّورة؛ حيث إنّ الحلّ الوحيد لحماية الثّورة من عنف الجيش والأجهزة الموالية، يكمن في انضمام جزءٍ من الجيش( )؛ وهو انقسام مهمّ ومساهم في إضعاف النّظام بشكل رئيسيّ.

من جهة أخرى؛ أعلن السّيّد عبدالملك الحُوثِيّ زعيم جماعة الحُوثِيّين في صعدة شمال اليمن، انضمام الحُوثِيّين إلى الحركة الثّوريّة الشعبيّة السّلميّة ضمن هدفها المركزيّ القائل بإسقاط النّظام، والمشاركة بشكل سلميّ في الفعاليّة الثّوريّة( )، وهو الأمر الذي يعد تحوّلًا لافتًا في حركة سياسيّة لجأت باستمرار إلى السّلاح في مواجهة حكم الرّئيس صالح، على مدى أكثر من ستّ حروب في شمال اليمن.

احتلّت مدينة عَدَن موقعًا مركزيًّا في الفعاليّة الثّوريّة المتصاعدة منذ البداية، والمناهضة لصالح ونظامه. وشهدت المدينة مظاهرات كبيرة ومتعدّدة، سقط فيها جرحى وقتلى نتيجة القمع الأمنيّ، الأمر الذي جعلها تنتزع صدارة المدن اليمنيّة في تقديم أوّل شهداء الثّورة؛ وكان لافتًا -في بداية الأمر- صمت قوى الحَرَاك الجنوبيّ السّلميّ تُجاه الحركة الاحتجاجيّة التي كانت تتصاعد بشكل متسارع، متحوّلةً إلى ثورةٍ على نظام صالح؛ واكتفت بتصدير مواقف داعمة وخجولة لما يحدث، وبدا الأمر يفصح أنّ هناك خشية لدى بعض قوى الحَرَاك، من أن تشوّش الثّورة السّلميّة الموقف من المطالب الجنوبيّة، حيث يقامر بعض الحَرَاكيّين بالقضيّة الجنوبيّة؛ إذ يضعونها في مواجهة مطالبتهم بإسقاط النّظام؛ في لحظة وطنيّة فريدة وغير مسبوقة( )، وهو الأمر الذي تطوّر في وقت لاحق من الثّورة، إلى ما هو أشبه بالانقسام تُجاه الثّورة من بعض مكوّنات الحَرَاك الجنوبيّ؛ حيث أفصح الفريق الذي يقوده الرئيس الجنوبيّ السّابق علي سالم البيض، أنّ الثّورة في شمال اليمن لا تعنيهم، وأنّ الحَرَاك ملتزم تُجاه مطالبه في فك الارتباط مع الشّمال، وأنّه "لا للالتفاف على ثورة شعب الجنوب، ولا لأنصاف الحلول، ولا للفدرالية، ولا لطمس دولة الجنوب"( ). بينما عبّر فريقٌ يقوده الرّئيس الجنوبيّ السّابق علي ناصر محمد ورئيس حكومة أوّل وزارة في دولة الوحدة: حيدر أبوبكر العطاس، عن دعمه للثّورة الشّعبيّة، بوصفها امتدادًا للحَرَاك الاحتجاجيّ السّلميّ الذي دشّنه الجنوبيّون في أوقات سابقة.

لقد شكل التمسك بالسلمية وإنتهاج أدوات غير عنفية ومُفارقة لنسق التسويات والمحاصصة المهيمن على فضاء السياسة اليمنية الملمح الابرز للشباب اليمني طوال عام وسط تعقيدات الخارطة السياسية اليمنية.

لقد أربك دخولهم السياسة بشكل عاصف منطق السياسة التقليدي المتماسك في اليمن، وهيمنة أدوات الاستقطاب والحشد الميدانية غير التقليدية التي لجأوا إليها على مزاج وعاطفة جزء كبير من الشارع اليمني، وعلى دينامكية الحركة الثورية، ليشكلوا تهديداً خطيراً للتوافقات المستقرة في وعي السياسيين اليمنيين التقليديين بإعتبارها الوسيلة الأكثر أماناً للحفاظ على اليمن من الاحتراب الاهلي أو أي نزاع مدمر في حالة الدخول بمواجهة مع سلطة صالح، كما أستطاعوا زحزحة قناعة الكثير من اليمنيين بوجود مراكز قوى ابدية مهيمنة على صنع الحدث السياسي وإحداث أي تغيير فيه، وعلى مدى الشهرين الأولين من الثورة شكلوا القوة السياسية الاولى التي تقرر مسار الاحداث قبل أن تبدأ تداعيات جمعة الكرامة في 18 مارس 2011 بتغيير مسار الاحداث وتنزل الاحزاب بكامل ثقلها لفرض خياراتها وضبط مسار الحركة الثورية بما لايهدد مصالح الكثير من الاطراف المحلية والاقليمية والدولية المتداخلة في اليمن.
مكوّنات ثوريّة
تشكّلت الكثير من المكوّنات والائتلافات الثّوريّة في ساحات الحرّيّة والتّغيير في المحافظات المُختَلِفة. لكن أهمّها؛ تلك التي تشكّلت في ساحة التّغيير في صنعاء، لكون دائرة فعلها الذي تنشط فيه، هي العاصمة؛ محلُّ وجود مؤسسات الدّولة، ومكان ممارسة السّلطة بشكل مركزي؛ وهي المكان الذي تتركّز فيه رمزيّة نفوذ صالح وبقائه، ولكونها موقع إنجاز "الحسم الثّوريّ".
وتعتبر المكوّنات الثّوريّة في ساحة الحرّيّة في تَعِز مهمّة لاعتبارات متعدّدة، منها: اعتبار تَعِز الخزّان المعنويّ للثّورة، ورافعتها الحماسيّة؛ ولكون مستوى فعاليّة الاحتجاجات فيها، هو المحرّك الذي يمنح زَخْمًا واسعًا لكلّ العمليّة الثّوريّة على المستوى الوطنيّ.

ومن أهمّ المكوّنات الثّوريّة في ساحة التّغيير في صنعاء، اللّجنة التّنظيميّة التي أُنشئت بقرار سياسيّ من أحزاب اللّقاء المُشتَرك في الشهر الثاني لبدء الثّورة، لتتحمل مسؤوليّة إدارة القرار والمستوى التنظيميّ المباشر في ساحة التّغيير، وضبط إيقاع العمليّة الاحتجاجية. وعلى الرّغم من تمثيليّة اللّجنة لمُختَلِف مكوّنات اللّقاء المُشتَرك؛ إضافةً إلى ممثّلٍ عن حزب التّجمّع الوَحدويّ اليمنيّ اليساريّ، ومُمثّلٍ عن جماعة الحُوثِيّ، ومُمثّلين مستقلّين من السّاحة؛ كانوا من المتصدّرين الأوائل في الثّورة.. إلّا أنّ اللّجنة تُتّهم بالخضوع لحزب التّجمّع اليمنيّ للإصلاح؛ أكبر أحزاب اللّقاء المُشتَرك، والذي يتحمّل العبء الأكبر في ضخّ الموارد المادّيّة للسّاحة، ويشكّل أفرادُه القوام الأساسيّ للّجان الأمنيّة المُكلّفة بحراسة السّاحة، والمهامّ الأخرى من تغذية وغيرها( ).

إلى جوار اللّجنة التّنظيميّة؛ تشكّل عدد من المكوّنات الأخرى، مثل: التّحالف المدنيّ للثّورة الشّبابيّة الذي يعتبر من أبرز المكوّنات المُستَقِلَّة، ويتصدّره النّائب البرلمانيّ المستقل أحمد سيف حاشد، أحد أوائل من تصدّروا الحركة الاحتجاجيّة، وعدد من الشّباب الذين كانوا في صدارة المظاهرات الاحتجاجيّة. لقد تأسّس التّحالف الذي يتّسع تمثيله ليتعدى ساحة التّغيير في صنعاء، ليشمل مكوّنات وائتلافات ثوريّة في كلٍّ من تَعِز وعَدَن في 23 مارس/آذار 2011، وهو من المكوّنات النّشطة على المستوى الوطنيّ، بحيث بلور موقفًا مناهضًا للمبادرة الخليجيّة ومسار التّسوية السّياسيّة الذي أنتجته( ).

يشكّل المجلس التّنسيقيّ لشباب ثورة التّغيير (تنوُّع) أحد المكوّنات الثّوريّة المُستَقِلَّة المُهمّة والكبيرة كذلك؛ وتميّز كإطار ثوريٍّ جامعٍ لعدد كبير من الائتلافات في صنعاء وتَعِز وغيرها من السّاحات منذ البداية، حيث تأسّس في تاريخ 11 مارس/آذار 2011، وكان من أوائل المكوّنات الثّوريّة التي عملت على المساهمة في بلورة أهداف الثّورة وإصدار وثيقة بذلك؛ هي نتيجة لحوارات مكثّفة بين عدد من الائتلافات. واستطاع المجلس التّنسيقيُّ كذلك؛ الترويج للثّورة عبر الشّبكات الاجتماعيّة، حيث يُعتبر موقع "عين اليمن الإخباريّة" على الفيسبوك؛ التّابع له، من أهمّ مصادر الأخبار عن الثّورة. كما استخدم المجلس –بكفاءة- الوسائط الأخرى كافّة، مثل: اليوتيوب، والتّويتر؛ ولعب دورًا نشطًا في حشد الاحتجاجات الأساسيّة للسّاحة. والمجلس التّنسيقيّ؛ يعدّ من المكوّنات التي بلورت موقفًا مناهضًا للمبادرة الخليجيّة( ).

تعتبر اللّجنة التحضيريّة لمجلس شباب الثّورة( ) من المكوّنات الثّوريّة ذات الحضور الكارزمي في ساحة التّغيير في صنعاء، وتمتلك حضورًا في السّاحات الأخرى مثل تَعِز وإب، حيث تتصدّره النّاشطة توكّل كرمان؛ الحائزة على جائزة نوبل للسّلام عام 2011. ولعبت اللّجنة؛ التي تماهت أنشطتها في الأدوار التي قامت بها توكّل، بالعمل على الدّفع بالمسار التّصعيديّ للاحتجاج في صنعاء، وتحريك الكثير من المسيرات. علاوةً على كونها المكوّن الثّوريّ الذي بادر إلى تأسيس أوّل مجلس انتقالي من عضويّة عدد من الشخصيّات الوطنيّة( )، من دون التّوافق على ذلك مع المكوّنات الأخرى أو أحزاب اللّقاء المُشتَرك. وعلى الرّغم من فشل هذا المجلس، إلّا أنّها خطوةٌ خلقت زَخْمًا وجدلًا سياسيًّا وإعلاميًّا واسعًا، ولعبت دورًا مُعجِّلًا في تأسيس المجلس الوطنيّ لقُوى الثّورة من اللّقاء المُشتَرك.

