لست في صدد تناول الاستخدام الجاري في بلادنا لتعبير «الهوية الوطنية»، بتنويعات شتى، من أجل تغليف كل المشكلات وإخماد كل الأصوات. فهذا الاستخدام، بوصفه أداة مباشرة في يد السلطات القائمة من أجل إرفاق ممارسة القمع بتبرير ما، مبتذل ومكشوف إلى درجة أنه لا يقنع أحداً. بل هي الأزمة التي انفجرت في فرنسا، البلد الذي وصل إلى الديموقراطية عبر واحدة من أكثر الثورات جذرية، فكرياً واجتماعياً. وهو على ذلك موطن حقوق الإنسان، فلسفة وميثاقاً، مما يفترض أنها باتت قيما راسخة. فرنسا تلك أنشأت عام 2007، في زمن ساركوزي، «وزارة الهجرة والاندماج والهوية الوطنية»، هكذا معاً! مما كان بحد ذاته بدعة خطرة، خرجت أصوات عدة وقتها تدينها، وتشير إلى الخلط الخطير الذي تتسبب به، بين مشكلات الهجرة، والغرباء، ومسألة الهوية الوطنية، وهو خلط ينتمي إلى تراث الإيديولوجيات الفاشية. لكن موجة الساركوزية كانت غالبة، يساعدها ضياع عام لأي بوصلة. وقد شغل منصب الوزير بداية السيد بريس اورتوفو، الذي بات موضع تندر مذ قال الصيف الماضي، في أعقاب تقديم أحد مناضلي حزبه إليه، وهو من أصل مغاربي، أن «واحداً لا بأس، ولكن المشكلة تقع حين يصبحون عدة»، ثم نفى قائلاً إن كلامه حُرّف، وإنه كان إنما يشير إلى إحدى المناطق الفرنسية، التي يتحدر منها هو نفسه! والوزارة تلك مشغولة اليوم من قبل السيد إريك بيسون، المكلف بالإشراف على تنظيم «نقاش عام كبير وحقيقي» حول مسألة «الهوية الوطنية»، كما لم ينفك الرئيس يدعو اليه. وهو الذي أدخل، حين كان مرشحاً، التعبير رسمياً في خطاباته. الوزيران مقربان جداً من رئيس الجمهورية، وهما كالعديد من طاقمه، بدآ حياتهما السياسية في صفوف تنظيمات اليمين المتطرف شبه الفاشي. يضاف إليهما نائب بارز من حزب الرئيس، ووزير سابق، تسبب منذ أيام بفضيحة أفدح مما ارتكب زميله، وكانت سبباً في إثارة ذلك النقاش العام، ولكن بصورة انطلقت انطلاقة نقدية، وبقوة، للمفهوم نفسه بداية، ومن ثم للغايات منه. نهر النائب الكاتبة ماري نديان، التي حازت أرفع جائزة أدبية فرنسية، الغونكور، عن روايتها «ثلاث نساء مقتدرات». وماري نديان التي لم تبلغ بعد الأربعين، بدأت النشر ولفتت الأنظار إلى موهبتها منذ كانت في السابعة عشرة من العمر، حيث لم تمر أي من رواياتها أو مسرحياتها مرور الكرام. وتعتبرها المجلات المتخصصة أبرز كتّاب جيلها. وهي، على رغم والدتها الفرنسية الأصل، تحمل في محياها كل ملامح أفريقيتها. فوالدها سنغالي، وروايتها الأخيرة تلك تتناول مصائر ثلاث نساء «مُنقّلات» ما بين أفريقيا وأوروبا، لتتساءل عن مقدرة الإنسان على إيجاد مكان له في هذا العالم، وعن استحالة الانتماء، تماماً وحصرياً، إلى مكان بعينه، إلى أصل، وعائلة. كانت إحدى المجلات الثقافية الشهيرة قابلت الكاتبة، قبل حصولها على الجائزة، وقالت مبلغ فزعها من الأجواء السائدة في فرنسا في ظل ساركوزي، واصفة بأنها «فظيعة». خرج النائب يطالبها بما سماه «واجب التحفظ»، وكأنها موظفة في إحدى الوزارات، وأردف: «لقد منحناها الجائزة»!، فثارت في وجهه عاصفة كان أبطالها الكتاب الفرنسيون من كل الاتجاهات، بدأت بالسؤال عن نون الجماعة تلك، ثم استنبشت تراث كتاب فرنسا، منذ فولتير، مروراً بمالرو الذي التحق بالجمهوريين المقاتلين ضد فرانكو في اسبانيا، وبالمؤرخ فرنان بروديل الذي حذر من «اللعب بالهويات»... مستحضرة قانوناً يقول إن تحديد الهويات مستحيل، وابتساريّ حينما يحدث، ومهيأ دوماً، وعلى كل حال، للتوظيف في جرائم كبرى، تُرتكب باسمه. وقد أشار بعض المفكرين الفرنسيين إلى الوظيفة النابذة للبروتستانت واليهود في محاولات تعيين «الهوية الوطنية» في القرن التاسع عشر، والتي يعاد اعتماد خرائطها ضد المسلمين الفرنسيين أو الأوروبيين اليوم، كما ضد كل المهاجرين، وعلى الأخص الفقراء، الهاربين من اضطهاد أو من جوع. المغني هاميه، من فرقة الراب الفرنسية «لارومور» (الشائعة) قال بشاعرية: «أن تكون فرنسياً هو