وتشكل المنسقيّة العليا للثّورة اليمنيّة (شباب)، أحد المكوّنات الكبيرة والمهمّة التي تأسست ضمن محاولة لخلق تمثيل واسع من ائتلافات الشّباب. وتحسب المنسقيّة بشكل مباشر على التّجمّع اليمنيّ للإصلاح. وهي من المكوّنات النّشطة التي تتوفّر على إمكانيّات كبيرة، وتمتلك ثِقلًا واضحًا على في السّاحات؛ وقد أثارت جدلًا في العديد من المواقف، حيث كانت من المكوّنات الثّوريّة القليلة التي التقت بنائب الرّئيس عبد ربّه منصور هادي، وخرج قياديُّوها بتصريحات مثيرة للجدل حول الواقعة؛ وكان موقفها من المبادرة الخليجيّة متّسقًا مع المواقف الشّبابيّة الأخرى المعارضة لها على المستوى العلني، ويمتدّ حضور المنسقيّة على كافة السّاحات في المحافظات( ).

ويشكّل ائتلاف شباب الصّمود المحسوب على جماعة الحُوثِيّ، واحدًا من أهمّ وأنشط المكوّنات الثّوريّة في السّاحة، ويستمد امتيازه من كونه استطاع بناء علاقات وتحالفات غير متوقعه مع التمثيلات المدنيّة ذات النّبرة الليبراليّة واليساريّة في السّاحة، وحتى مع المجموعات النّسوية الحديثة والمتحرّرة، بشكل يبدو متناقضًا نظريًّا مع الموقع الدّينيّ المُحافظ والمُعلن القادمون منه؛ حتى وإن بدا ذلك في مستوىً ما، سلوكًا سياسيًّا "انتهازيًّا" في مواجهة الجماعات الدّينيّة الأخرى في السّاحة، وخصوصًا الإصلاح؛ الأقوى بين الجميع( ).

إضافةً إلى ذلك؛ نشأت العديد من المجموعات ذات الطّابع التّوحيدي العامّ، التي تستمدّ حضورها من كونها إطارًا تنسيقيًّا لائتلافاتٍ كبيرةٍ أكثرَ من كونها مُكوِّنًا ثوريًّا مُتجانسًا ومُتمايزًا. كما يحضُر ضمن هذا الوصف، المجلسُ المدنيّ الدّيمقراطيّ (مدد)، الذي تأسّس في شهر مايو 2011، كإطار جامع للائتلافات المُستَقِلَّة ذات الطّابع الّليبراليّ، في اتّجاه خلق كتلة جديدة في السّاحة؛ إلّا أنّه لم ينجح كثيرًا في تكريس هذه الكتلة الجديدة في مقابل المجموعات السّياسيّة الأخرى ذات الانتماء الحزبي( ). وهنالك الملتقى العامّ للتّنظيمات الثّوريّة، الذي تأسّس في شهر سبتمبر 2011، ضمن توجُّه تنسيقيٍّ موحّد للمجموعات الثّوريّة المحسوبة بشكل أساسيٍّ على اليسار والليبراليّين؛ وقد انضمت إليه الجماعة الحُوثِيّة عبر ائتلاف شباب الصّمود. وكان الملتقى يستهدف إنشاءَ تكتُّلٍ عريضٍ يقاوم المبادرة الخليجيّة ومسارها السّياسيّ؛ وبدا أكثرَ جِدِّيَّةً من غيره، في محاولة إقامة توازنٍ سياسيٍّ مع الائتلافات الحزبيّة، وتحديدًا؛ في مواجهة السّيطرة السّياسيّة والتّنظيميّة للمشترك على السّاحات. ونشط هذا الملتقى خارج ساحة التّغيير في صنعاء، ليتعدّاها إلى السّاحات الأخرى على المستوى الوطني، وخصوصًا تَعِز وعَدَن والحُديدة وإب وذِمار وصَعدة( ).

وفي تعز برزت بشكل كبير حركة شباب نحو التغيير التي تقودها الكاتبة بشرى المقطري، وهي عضو في مركزية الحزب الاشتراكي اليمني، والتي تضم إضافة إليها كتابا وصحفيين ونشطاء شباب مستقليين محسوبين على خط اليسار، ووفق منسقة الحركة فأن أول محضر يوثق تأسيسها يشير إلى تاريخ 25 يناير 2011 عقب عدد من الاجتماعات التي اتت استجابة لمناخ الربيع العربي الذي كانت تداعياته تعصف بمصر بعد نجاح الثورة في تونس، ليكون اول اشهار علني للحركة في 3 فبراير 2011، حيث قام المنضوين في اطارها بتنظيم مظاهرة انطلقت من ساحة صافر، والتي عرفت لاحقا بساحة الحرية، متجهة إلى مقر المحافظة، حيث اعلنت بيانها الشهير حينها (الشعب يريد إسقاط النظام) وتم الاعتداء عليها هناك وحدوث اول واقعة اعتقال لاحد منتسبيها وهو د/محمد مخارش .

وفي عدن تأسست حركة شباب 16 فبراير مع سقوط اول شهيد في عدن محمد العلواني في مديرية المنصورة وحمل اسمها تاريخ استشهاده، ونشطت الحركة التي ضمت شباب مستقليين في ساحة المنصورة، وتصادمت لاحقا من القوى الشبابية المحسوبة على حزب الاصلاح في ساحة كريتر حيث كانت تريد النشاط هناك وتوحيد قوام الحركة الاحتجاجية الشابة في عدن تحت اسمها باعتباره يحمل دلالة رمزية، واشتهرت الحركة برسم شعار الشعب يريد اسقاط النظام تحت توقيعها على الجدران في شوارع مدينة عدن، ومالبثت الحركة ان تخلت عن مطلب اسقاط النظام لتنظم لقوى الحراك الجنوبي بعد توقيع المبادرة الخليجية .

كما برزت في عدن أيضا حركة اتحاد منتديات شباب عدن للتغيير، والتي تأسست في شهر ابريل 2011 واشهرت من خلال اجتماع تاسيسي تم الانتخاب فيه وتوزيع بيان على الساحات ووسائل الاعلام، ويرأس الحركة د. عادل باعشن، والحركة انطلقت بشكل اساسي من ساحة (النور) في مديرية الشيخ عثمان وفي ساحة كريتر، وكانت مقربة من حزب الاصلاح .

وشكلت حركة شباب عدن واحدة من ابرز الحركة المستقلة في المدينة، حيث كانت تضم عدد من المثقفين والنشطاء والفنانين الشباب ابرزهم المخرج المسرحي الشاب والمعروف عمرو جمال. وتأسست الحركة في شهر ابريل عام 2011 حيث اعلنوا عن أنفسهم في إجتماع تأسيسي عقد في فندق التاج في مديرية التواهي في عدن، وتميزت الحركة بتنظيم أنشطة فنية وتوعوية في الساحات حيث كانت تقوم بعرض المسرحيات والعروض العامة، وتصادمت الحركة المعروفة بمزاجها الاستقلالية مع الفعاليات المحسوبة على الحراك الجنوبي والاخرى المقرب من الاصلاح الاسلامي، والتزمت بإستمرار خيار إسقاط النظام لكنها أيضاً تبنت خيار الفيدرالية بإعتباره خياراً ملائما لحل القضية الجنوبية .

ملامح انقسامات الحركة الاحتجاجيّة خلال الثّورة
تصدّر الشّبابُ الحالة الثّوريّة في اليمن، وأكّدوا -منذ البداية- استقلاليتهم تُجاه الفاعلين السّياسيّين التّقليديّين وخصوصًا الأحزاب. وصدّر الشّباب شعارًا مركزيًّا يؤكِّد هذه الاستقلاليّة لاحتجاجاتهم، وهو: "لا حزبيّة ولا أحزاب، ثورتنا ثورة شباب". خلق هذا الاتّجاه زَخْمًا للعمليّة الاحتجاجيّة، وأدّى إلى الدّفع بأعدادٍ كبيرةٍ من مُختَلِف الأعمار والفئات إلى الانخراط إلى في العمليّة الثّوريّة، ودعم مسار الثُّوَّار الشّباب؛ إلّا أنّ الثُّوَّار الشّباب القادمين من خارج حقل السّياسة، والذين تصدّروا مواجهة أدوات القهر والقمع لسلطة صالح بشجاعة، وجدوا فرصهم في السّيطرة على مسار الثّورة تتضاءل تمامًا، خصوصًا بعد الانخراط الكثير فيها من مُختَلِف الفئات الاجتماعيّة والعُمريّة والمكوّنات الأخرى، وهو الأمر الذي تفاقم بعد إعلان أحزاب اللّقاء المُشتَرك الانضمامَ إلى الثّورة، ودفعها أنصارَها للانضمام بشكل كثيفٍ إلى ساحات التّغيير والحرّيّة في مُختَلِف المحافظات، وهكذا بدأ الشّباب المستقلّ الذي تصدّر المسار الثّوريّ يتحوّل إلى أقليّةٍ ترافقت مع ضعف إمكانيّتهم التّنظيميّة، حيث تحتاج إدارة الثّورة إلى قدرات عالية، ولذلك تمّت إدارتُها بقدرات أكبر حزب سياسيٍّ يقود المعارضة، واستطاع من حيث الإدارة أن يحقّق نجاحًا كبيرًا، إلّا أنّه لم يستطع أن يحافظ على وحدة الصّفّ من الدّاخل، بسبب اليمين المتطرّف " المتشدّد"، وكذلك بعض الممارسات التي أثارت حفيظة شباب الثّورة من كلّ التّيّارات والأجنحة الأخرى)( ).
وكانت أولى الوقائع التي بلورت الانقسام بين الشّباب المستقلّ والحزبيّ في ساحة التّغيير في صنعاء، هي الصّراع على "المنصّة" في السّاحة، والتي تشكّل العمود الفِقَرِيَّ لعمليّة صناعة القرار وتوجيه مسار المعتصمين، واستطاع الشّباب الحزبيّين، وخصوصًا المنتمين إلى التّجمّع اليمنيّ للإصلاح -أكبر أحزاب اللّقاء المُشتَرك- السّيطرة على المنصّة واللّجان ذات الأدوار المهمّة في تسيير أعمال السّاحة، مثل: اللّجنة الأمنيّة، والتّنظيميّة، والماليّة، ولجنة التّغذية. وتأسّست سيطرة الشّباب الحزبيّ، على انضباطهم وتوفّرهم على الموارد الماليّة التي تأتي من أحزابهم ومن متبرّعين مقرّبين منهم أيديولوجيًّا؛ وذلك في مقابل ضعف تنظيم الشّباب المستقلّ، وانخفاض قدرتهم على تحصيل الموارد المادّيّة. هذا؛ وقد بدأت ملامح انقسام في الأشهر الأولى للسّاحة، قامت به مجموعات من الشّباب المستقلّ؛ يتصدّرها النّائب البرلماني أحمد سيف حاشد.. أحد الذين تصدّروا قيادة المظاهرات في أوّل الثّورة، والذي سبق وأن أعلن استقالته من اللّجنة التّنظيميّة بسبب سيطرة الأحزاب عليها.

إنّ أوّل ما فعله النّائب أحمد سيف والمجموعة المشار إليها، هو إنشاءُ منصّةٍ جديدةٍ في موقع آخر، يبتعد نسبيًّا عن المنصّة الرئيسيّة؛ في محاولةٍ لإنشاء مستوىً تنظيميٍّ وقياديٍّ جديدٍ خارجَ السّيطرة الحزبيّة.

لم يمضِ الأمر كما خُطّط له بحسب أحمد سيف حاشد، فقد تمّ الاعتداء على المنصّة الجديدة وتكسيرها من شباب ينتمون لحزب الإصلاح( ). وبدا الأمر وكأنّه بداية توجُّه غير معلن، لإخضاع السّاحة لقرار مركزيٍّ، يقع على رأسه المنظّمون سياسيًّا من الأحزاب، وبما يضمن السّيطرة على التّحرّك الثّوريّ في السّاحة، وبما قد يفاجئ أحزاب المُشتَرك التي تدير المستوى السّياسيّ للثّورة في مواجهة النّظام، وتستخدم هذه السّاحات بوصفها إحدى أوراق الضّغط والتّفاوض المُهمّة( ).

تعدّدت مستويات الخلافات بين الطّرفين لتشمل من بينها مسألة مُهمّة، هي: "التّصعيد الثّوريّ"؛ حيث افترقا على خلفيّة الموقف منها. وعلى الرّغم من كون الشّباب الحزبيّ، وخصوصًا في تعبيره الأهمّ "اللّجنة التّنظيميّة"، وبعض الائتلافات الشّبابيّة الكبرى؛ كأن تُعلن عن وقوفها مع التّصعيد، إلّا أنّها كانت تُخضع الأمر -وبشكلٍ غيرِ رسميٍّ- لقيودٍ كثيرة، ولا تسمح بسهولة؛ بخروج مظاهرات شبابيّة يتصدّرها مستقلّون نحو مناطق خطرة أمنيًّا. لكنّها قد تسمح بذلك أو تُسهّل له؛ حينما يمكن توظيف الأمر سياسيًّا لصالح أحزاب اللّقاء المُشتَرك، واستخدامه للضّغط على النّظام، وما صاحب ذلك من وقائع دامية، مثل: قتل المحتجّين الشّباب أمام بنك الدّم في صنعاء، أثناء توجُّههم إلى مقرّ رئاسة الوزراء، في مظاهرةٍ قادتها النّاشطة توكّل كرمان، رغمًا عن اللّجنة التّنظيميّة، ومن دون توافق مع القُوى السّياسيّة في السّاحة، أو حتى باتفاق مع التّكوينات المُستَقِلَّة كافّة( ).

هذه الوقائع الدّامية؛ كانت سببًا في تصاعد الانقسامات بين الشّباب، سواءٌ بين المستقلّين والحزبيّين، أو بين المستقلّين أنفسهم؛ الذين لم يُنجزوا تفاهمًا واضحًا حول أهداف وخطوات التّصعيد الثّوريّ، وكيفية التّنفيذ لذلك والحشد لتحقيقه. كما أبدت المجموعات المُستَقِلَّة من الشّباب غضبها من نتائج مسيرات متعدّدةٍ قُتل فيها الكثير من المحتجّين الشّباب، نتيجة لدعوةٍ من اللّجنة التّنظيميّة التي أشرفت على تنظيمها وتحديد مساراتها. ومن المسيرات التي أثارت ردود الفعل؛ تلك التي توجُّهت إلى حيّ ملعب الثّورة.. بجوار مقرّ التّلفزيون الحكوميّ، وسقط فيها عددٌ من القتلى. والأخرى؛ التي توجُّهت إلى حيّ باب القاع.. المُسيطر عليه من أنصار النّظام وقوّاته الأمنيّة؛ حيث أفصحت مجموعات مستقلة عن غضبها تُجاه ما حدث في المسيرات بالقول: إنّها استثمار رخيص لدماء الشّباب، وتوظيفها سياسيًّا من المُشتَرك عبر اللّجنة التّنظيميّة، من دون أن تكون لهذه المسيرات جدوىً فعليّة، ضمن أجندة محدّدة للتّصعيد الثّوريّ( ).

في مستوى آخر للانقسام والتّجاذبات بين القُوى الشّبابيّة المُختَلِفة، أدّى انضمامُ اللّواء علي محسن الأحمر إلى خلق استقطاب واسع على صعيد المواقف بينها، وإلى الخشية من التّشويش على الطّابع السّلمي للثّورة، والتّحوّل نحو عسكرتها والسّيطرة عليها، ولاسيّما أنّ اللّواء الأحمر يُعد أحد أهمّ رموز النّظام السّابق. ومن جانب؛ أدّت مستويات التّنسيق العالية بين أفراد الفرقة الأولى المدرّعة التي يقودها اللّواء الأحمر -والذي أعلن حماية الثّورة والسّاحات- وبين أفراد اللّجان الأمنيّة في ساحة التّغيير في صنعاء، إلى المزيد من الاحتقان. إنّ عضويّة هذه اللّجان تابعةٌ في معظمها لشبابٍ ينتمون لحزب الإصلاح. ونشير في هذا السّياق إلى واقعة الاعتداء على عدد من النّاشطات البارزات.. من بينهن أروى عبده عثمان، وهدى العطّاس، وسارّة جمال، وأُخريات، من جنود يتبعون للفرقة، وأعضاء من اللّجان الأمنيّة، في أثناء إحدى المسيرات، فقط لكونهنّ رفضن الفصل التّقليديّ بين النّساء والرّجال خلال المسيرة. تلك الواقعة ما هي إلّا أنموذج لاستبداد مصغّر؛ ينشأ في السّاحات، ويؤكّد مخاوف بعض التيّارات الشّبابيّة المُستَقِلَّة واللّيبراليّة في الثّورة، من التّحالف المحافظ الذي يريد السّيطرة على الثّورة، ويعبّر عن نفسه من خلال اللّواء الأحمر ومشايخ القبائل والإسلاميّين( ).

لقد أدّت واقعة الاعتداء على النّاشطات، إلى المزيد من الجدل وتسليط الضوء -بشكلٍ أكبر- على مخاوف المستقلّين وجماعة الحُوثِيّ النّاشطة في الثّورة -والتي خاضت مواجهات مع قوّات اللّواء علي محسن، أثناء تولّيه قيادة المعارك في صعدة ضدّهم قبل الثّورة- من تحوّل الفرقة الأولى إلى أداة قهر للثّورة وللقوى المُستَقِلَّة فيها، بالتنسيق مع حزب الإصلاح الإسلاميّ المحافظ، الذي تعدّدت الرّوايات عن علاقته الأيديولوجيّة والتّنظيميّة السّرّيّة والقديمة مع اللّواء علي محسن.

نجح الشّباب المحسوبون على أحزاب اللّقاء المُشتَرك في السّيطرة الكلّيّة على ساحة صنعاء، وبشكل أقلّ في ساحة تَعِز. وأنتج التّصادم في بداية الأمر بين المستقلّين والشّباب الحزبيّين، علاوةً على الصّدام بين المكوّنات الشّبابيّة لأحزاب اللّقاء المُشتَرك ذاتها، حالةَ تسويةٍ في إدارة السّاحة والعمليّة الاحتجاجية في تَعِز؛ تمخّض عنها تمثيلٌ نسبيٌّ لمُختَلِف القُوى، على الرّغم من غلبة القادمين من أحزاب المُشتَرك. وكان الفارق؛ هو انخفاض دور الشّباب المحسوبين على الإصلاح، في السّيطرة على السّاحة. كما أنّ هناك دورًا ملحوظًا وقياديًّا لشباب الحزب الاشتراكيّ والتّنظيم الوحدويّ النّاصريّ( ). ومع ذلك؛ فقد انقسمت السّاحة ضمنيًّا في تَعِز، خصوصًا بعد واقعة اقتحامها من القوات الأمنيّة، وحدوث ما أطلق عليه "محرقة ساحة الحرّيّة"؛ حيث تبلور تيّار سمّى نفسه "شباب الحسم"، بقيادة أحد النّاشطين الاشتراكيّين، واسمه؛ محمد أحمد عبد الرّحمن صبر، والقياديّة الشّبابيّة؛ بُشرى المقطري، عضوةُ اللّجنة المركزيّة في الحزب الاشتراكيّ. تبنى ذلك التّيّارُ خيار التّصعيد بشكل مُفارقٍ لنسق إدارة ساحة الحرّيّة في تَعِز، وتنظيم الاحتجاجات فيها خارج الإرادة السّياسيّة لأحزاب اللّقاء المُشتَرك. وبدا هذا التّيّار وكأنّه في واجهة أعمال تصعيد الاحتجاجات في تَعِز، وتمثّله ذات المجموعة التي تبنّت ونظّمت لاحقًا ما عرف بمسيرة الحياة إلى صنعاء.

عَقِبَ الزّخْم الاحتجاجيّ اللافت الذي شهدته عَدَن في بداية الاحتجاجات، تشكّلت ساحة الحرّيّة في حي كريتر في عَدَن، وشهدت أحياء المعلّا والمنصورة تشكُّلاتٍ احتجاجيةً أخرى ظلّت مستمرّةً ولم تتبلور كساحاتٍ في حينها. كما صعدت إلى السّطح مقدّمات احتقان في ساحة كريتر -موقع الاحتجاج الرّئيسيّ في عَدَن- بين النّاشطين الشّباب المحسوبين على أحزاب اللّقاء المُشتَرك، وخصوصًا الإصلاح الأكثر تنظيمًا وحضورًا، وبين الشّباب المحسوبين على الحَرَاك الجنوبيّ. وظلّ هذا الاحتقان يُنفّس عن نفسه باحتكاكات محدودة، حتى بدأت تتوسّع وتؤدّي إلى انقسام السّاحة في عَدَن بالتّزامن مع تطوّر المسار السّياسيّ للثّورة، وخصوصًا المتعلّق منه بالمبادرة الخليجيّة، وتشكيل المجلس الوطنيّ لقوى الثّورة، الذي شعرت قُوى الحَرَاك أنّه يعيد إنتاج نفس الاستبعاد السّياسيّ للجنوبيّين ولا يأخذ بمطلبهم في التمثيل المتساوي بين الشّمال والجنوب في عضويّته، وهو ما أنتج في الأخير انقسامًا كلّيًّا في الحَرَاك الاحتجاجيّ في عَدَن، التي انقسمت إلى ساحتين: إحداهما محسوبة على الحَرَاك الجنوبيّ في حيّ المنصورة، إضافة إلى تجمّعات متفرّقة في حيّ المعلّا، أغلقت الشّارع الرّئيسيّ فيه، بينما ظلّت ساحة الحرّيّة في حي كريتر محسوبةً على أحزاب اللّقاء المُشتَرك.

عام على الثّورة: مواقف متضاربة
إنّه؛ وبعد مضيّ عام على الثّورة، وعَقِبَ توقيع المبادرة الخليجيّة وبدء المسار التّنفيذيّ للمبادرة، تبلور موقفان لدى الشّباب، تأسّسا على خلفيّتهم السّياسيّة؛ حيث تدفع المكوّنات الثّوريّة المحسوبة على اللّقاء المُشتَرك، إلى التّهدئة بشكل ضمنيّ في مسار الاحتجاجات، وقصرها على وجود السّاحات من دون أيّ نشاط خارجها. هذا؛ على الرّغم من المحافظة على لهجةٍ ثوريّةٍ عالية، ومنح الفرصة للمسار السّياسيّ، وصولًا إلى الانتخابات الرّئاسيّة في 23 فبراير/شباط 2012، مع عدم وضوح موقفهم من المرحلة اللّاحقة لذلك، والاكتفاء بالتأكيد على كون السّاحات ستبقى لحماية الثّورة وهدفها في إنشاء "الدّولة المدنيّة الحديثة" من دون تحديد آفاق زمنيّة لبقاء هذه السّاحات، التي يتغذّى بقاؤها على الدّعم الماديّ المباشر من اللّقاء المُشتَرك. وعلى الرّغم من كون اللّجنة التّنظيميّة المحسوبة كُليًّا على اللّقاء المُشتَرك أعلنت على لسان أحد أعضائها، أنّ موقفها سيتحدّد بعد اعتراف نائب الرّئيس عبد ربّه منصور -المرشّح الرّئاسيّ التّوافقيّ وَفقَ المبادرة الخليجيّة- بالثّورة( ). إلّا أنّ مُكوّنًا شبابيًّا آخر محسوبًا على التّجمّع اليمنيّ للإصلاح، أعلن أنّه يدعم بشكلٍ صريحٍ الانتخاباتِ الرّئاسيّةَ ويدعو للمشاركة فيها( )، من دون أن يحدّد الطرفان ما سيكون عليه موقفهما "الثّوريّ" عَقِبَ هذه الانتخابات.

وفي المقابل؛ تؤكّد المكوّنات الشّبابيّة المُستَقِلَّة، وتلك المحسوبة على مكوّنات سياسيّة أخرى مثل الحُوثِيّين، على رفضها للمسار السّياسيّ الجديد عَقِبَ المبادرة، وبعد مضي عام من الثّورة، وعلى ضرورة عدم التفريط في الثّورة. وحاول بعضها إنشاء تكتّلات جبهويّة جديدة، مثل: "جبهة إنقاذ الثّورة" التي ضمّت ممثّلين لقُوىً مستقلّة ومحسوبين على الحَرَاكيّين والحُوثِيّين( )، باتجاه خلق دَفعةٍ جديدة للثّورة خارج مسار المبادرة الخليجيّة التي أعلنت هذه الجبهة موقفًا حاسمًا منها، وقالت: إنّها ترفض رفضًا قاطعًا التّسوية السّياسيّة المشوّهة والشّبيهة بنظام صالح أكثرَ من انتمائها للثّورة( )، من دون أن تتضمّن رؤيتُها تفصيلًا واضحًا لكيفيّة إدارتها لهذا الرّفض وتطويرها، خارج الدّعوة لاصطفافٍ وطنيٍّ واسعٍ حولَ الثّورة اليمنيّة، وتكوين جبهة ثوريّة وطنيّة لإنقاذ الثّورة، عبر إعادة صياغة التّسوية السّياسيّة، بالانطلاق من أولويّات وطنيّة تتّفق مع مشروع الدّولة المدنيّة الذي يحقّق مطالب اليمنيّين، ويحقّق نقلة نوعيّة في شكل النّظام، ومسؤوليّة السّلطة، ومعايير تقييمها ومحاسبتها، وتحديد آليّات واضحة، لحماية ذلك قانونيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا( ).

يتجلى التباين والانقسام بشكل واضح في المواقف السّياسيّة للمكوّنات الثّوريّة، وخصوصًا بين المحسوبة على اللّقاء المُشتَرك وغير المنتمين إليه، بعد مضي عام على الثّورة؛ ولكنّ المدى الذي سيصل إليه هذا الانقسام مازال غامضًا ومثيرًا لسؤالٍ هو: كيف سينعكس على الثّورة؟ وماذا ستفعل هذه الأطراف لحماية مواقفها والدّفع بها، مع المُضيّ في تنفيذ المبادرة.

موقع الشّباب من الفاعلين السّياسيّين
شكّل اقترابُ الشّباب الثّوريّ اليمنيّ من اللّقاء المُشتَرك -الفاعل السّياسيّ التّقليديّ المعارض لصالح والأقرب لهم- محلَّ شدٍّ وجذبٍ، حسب موقع هذا الفاعل من النّظام وطبيعة إدارته للمسار السّياسيّ الجديد الذي أتى محمولًا على ظهر العمليّة الثّوريّة، وكيفيّة تفاعله مع الثّورة وأحداثها. ولقد شكّلت محطّات مُختَلِفة في مسار الثّورة، نقاط اقتراب وابتعاد بين الطّرفين، حكمتها -أساسًا- طبيعة مقاربة اللّقاء المُشتَرك للحدث. وفي 20 فبراير/شباط 2011، شكّلت دعوةُ أحزاب اللّقاء المُشتَرك لأنصاره للانضمام إلى الشّباب في مظاهرتهم ضدّ النّظام، إيذانًا رسميًّا بدخوله في العمليّة الثّوريّة، والتّماهي مع مطالب الشّباب الدّاعية لإسقاط النّظام. لقد كان قرار اللّقاء المُشتَرك الرّسميّ بدعم حركة الاحتجاج الشّبابيّة، متغيّرًا نوعيًّا وهامًّا في المسيرة الاحتجاجيّة المتصاعدة، مع وجود اختلافات هامّة بين الأحزاب والمحتجّين من مُختَلِف الأوساط، الذين انخرطوا في المظاهرات عبر الشّوارع. وكانت النّقطة الأكثر أهميّةً هي، أنّ اللّقاء المُشتَرك لايزال يترك الباب مفتوحًا للمفاوضات والحوار، في حين أنّ غالبيّة المتظاهرين من الشّباب وأعضاء المجتمع المدنيّ ليسوا كذلك( ).

لقد شكّل إبقاء المُشتَرك باب الحوار مواربًا مع السّلطة، نقطة التّوتّر الأساسيّة التي ألقت بظلّها على العلاقة بين الثُّوَّار الشّباب والمُشتَرك. وظلّت مسارات هذا الحوار وأجندته محلّ هجوم مستمرّ من مُختَلِف المكوّنات الثّوريّة الشّبابيّة على أحزاب المعارضة. لا ريب أنّ المرونة التي أبداها المُشتَرك واستعداده الضمنيّ والمعلن لإجراء حوار مع النّظام، قد شكّلا مصدر خيبةٍ وإحباطٍ للثّوار من الشّباب؛ وظهر ذلك بوضوحٍ في إحدى اللّافتات التي يرفعها المتظاهرون من طلّاب الجامعات إذ تقول: "لا حوار، لا أحزاب"( ).

لم ينشئ الطّرفان آليّةً وسيطةً وواضحةً، يُمكنها أن تُشكّل مفتاحًا لإدارة موقف موحّد إزاء تطوّرات الثّورة والمواقف السّياسيّة؛ وحتى اللّجنة التّنظيميّة -وهي قناة الاتّصال الأكثر وضوحًا بين المُشتَرك والشّباب- لم تخلق تفاعلًا سياسيًّا بين الطّرفين، ولم تستطع أن تدير الفعاليّات الثّوريّة بشكل مُرضٍ للشّباب المتحمّس لفكرة الحسم الثّوريّ بعيدًا عن أيّ حوارات سياسيّة يجريها المُشتَرك مع النّظام. ومن حين لآخر ظلّت اللّجنة التّنظيميّة محلّ هجوم من كثير من القُوى الشّبابيّة التي كانت تنظر إليها بوصفها أداةَ قهرٍ ضمنيّة للثّورة، وعطّلت بالتّالي فرصًا كثيرةً لتطوير العمل الثّوريّ، لكونها تنتمي في الأخير إلى أدوات اللّقاء المُشتَرك، ومقيّدة ضمنيًّا بمخاوفه وأجندته السّياسيّة، حتى ولو أعلنت عكس ذلك( ).

على مستوىً آخر؛ شكّلت العلاقة بين الشّباب والقُوى القبليّة المنضمّة للثّورة، أحدَ المستويات السّياسيّة غير المُعرّفة بشكلٍ واضح، حيث أعلنت القُوى القبليّة أنّها جزء من الثّورة، ولا تستهدف سرقتها من الشّباب( ). كان هذا الإعلان محاولةً لطمأنة الشّباب الذين تشكّلت لديهم هواجس متعدّدة تُجاه أغراض هذه القُوى التي كانت إلى عهد قريب، جزءًا من النّظام؛ وهي بعد انضمامها للثّورة، تمتلك الكثير من أسباب القوّة التي تمكّنها من التّحكّم في مسار الثّورة، وفي المرحلة الجديدة لليمن ما بعد علي صالح؛ ويمكن لها –ببساطة- أن تعيد تجديد نفسها على رأس السّلطة ضمن صيغة جديدة من الشّراكات، تنظّمها وتضمنها المبادرة الخليجيّة. وهي علاوةً على ذلك؛ ذات موقف محافظ، وتخشى من أن يتبلور الاندفاع الثّوريّ على المستويات الاجتماعيّة، بما يُهدّد سلطاتها التّقليديّة التي تمدّها بأسباب الشّرعية والقوّة، كطرف في الحكم، ومستفيد مستمرٍّ من السّلطة.

وإلى جوار العلاقة مع المكوّنات السّياسيّة التّقليديّة، تتمظهر التّعبيرات ذات الطّابع المناطقيّ والطائفيّ التي تستولي على حيّز واسع من شكل إدارة العلاقة بين المكوّنات الاجتماعية اليمنيّة، بسبب اعتداء النّظام على النّسيج الوطنيّ، وتمزيقه له، لضمان البقاء. ولم تتعامل المكوّنات الشّبابية الثّوريّة بشكلٍ مباشر مع هذه التّعبيرات النّشطة في المكوّنات الاجتماعية لليمنيّين، لكونها لم تنجز مواقف واضحة منها. كما استفادت هذه المكوّنات من الرّوح الوطنيّة التي بعثتها الثّورة، لتعمل على إزاحتها جانبًا بشكلٍ مؤقّت من أولويّاتها خلال تفاعلات الحدث الثّوريّ. ويبعث تجاهل الثُّوَّار لهذه التّعقيدات، مؤشّرات مقلقة وغير واضحة عن إمكانيّتهم على التّعامل مع هذه التّعقيدات الاجتماعيّة اليمنيّة التّقليديّة والخطرة، التي سيحكم مستقبل نموّها أو ضعفها وتفاعلها فيما بينها، طبيعة المرحلة السّياسيّة الجديدة، وشكل النّظام القادم على خلفيّة الثّورة، وفي إطار المبادرة الخليجيّة.

المبادرة الخليجيّة واستجابة الثُّوَّار الشّباب
في تاريخ 3 أبريل/نيسان 2011، عرض المجلس الوزاريّ لدول الخليج في دورته الاستثنائيّة الحادية والثّلاثين، مبادرته الرّامية إلى حل الأزمة في اليمن على مستوى السّلطة والمعارضة، فيما عرف لاحقًا ب "المبادرة الخليجيّة". استغرق الأمر أكثر من شهرين، قبل أن تقرّر دول الخليج التّدخّل في اليمن، بعد أن ظلّت تراقب الأمر من بعيد، متمسّكةً بحذرها التّقليديّ من إعلان مواقف سياسيّة تُجاه أيّ أحداث تدور داخل أيّ بلد عربيّ. وفي تاريخ 7 أبريل/نيسان 2011، زار وفد من المعارضة اليمنيّة العاصمةَ السّعوديّة الرّياض، لنقاش موضوع المبادرة مع المجلس الوزاريّ الخليجيّ. وبعد الانتهاء؛ خرجت المعارضة لتعلن تمسّكها بمبادرة الثالث من أبريل/نيسان، الدّاعية إلى "تنحّي" صالح عن الرّئاسة بشكلٍ صريح( ). وكان ذلك أوّل إعلان رسميّ من المعارضة، بقبولها المبادرة الخليجيّة التي ما لبثت أن خضعت للكثير من التّعديلات والتّغييرات، في محاولة من دول الخليج لتفكيك مقاومة صالح الاستجابة لها والتّوقيع عليها.

حرصت أحزاب اللّقاء المُشتَرك في إطار التّفاوض حول تعديلات المبادرة الخليجيّة، على عدم المساس بموضوع الاعتصامات التي يقوم بها الشّباب، خصوصًا وأنّ أحد بنود المبادرة ينصّ على إزالة أسباب التّوتّر سياسيًّا وأمنيًّا، ولاسيّما بعد أن تلقّت تلك الأحزاب تأكيدًا بعدم دخول الاعتصامات الميدانيّة ضمن هذا البند، لتُعلن موافقتها بشكل رسميٍّ( ). لقد كان اللّقاء المُشتَرك يدرك تمامًا أنّ المبادرة الخليجيّة ستشكّل عنصرَ تفجيرٍ في علاقتها مع شباب الثّورة في اليمن، الذين أعلنوا بشكل واضح موقفهم الرّافض لهذا المسار السّياسيّ الذي يعتبرون أنّ الغرض منه تحويل الثّورة الشّعبيّة إلى أزمة سياسيّة، وهو أمر يستحيل عليهم قبوله، بعد أن سقط الشّهداء وكسر النّاس حاجز الخوف. علاوةً على ذلك؛ فإنّهم يدعون دول الخليج إلى التوقّف عن إنقاذ نظام متساقط( ). كلّ ذلك؛ استدعى من المُشتَرك أن يكون حريصًا على توضيح أن موافقته على هذه المبادرة، لا يعني اقترابه من حقّ هؤلاء الشّباب بتَاتًا، في ممارسة الفعل الثّوريّ على طريقتهم، وتجنّبه الدّخول في جدل مباشر.. مع رفض الشّباب الحاسم لهذه المبادرة.

لقد أعلنت معظم التّكوينات الثّوريّة موقفها الرّافض للمبادرة، وإدارة خطابها الإعلاميّ في مواجهة ما اعتبرته محاولةً لتمكين صالح من الإفلات من العقاب؛ واعتبر الشّباب القَبول بالمبادرة خيانةً لدماء الشّهداء. واللافت في الأمر؛ أنّه بينما كانت أحزاب اللّقاء المُشتَرك تمضي في إطار المفاوضات حول المبادرة الخليجيّة وتعديلاتها، كان موقف اللّجنة التّنظيميّة في ساحة التّغيير بصنعاء -والمحسوبة على المُشتَرك- تعلن رفضها القاطع للمبادرة، حيث اعتبروا أنّ المبادرة بشكلها النّهائيّ، أثبتت صحّة موقف الشّباب المعلن سابقًا، والرّافض لأيّ مبادرة لا تنطلق من السّاحات، كونها لن تلبي طموحات شباب الثّورة، ولن تمثّل إرادة الشّعب اليمنيّ، وعلى رأسها تنحّي الرّئيس وأقاربه فورًا، ومحاكمتهم مع كلّ المتورّطين في جرائم قتل أبناء الشّعب( ).

لم يستطع الشّباب الرّافض للمبادرة تصدير موقف متماسك، يجعل اللّقاء المُشتَرك والأطراف الإقليميّة والدّوليّة تعيد النّظر في المبادرة، وتعمل على الضّغط على صالح للتّنحّي خارج أيّ اتفاق سياسيّ، وباستثناء الإعلان المتكرّر عن رفضهم لها، ورفع الشّعارات المعادية لها، فإنّه لم يتبلور في الميدان ما يجبر أيّ طرف على الإصغاء إلى هذا الرّفض، خصوصًا وأنّ هنالك تقديرًا من الأطراف الرّاعية للمبادرة، يرى أنّها الوسيلة الأنسب والأكثر أمانًا، لكي لا تنزلق اليمن إلى أيّ شكل من أشكال العنف الأهلي، خصوصًا بعد انقسام الجيش بين السّلطة والمعارضة، إضافةً إلى معالم تفكّك سلطة الدّولة في العديد من المناطق والمحافظات اليمنيّة، واحتمال انهيار مؤسسات الدّولة، بما سيخلقه ذلك من حالة فوضى مدمرة، ستلحق ضررًا بالغًا بمصالح مُختَلِف الأطراف، فهي قد حرصت على الدّفع بهذه المبادرة حتى الحدّ الأقصى، وبأقلّ قدر من الإصغاء إلى الاعتراضات عليها، سوى من الشّباب أو الجماعات السّياسيّة الأخرى مثل الحُوثِيّين والحَرَاك، الذين أعلنوا رفضهم لها لأسباب متباينة.

مسيرة الحياة، ثورة المؤسّسات: هل هناك موجات في ثورة الشّباب؟
في يوم 20 ديسمبر/كانون أوّل 2011، تحرّكت مسيرة شبابيّة راجلة من تَعِز، جنوب وسط اليمن، إلى صنعاء( )، كانت أعداد المشاركين في بداية الأمر لا تتعدّى الثلاثة آلاف، أثناءَ مغادرتهم المدينة، في ما عُرف بمسيرة الحياة، لتصل لعشرات الآلاف عند دخول مدينة صنعاء، عَقِبَ أربعة أيّام من المسير المستمرّ؛ مرّت خلالها بكلٍّ من مدينة إب ومدينة ذِمار، قاطعةً حوالي 250 كيلومترًا، ليسقط عشرة قتلى من المشاركين فيها عندما هاجمت قوّات الأمن الآلاف من المشاركين في المسيرة بصنعاء، مستخدمةً خراطيم المياه والغاز المسيل للدّموع، قبل أن تفتح النّار عليهم آخر الأمر( )!

أتت هذه المسيرة خارج الإيقاع المعتاد الذي اتّسم بالنّمطيّة في ساحات الثّورة في كلٍّ من صنعاء وتَعِز وبقيّة المحافظات اليمنيّة خلال أكثر من عشرة أشهر، لتشكّل تكتيكًا جديدًا في العمل الثّوريّ الشّبابي، استطاع به أن يعيد الحماسة للثّوّار بعد توقيع المبادرة الخليجيّة من أطراف العمل السّياسيّ اليمنيّ، وبدت المسيرة باعتبارها سلوكًا ثوريًّا جديدًا أعاد الاعتبار لقدرة الشّباب على الخروج بشكل مفاجئ، وخارج التّوافقيّات السّياسيّة التي أبقت السّاحات الثّوريّة في اليمن قيدَ التّجميد، وأشبه بورقة ضغط يستخدمها المُشتَرك للضّغط على النّظام لا أكثر.

لم تعلن مسيرة الحياة أهدافًا واضحةً، ولكن سلّط المتظاهرون الضّوء وبشكل رئيسي، على عدم رضاهم عن جزءٍ من اتّفاق نقل السّلطة، الذي يعطي الرّئيس المنتهية ولايته علي عبد الله صالح الحصانة من المحاكمة. وطالب المتظاهرون بالانتقال فورًا إلى الدّيمقراطيّة، وإلغاء التّسوية مع صالح، ومحاكمة جميع الأشخاص المسؤولين عن العنف ضدّ المتظاهرين المسالمين على مدار العام الماضي( ).

لقد تعدّت دلالة هذه المسيرة المطالب المباشرة الخاصة بإلغاء الحصانة، ورفض مسار التسوية السّياسيّة القائم على أساس المبادرة الخليجيّة، لتصبح -بمستوىً ما- موجةً ثانيةً في الثّورة اليمنيّة، أكّدت على وجود فرصة لاستعادة الشّباب القرارَ الثّوريّ من يد الأحزاب التي كانت تسيطر ضمنًا على الثّورة وتتسلّط على قرارها بشكلٍ غير معلن، ذلك أنّ مسيرة الحياة تكونت في الأصل من الثُّوَّار المستقلّين والحزبيّين المتحرّرين من التّبعيات الحزبيّة العمياء( ).

أثارت المسيرة استقطابًا واسعًا على مستويات عدّة؛ ووصفها السّفير الأمريكيّ بأنّها خارجةٌ عن القانون، وهو الأمر الذي أثار غضب الكثير من الأطراف. كما كان للمسيرة تداعياتٌ في أوساط الثُّوَّار الشّباب عَقِبَ وصولها إلى صنعاء، ومنحت زَخْمًا قويًّا للشَّباب الذين يعارضون مسار التَّسوية السّياسيّة من مُختَلِف التَّوجُّهات. وأدّت من جهةٍ؛ إلى توتر كبير في ساحة التّغيير في صنعاء حيث يسيطر أنصار المُشتَرك، وتصاعد مستوى الاحتقان إلى حدِّ الاشتباكات داخلَ السّاحة من جهةٍ أخرى.. حيث ذكر ناشطون أنّ 20 شخصًا على الأقلّ؛ قد أصيبوا خلال الاشتباكات التي قال ممثّل للحوثيّين عنها: إنّها اندلعت؛ عندما هاجم أنصار حزب الإصلاح خيمةً نُصبت لانتقاد الاتّفاق الذي بموجبه يتنحّى صالح عن السّلطة( ).

عَقِبَ مسيرة الحياة؛ توالى العديد من المسيرات الرّاجلة من المحافظات إلى صنعاء. وكان من أبرز تلك المسيرات: مسيرة الكرامة، القادمة من الحُديدة، والتي مرّت بمحافظتي حِجّة وعِمران وصولًا إلى العاصمة، وانطلقت ضمن ذات الهدف والشّعارات التي رفعت في مسيرة الحياة؛ علاوةً على كونها أتت من خارج السّيطرة الحزبيّة للّقاء المُشتَرك على السّاحات، وبدعمٍ من جماعة الحُوثِيّين المُستبعدة من التّسوية السّياسيّة التي تضمّنتها المبادرة الخليجيّة.

هذا؛ وبشكلٍ متزامنٍ –تقريبًا- مع مسيرة الحياة الرّاجلة، اشتعلت في العاصمة صنعاء وفي العديد من المحافظات، معالمُ انتفاضة مؤسّسيّة طالت القطاعين المدنيّ والعسكريّ في مؤسّسات الدّولة، عُرفت لاحقًا بثورة المؤسّسات، حيث خرج الموظّفون في عددٍ من الإدارات الحكوميّة مطالبين بتغيير قياداتهم، التي كان معظمُها محسوبًا على حزب المؤتمر الشّعبيّ العامّ الحاكم، ضمن اتّهامات متعدّدة لهم، تصدّرها الفسادُ الماليُّ والإداريُّ. كانت أولى الوقائع -في ذلك- انتفاضة موظّفي مصلحة الأحوال المدنيّة ضدّ رئيس المصلحة، ثمّ انتفاضة طلّاب كلّيّة الطّيران والدّفاع الجويّ ضدّ عميد الكلّيّة. لكنّ الواقعة الأخطر والأكثر إثارةً للانتباه، تمثّلت في امتداد تلك الانتفاضات إلى جهاز التّوجيه المعنويّ للقوّات المسلّحة الذي يترأّسه العميد ركن علي الشّاطر، أحد أفراد الدّائرة الضيّقة المحيطة بالرّئيس صالح، وخروج أفراد هذا الجهاز يوم 26/12/2011 في اعتصام، مطالبين بتغيير الشّاطر الذي يتولّى إدارة التّوجيه المعنويّ منذ أكثر من 36 عامًا( ).

تمدّدت ظاهرة ثورة المؤسّسات، لتشمل عددًا من الألوية العسكريّة والمكاتب التّنفيذيّة للوزارات في عدد من المحافظات، شكّل تداعيًا جديدًا من تداعيات الثّورة اليمنيّة، حتى وإن لم يرتبط بشكلٍ عضويٍّ مباشر بتكويناتها الثّوريّة، حيث إنّ قطاعاتٍ جديدةً من المواطنين اليمنيّين -وصفت لفترة طويلة بالفئة الصّامتة- انضمّت إلى الثّورة عبر بوّابات مؤسّساتهم.. بالثّورة على الفساد والمحسوبيّة فيها.

اتهمت قيادات في النّظام أحزاب اللّقاء المُشتَرك بأنّها الطرف الذي يقف خلف ما يحدث في المؤسّسات لتقويض المبادرة الخليجيّة -وباستثناء هذا الاتّهام- فلم يكن هنالك ما يؤكّد ذلك، خصوصًا وأنّ هذه الثّورة طالت بعض القطاعات التي تخضع لسيطرة قُوىً محسوبةٍ على الثّورة؛ كان من ابرزها اللّواء 312 ميكا في محافظة مأرِب( )، والذي انشقّ عن النّظام بعد تداعيات جمعة الكرامة في 18 مارس/آذار، حين انشقّ اللّواء علي محسن الأحمر عن النّظام.

لقد شكّلت مسيرة الحياة وثورة المؤسّسات تعبيرات جديدة للثّورة اليمنيّة خارج أدواتها التّقليديّة، وتحديدًا الاعتصامات والمظاهرات في إطار المدن. وبدت المسيرة وكأنّها محاولة من الثّورة للإفلات من مسار التّسوية السّياسيّة الذي تضمّنته المبادرة الخليجيّة وآليّتها التّنفيذيّة؛ ووقفت خلفها إراداتٌ مُختَلِفةٌ من ثوّارٍ شباب، وقُوىً سياسيّة، ومواطنين استبعدتهم العمليّة السّياسيّة الجديدة. وعلى الرّغم من الزّخْمِ والحماس اللّذين أثارتهما هذه الموجات الجديدة للثّورة، وأنّها أثبتت -في مستوىً ما- إمكانيّة استعادة المبادرة الشّعبيّة من أطراف آخرين لا ينتمون إلى اللّقاء المُشتَرك، إلّا أنّ آثارها مازالت غير واضحة، خصوصًا في قدرتها على إنتاج واقعٍ سياسيٍّ جديدٍ يُعطّل مسار التّسوية الذي أنتجته المبادرة الخليجيّة؛ علاوةً على إعادة الاعتبار للثّوّار والقُوى المُستبعدة التي ترى أنّ نُخب النّظام السّابق أعادت إنتاج نفسها عبر المبادرة.

هل ساهمت الثّورة في بلورة الشّباب كفاعل حقيقيّ؟
شكّلت الثّورة اليمنيّة فرصة نوعيّة واستثنائية لإدخال الشّباب اليمنيّ إلى حقل السّياسة -الذي كانوا مستبعدين منه- إلى جوار القُوى التّقليديّة التي تهيمن عليه، مثل القبائل والأحزاب؛ حيث بدا أنّ أهمّ ما يميّز الثّورة اليمنيّة، هو دخول الشّباب كفاعل جديد في المشهد اليمنيّ، بوصفه قوّةً اجتماعيّةً سياسيّةً فرضتها الأجواء السّياسيّة الجديدة في الوطن العربيّ بعد ثورتيْ تونس ومصر( ). لقد شكل ذلك متغيّرًا جديدًا في أوزان القوّة السّياسيّة؛ لم يتمّ تقدير أبعاده بعد، خصوصًا وأنّ الثّورة اليمنيّة لم تعمل فقط على تجنيد الشّباب في الاحتجاجات.. لكنّها ساعدت في المدى الزّمنيّ الطّويل الذي استغرقته، على بناء تقديرات وخبرة سياسيّة لديهم، فيما يخصّ أوضاع بلادهم، وأداء القُوى المُختَلِفة فيها؛ علاوةً على كون الزّمن الطّويل الذي استغرقته الثّورة اليمنيّة -قياسًا إلى الثّورتين التّونسيّة والمصريّة، سمح بإمكانيّة تنظيم الشّباب لأنفسهم بشكل أوّلي في إطار تنظيمات وائتلافات ثوريّة متعدّدة، تملك الإمكانيّة على تنظيم الاحتجاجات والمظاهرات، ومُختَلِف أشكال الفعل الميدانيّ والتّنظيميّ والحوارات. لكنّ الأهمَّ من ذلك كلّه، هو أنّ الثّورة مكّنت من تشكيل تكتّلات شبابيّة تتجاوز الفاعلين التقليديّين( ).

إن اختبار إمكانية أن يصبح الشّباب اليمنيّ فاعلًا جديدًا -على المستويين الاجتماعيّ والسّياسيّ- مازال أمرًا تقديريًّا، خصوصًا مع الجهود الكبيرة التي بُذلت من القُوى التّقليديّة لاستيعاب تداعيات الثّورة ومحرّكيها من الشّباب القادمين من خارج العمليّة السّياسيّة اليمنيّة كُلِّيًّا التي أدركتها الشّيخوخة، وسيطرت عليها فئاتٌ وقُوىً مُحدّدة لا تزال تعيد إنتاج نفسها منذ الثّورات اليمنيّة في الشّمال والجنوب في عامي 1962 و1963.

لقد شكّلت المبادرة الخليجيّة الوسيلة الأهمّ لامتصاص هذا الفائض الثّوريّ والسّياسيّ الجديد والمندفع، كي لا يربك الصّيغة السّياسيّة اليمنيّة التي تفاجأت به، وبدا أنّها تريد فقط؛ أن يقتصر ضرر هذه الثّورة على رأس النّظام دون أن يهدّد بقيّة الجسد، الذي تُشكّل الأحزاب والقُوى القبليّة ومراكز القُوى من طرفي السّلطة والمعارضة جزءًا منه.

إضافةً إلى ذلك؛ بات الدّور الإقليمي الذي تصدّرته السّعوديّة تحت غطاء المبادرة الخليجيّة( ) يستجيب لذات المخاوف من واقع جديد في اليمن بسبب الثّورة، قد يسبب لها كثيرًا من المشاكل لاحقًا لاسيّما وأنّها تخشى قيام جمهوريّة يمنيّة جديدة، يصعب التّحكم فيها عبر قادة العشائر، كما تخشى أن يمتدّ زَخْمُها إلى الدّاخل السّعوديّ. ولذا تعمل السّعوديّة على ضبط الأوضاع في اليمن، لضمان قدوم نظامٍ مُوالٍ لها، والحيلولة دون حدوث عمليّة تحوّلٍ ديموقراطيٍّ تجهل نتائجها( ).

إنّ إحدى مشكلات الشّباب؛ تتأتّى من عدم وضوح الرّؤية لديهم تُجاه الوضع السّياسيّ الذي نجم عن الثّورة، واقتصار فعاليّتهم الثّوريّة وتنظيماتهم الجديدة على تصدير خطاب سياسيّ مُعادٍ للنّظام والمبادرة الخليجيّة، من دون أن يتطوّر ذلك إلى أداءٍ سياسيٍّ جامع، يأخذ في زَخْمِهِ شرائح ومكوّنات اجتماعيّة متعدّدة كانت مُستعبدةً باستمرار، ويتّسم موقفهم بالتّشوّش تُجاه أطراف العمليّة السّياسيّة، خصوصًا المنضمّ منها للثّورة، والتي كانت جزءًا من النّظام حتى فترة قريبة، وهي تشكّل نموذجًا لمراكز القُوى التّقليديّة التي استفادت من سوء إدارة البلد لفترات طويلة، وتركّزت لديها مصالح واسعة تخشى عليها وتدفعها إلى اتّخاذ مواقف حذرة من أيّ عمليّة تغيير عميقة تمس بها، هذا إضافة إلى عدم قدرة الشّباب على بلورة موقفٍ للتّعامل مع المخاوف الإقليميّة والدّوليّة التي كانت المحرّك للتدخل الأميركيّ والسّعوديّ؛ حيث يتحرّك الأوّل ضمن اعتباراته الأمنيّة، وخشيته من تدهور الأوضاع في البلاد، وتوسّع نفوذ القاعدة؛ بينما يتحرك الثّاني على خلفيّة خشيته من نظام جديد لا يقع ضمن سيطرته، وهو الذي نسج علاقاتٍ ونفوذًا واسعًا مع القُوى المهمّة في اليمن كافّة، والقبليّة منها على وجهٍ أخصّ.

لقد اتّسمت العمليّة السّياسيّة اليمنيّة ما قبل الثّورة بالكهولة والافتقاد للحيويّة، حيث الشّبابُ عادةً خارج أدواتها ومناخها واحتمالاتها، ثمّ إنّ سبب انصراف الشّباب عن العمليّة السّياسيّة الوطنية متعلّقٌ بأسباب متعدّدة، منها: طبيعة التّكوينات الحزبيّة، ونمط التّفاعلات فيها، وبنيتها التّنظيميّة القديمة ذات التراتُبيّة الهرميّة التي لا تحتمل التّغيير، وإغلاق دائرة صنع القرار فيها على دوائر ضيّقة. هذا؛ إضافةً إلى الشكل الكلي للممارسة السّياسيّة في اليمن؛ حيث تبدو مخرجات العمليّة السّياسيّة وأدواتها محسومةً ومحتكرةً لصالح مراكزَ وقُوى ونمطٍ من التّمثيل الاجتماعيّ، يقع في معظمه خارج الأحزاب كليًّا( ).

لقد انسحب هذه المناخ الطارد للشّباب من السياسة في فترة ما قبل الثّورة، على وإمكانياتهم وفرصهم في إنشاء تجربة سياسيّة متماسكة خلال الثّورة، يُمكن أن تشكّل رافعة لهم في العمل الوطنيّ، وتمكّنهم من التّحوّل إلى طرف قويّ في المعادلة السّياسيّة -بعد رحيل صالح- يمتلك شرعيّة الثّورة وامتيازها الوطنيّ والأخلاقيّ الجامع لليمنيّين. كما يخلق ذلك عصبيّة حديثة وجذّابة، تضعف الولاءات والقُوى القبليّة والطّائفية والمناطقيّة التي احتكرت –باستمرار- التّمثيل السّياسيّ؛ وتسلّطت -وهي في الظّلّ- على إدارة اليمن والتّصرف فيه. وعلى الرّغم من أنّ الثّورة ومداها الزّمنيّ الطّويل، إلّا أنّ ذلك شكّل ورشة عمل مكثّفة أعادت إدماج الشّباب في السّياسة بشكل غير مسبوق في التّاريخ اليمنيّ الحديث، لكنّها لم تكن كافية لمراكمة خبرة تنظيميّة موازية تتعدّى الائتلافات وعمليّات التّنسيق للحشد والمظاهرات والاعتصامات، الأمرُ الذي يجعل الفرصة السّياسيّة للشّباب للتّبلور كفاعلين مهمّين ومؤثّرين في المستقبل المنظور لليمن احتمالًا غير محسوم وضعيف على الأرجح.

ما بعد المبادرة.. خيارات ثورة الشّباب
في تاريخ 23 نوفمبر 2011، وقّع الرّئيس علي عبدالله صالح واللّقاء المُشتَرك في العاصمة السّعوديّة الرّياض برعاية العاهل السّعوديّ وبحضور إقليميّ ودوليّ واسع، على المبادرة الخليجيّة وآليّتها التّنفيذيّة، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الثّورة اليمنيّة، تضعها أمام تحدّيات جديدة ونوعيّة؛ يقع على رأسها الانقسام والتّجاذب بين أطراف الثّورة تُجاه المبادرة ذاتها، وما أسّسته من تسوية ومصالحة بين نظام صالح وشركاء الثّورة من أحزاب اللّقاء المُشتَرك. وهكذا اقتسموا السّلطة كحاصل لها من دون المساس بشكل كلّي بالنّظام الذي خرج اليمنيّون في ثورتهم ضدّه، على مدى أكثر من عشرة أشهر؛ واقتصر الأمر على إخراج الرئيس صالح من الموقع الأوّل على رأس النّظام، ضمن سياق زمني متدرّج، وتقليصٍ لإمكانيّة سلطة صالح على التّحكّم بمقدّرات اليمن ومواردها بشكلٍ نسبيٍّ. كما يفترض أن يؤدّي ذلك إلى الحدّ من قدرتها على استخدام أدوات القوّة لقمع الشّعب، في مقابل تأمين خروج مشرّف للرّئيس صالح عبر انتخاباتٍ رئاسيّة مبكّرة، والحصول على ضمانات داخليّة بعدم المساءلة والملاحقة القانونيّة، وبقاء النّخبة الحاكمة والحزب الحاكم كقوة مشاركة في السّلطة( )؛ لتبدو المحصّلة الأوّلى للثّورة أشبه بعمليّة إصلاح مُتحفّظة ومُتدرّجة، تُراعى فيها مصالح الجميع، على الرّغم من تأكيد أطراف المبادرة ورعاتها على أنّهم يسيرون في طريق الاستجابة لثورة الشّباب وأهدافها في التّغيير وإنشاء الدّولة المدنيّة الحديثة.

تُشكِّلُ حقيقةُ كون "اللّقاءِ المُشتَركِ" و" المجلسِ الوطنيِّ" هما طرفي المبادرة الخليجيّة، أحدَ أهمِّ أسباب ضعف خيارات الثّورة في مرحلتها الجديدة، لكونهما جزءً أساسيًّا من قُواها. وبشكلٍ ضمنيٍّ اختُصر التّمثيلُ السّياسيُّ للثّورة عبرهما على امتدادها الزّمني، ولذلك فإنّ أيَّ سيناريو للتّصعيد والتّصادم معهما من مُكوّنات الثّورة الأخرى، سيفضي حتمًا إلى المزيد من إضعاف الثّورة وانقسامها وتفتيتها، بل وإخراجهما بشكلٍ ضمنيٍّ من قوامها؛ وهو الأمر الذي سيجمّد الثّورة في نقطة الانقسام والغضب، من دون التّقدّم خطوةً إلى الأمام، خصوصًا مع المُضيِّ في المرحلة الانتقاليّة التي تستمر لعامين، بشكل يُرسي واقعًا جديدًا تَضعُف الثّورة فيه مع تقدّم الزمن، مع الاكتفاء بالمكاسب النسبيّة ذات الطّابع الإصلاحيّ المُتدرّج للمبادرة الخليجيّة.

وممّا أضعف الرّهان على المبادرة، هو عدم قدرة القُوى الشّبابيّة في الثّورة على المُضيِّ في خيار "الحسم الثّوريّ" على مدى الوقت الذي استُغرق قبل التّوقيع عليها، وأثار ذلك شكًّا عميقًا حول تلك القُوى وإمكانيّتها الفعليّة في أن تقرّر لوحدها المُضيَّ في أيِّ مسارٍ جديدٍ من دون اللّقاء المُشتَركِ. وعلى الرّغم من أنّ الكثير من هذه القُوى يُحمّلُ أحزاب اللّقاء المُشتَرك المسؤوليّة عن تجميد خيار "الحسم الثّوريّ" عبر أنصاره في السّاحات، واستخدامه لأدوات مُختَلِفةٍ في مواجهة العمل التّصعيديّ، إلّا أنّ ذلك كشف بشكل ضمنيّ ضعفًا عميقًا في استقلاليّة السّاحات السّياسيّة والتّنظيميّة، وعدم قدرتها على التّحرّك بشكل منفصل عن المُشتَرك. ويبدو -حتى الآن- أنّ أيّ خيارات تبلوُرٍ سياسيٍّ يريد استكمال مسار الثّورة في مرحلة ما بعد التوقيع على المبادرة، وعلى قاعدة أنّ نتائج هذا الاتّفاق السّياسيّ تشكّل تحايُلًا وانحرافاً عن أهداف الثّورة ومطالبها، مازالت ضعيفةً ومُربكةً من القُوى الأخرى، مثل الشّباب المستقل والحُوثِيّين وغيرهم.

تتوازي أزمة خيارات ثورة الشّباب في التّعامل مع مرحلة ما بعد المبادرة الخليجيّة وعدم قدرتها على إنتاج موقف موحّدٍ من نتائجها ومساراتها، مع ضعف الخيارات لدى الصّيغة السّياسيّة الائتلافيّة الجديدة في فترة ما بعد المبادرة، التي يفترض فيها أن تتعامل مع تعقيدات الوضع اليمنيّ، سواءً ذلك المرتبط بالتّدهور الاقتصاديّ المريع والانهيار الحادّ في ظروف المعيشة في اليمن، وقدرة الدّولة على تقديم الخدمات الأساسيّة مثل الكهرباء والماء والمُشتقّات النّفطيّة؛ أو ذلك المُتّصل بتدهور الأوضاع الأمنيّة والاحتقان العسكريّ المُؤَسّس على الانقسام في مؤسّسة الجيش بين أبناء وأقرباء صالح واللّواء علي محسن الأحمر. وهي تعقيدات تفصح في محصّلتها، عن واقع قاسٍ يعانيه اليمنيّون، وهو واقع يتطلّب معالجاتٍ سريعةً لتخفيف حدّته.. وإلّا فإنّ الشّعب سيفقد الثّقة في "حكومة الوحدة الوطنيّة" برئاسة السّياسيّ محمّد سالم باسندوة، باعتبار أنّ إنجاز ذلك؛ هو ما يُخفّف من كُلفة القَبول بالمبادرة الخليجيّة لدى المواطنين، ويمنحهم الأمل في مستقبل أفضل.

بالطّبع؛ مازالت مسارات الثّورات الأخرى في الرّبيع العربيّ تشكّل حافزًا حماسيًّا للثّوّار في اليمن، ويبدو الخروج المصريّ الثّاني في ميدان التحرير في مواجهة المجلس العسكريّ فعلًا مُلهمًا للثّورة اليمنيّة.. يمنحها الدّافع للاستمرار، على الرّغم من التّجفيف السّياسيّ الذي تتعرّض له بعد التّوقيع على المبادرة. ومازالت إمكانيّة أن ينتج الشّباب مفاجآتهم الثّوريّة بعيدًا عن الأحزاب أمرًا مُحتملًا، بحسبان أنّ هذه الثّورة قامت كُلّيًّا كمفاجأة؛ ليست فقط للنّظام، بل وخارج توقّع المعارضة.

ويمكن أن يشكل استبعاد الشّباب من المسار السّياسيّ الجديد حاضنًا فعليًّا لِتَخَلُّقِ نفس ظروف الثّورة الحاليّة في وقت لاحق، خصوصًا؛ إن أعادت الصّيغة السّياسيّة النّاجمة عن المبادرة بتقاسم النّظام والمُشتَرك للسّلطة، إنتاجَ نفس الشّكل من الاستبعاد الاجتماعي والسّياسيّ للمكوّنات الوطنيّة الأخرى، واقتصر المسار الإصلاحي على الاكتفاء بمزايا التّقاسم بين الطّرفين، وتمّت إدارة البلاد بنفس الأدوات القمعيّة، مع استمرار تدهور الوضع الاقتصاديّ، وتفسُّخ وجود الدّولة وأجهزتها في المحافظات المُختَلِفة، خصوصًا النّائية منها، علاوةً على كون الرّاعي والضّامن الإقليميّ للمبادرة المتمثّل في السّعوديّة، ليس طرفًا حريصًا على أن تتشكّل حالة وطنيّة مستقلّة عن قرارته في اليمن؛ ويُمكنه أن يعطّل أيّ اتّجاه نحو ذلك، عبر الدّور التّحكيميّ الذي تمنحه إيّاه المبادرة، أو من خلال أدوات تَسَلُّطِها التّقليديّة على اليمن، من مراكز قُوىً سياسيّة، وأطراف قبليّة متوزّعة على الطّرفين المُوقِّعَين على المبادرة.

بالطبع يُمكن ان تشكل مقاومة المجموعات الشبابية المستقلة الرافضة للمبادرة الخليجية عنصرا مؤرقا للتوافق السياسي بين القوى السياسية رغم إنخفاض خياراتهم، ويأتي التعقيد من تمسك الكثير منهم بالبقاء في الساحات وإمكانية ان يشكل ذلك عائق في ظل المضي قدما بتنفيذ المبادرة الخليجية والتي ستؤدي في المحصلة إلى طرح خيار تصفية الساحات بسحب الاحزاب للمجموعات المحسوبة عليها ووقف مصادر تمويلها على الرغم من كون ذلك يبقى تحديا حقيقيا حيث يبقى استمرار العملية السياسية في دائرة مغلقة على نفس الاطراف السياسية والادوات التقليدية احد عناصر الغضب الشبابي، كما تتغذي شرعية المواقف التي يعلنها الشباب المستقلين من المبادرة الخليجية على بقاء صالح وافراد عائلته في اليمن يمارسون ادوارا سياسية ووظيفية في المؤسسة العسكرية والامنية حتى بعد انتخاب عبدربه منصور هادي رئيسا توافقيا في المرحلة الانتقالية.

كما يُشكل موقف الشباب المستقل من الحوار الوطني تعقيداً إضافياً، حيث يؤسس موقفهم القطعي من المبادرة الخليجية قاعدة لموقفهم من الحوار الوطني المقرر قي المرحلة الانتقالية بعد انتخاب الرئيس التوافقي وهو الامر الذي سيضعف كليا من قيمة هذه العملية التي يُفترض بها ان تستجيب بشكل كلي للاصوات القادمة من خارج مسار التسوية السياسية وتشكل مفتاحاً عبر ذلك لحل المشكلات الوطنية ومن بينها القضية الجنوبية وتداعيات حروب صعدة شمالاً.

إن غياب الشباب من التسوية السياسية القائمة حاليا في اليمن يتأسس في احدى مستوياته على كونهم قدموا بادوات مختلفه في العمل العام عن ما عهدته الاحزاب السياسية في اليمن، والتي تميل إلى الإبقاء على أدوات عملها التقليدية في ادارة الحياة السياسية، وتخشى من كون أي تغيير جوهري قد يؤدي إلى الإخلال بالتوازنات السياسية والاجتماعية التي تضبط ضمنيا المجال العام في اليمن، وبالتالي فقد قاومت الاحزاب تمثيلا فعليا للشباب يأتي على خلفية ريادتهم للثورة وعملت على ضبط ايقاعهم ومصادرة تأثيرهم على مسار الاحداث عبر إحلال عناصرها في واجهة الحدث الثوري وتمكينهم من السيطرة على الايقاع العام للحركة الثورية بما يكفل لها ان تسيطر عليها من خلف الستار.
إضافة إلى ذلك لم تعمل الاحزاب، التي انضمت إلى الحركة الثورية، على تقديم إلتزام جدي بمنح فرص فعلية لفاعلين جدد في الشأن العام، علاوة على كونها ارتكبت أخطاء متعددة ضربت الفرص الضئيلة المتوفرة إبتداءً بطبيعة تشكيل، والتمثيل، في المجلس الوطني للقوى الثورية الذي استعاد نفس روحية المحاصصة والتوازنات القديمة وهو ما شكل مؤشرا حاداً على الإستبعاد الذي تُمارسه هذه الاحزاب تجاه الفاعلين الجدد ومن بينهم الشباب.

لقد فشل الشباب في فرض خياراتهم على القوى السياسية المحسوبة على الثورة قياساً إلى قدرتهم على فرض خيار التغيير، نسبياً، على السلطة الحاكمة المثور عليها، ويعود ذلك في مستوى ما إلى كون الواقع السياسي اليمني مكشوف بشكل كبير وينشط فيه فاعلين متعددين سواء محليين، إلى جوار الاحزاب، أو اقليميين أو دوليين، وهو ما يجعل من اخر الهموم الاستماع إلى الشباب بوجود كل هذه التعقيدات المتداخله وفق تقديرات الاحزاب التي ترى إنها تتحمل المسؤولية السياسية عن الثورة، لتتقلص بذلك فرص حضور الشباب في مرحلة التسوية السياسية ما بعد المبادرة الخليجية إلى احد اشكال المعارضة السياسية بعد الاندماج الذي احدثته المبادرة بين مكونات سلطة صالح واحزاب اللقاء المشترك في شكل سلطة جديدة حتى وان كانت انتقالية.

لقد ارتطمت الثّورة اليمنيّة الحاليّة بشكلٍ قاسٍ بنظام صالح، وبمراكز القُوى المتعدّدة في المجتمع، وبجوارٍ إقليميٍّ متحفّز وقلقٍ، وبأولويّات أمنيّة دوليّة تنظر فقط لليمن كأحد ساحات الحرب الدّوليّة على الإرهاب، واستطاعت أن تزحزح نسبيًّا هذه الأوزان الثّقيلة التي كانت تغلِقُ الأبواب كُلِّيًّا أمام المستقبل اليمنيّ، واستطاع الشّباب والمكوّنات الوطنيّة التي كانت جزءًا من الثّورة إعادة الاعتبار للمجتمع والفكرة الوطنيّة التي كانت خارج الحسابات، وإضافة متغيّر جديد في القرار السّياسيّ الوطنيّ سيؤخذ بالاعتبار في مرحلة ما بعد صالح، على الرّغم من أنّ مراكز القُوى التّقليديّة التي تعتمد على الرّوابط القبليّة والطّائفية والمناطقيّة وتتمتّع بمزاج محافظ مُناوئ للثّورة ستقاوم إحداث أيّ تغيير كامل، وستعمل بشكل كُلّيٍّ على إعاقة ترسيخ القانون والمؤسّساتيّة في الدّولة وحماية مصالحها التي تمّت إدارتها وتنميتها باستمرار، في المستويات غير من المنظورة والفعّالة من علاقات القوّة والتّحكّم في المجتمع والدّولة اليمنيّة.

الخلاصة
يشكّل مسار التّحدّيات القاسي الذي واجهته الثّورة اليمنيّة، والظّروف التي تعاملت معها خلال أكثر من عشرة أشهر، نموذجًا بالغ الدّلالة حول عبء الاستبداد، وميراث تاريخ طويل من المُمارسات الشّموليّة، والتّدخّلات الخارجيّة التي أفسدت السّياسة في اليمن، وضربت المكوّن الوطنيّ الجامع فيه. ومع ذلك؛ فقد نجحت الثّورة في كسر الشّروط القاسية التي كانت تحول دون انطلاقها، مستفيدةً من المُناخ الإيجابيّ والحماسيّ الّذي ولّده الرّبيع العربيّ في المنطقة، لتتعامل بشكلٍ جيّدٍ مع فرص الحشد والتّعبئة الاجتماعيّة، واستخدام أساليب النّضال المدنيّ في مواجهة الأدوات القمعيّة التي استخدمها النّظام في محاولة إجهاضها، متمسكة بخيار السّلمية كمنطلق وعنوان أساسيّ لصناعة التّغيير الذي تنشده، وضمانة لحماية الحدث الثّوريّ من الانحراف نحو حالة نزاع مسلّحة مع النّظام، خصوصًا وأنّ التّمسّك بقيمة السّلم في مجتمع مسلّح بشدّة مثل اليمن، تُشكّل تحدّيًا حقيقيًّا، علاوةً على المُضيِّ فيه في مواجهة المحاولات المتكرّرة لجرّ الثّورة خارجه.

لقد استطاعت الثّورة اليمنيّة انتزاع الشّرعيّة الشّعبيّة، والمبادرة إلى إحداث حَرَاك وطنيّ واسع على قاعدة التّغيير؛ متقدّمةً بذلك على الأحزاب السّياسيّة التّقليديّة ذات الوزن الكبير في المجتمع اليمنيّ، وأعادت إلى واجهة العمل الوطنيّ مكوّنات اجتماعيّةً وسياسيّةً طالما استُبعدت من الشّراكة والسّياسة، مثل: الشّباب والحَرَاك الجنوبيّ والحُوثِيّين. كذلك أحدثت حالة وحدة وطنيّة جديدة وغير مسبوقة، في بلد قسّمته الحروب الصّغيرة، وأُنهك بسبب تمزُّق هُوِيَّتِه وانفراط لُحمته الأهليّة. إلّا أنّ هذه الوحدة ما زالت تواجه الكثير من التحدّيات الصّعبة بسبب المخاوف والشكوك المتبادلة بين المكوّنات الوطنية المُختَلِفة، والمسار الذي انتهت إليه التّدخّلات الإقليميّة والدّوليّة التي قامت بفرض المبادرة الخليجيّة، وإنتاج مسار تسوية سياسيّةٍ اقتُسمت فيه السّلطة بين "المُشتَرك" والنّظام؛ الأمرُ الذي جعل جزءًا كبيرًا من القُوى السّياسيّة والاجتماعيّة المُختَلِفة التي أشعرتها الثّورة بالشّراكة الوطنيّة في البداية، تستعيد مخاوفها وحذرها لاحقًا، خشيةَ أن تقتصر نتائجُ المبادرة على إعادة إنتاج الصّيغة الحاكمة نفسها - التي مارست تُجاهها الإقصاءَ والاستبعاد سابقًا - وتجديد شرعيّتها عبر الثّورة فقط.

وعلى الرغم من نجاح الثّورة اليمنيّة في الاستمرار والصمود أمام أدوات القمع والإكراه التي لجأ إليها النّظام، فهي ما زالت تواجه مستويات تحدٍّ متعدّدة؛ ليس أقلّها المحافظة على التّماسك الوطنيّ الذي اعتدى النّظام عليه، وتشوّشت بسببه الوحدة الوطنيّة في اليمن، لتتصاعد بشكل غير مسبوق دعوات فكّ الارتباط بين الشّمال والجنوب من بعض مكوّنات الحَرَاك الجنوبيّ بقيادة الزّعيم الجنوبيّ علي سالم البيض. بالإضافة إلى التّعقيدات ذات الطّابع الطّائفيّ لقضية صعدة والحُوثِيّين، وغيرها من القضايا . كما يحضر بشدّة تحدِّي إعادة إشراك المجتمع في السّياسة، وترسيخ أدوار لاعبين جُدد؛ أفرزتهم الثّورة في العمليّة السّياسيّة التي احتكرتها القُوى السّياسيّة التّقليديّة ومراكز القُوى القبليّة وغيرها.. وهي التي ستقاوم –بشدّة- تَشكُّلَ قُوىً سياسيّةٍ حديثة، يُمكنها أن تفكّك سيطرتها على المكوّنات الاجتماعيّة عبر مشروع وطني جديد، وصولًا إلى مقاومة أيّ تهديد لمصالحها التي تريد إعادة إنتاجها على قاعدة التّسوية الجديدة في المبادرة الخليجيّة. كلّ ذلك يتجاور مع تحدِّي أن تتعدّى عمليّة التّغيير في اليمن الأفراد في مؤسّسات الدّولة، لتطال المؤسّسات -ذاتها- وتعمل على مأسستها بشكل فعليّ يُخرجها من سلطة مصالح الفساد ورموزه، ويُرسِّخُ سلطة الدّولة الحديثة بتجلّياتها القانونيّة والمؤسّسيّة في مجتمع تقليديٍّ تهيمن وتنشط فيه مكوّنات قبليّة وطائفيّة ومناطقيّة، علاوةً على بسط سلطة الدّولة ونفوذها بشكل فعليٍّ على كامل الجغرافيا الوطنيّة.

- لحفظ المادة البحثية بنسختها الأصلية متضمنة الهوامش، اضغط هنا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.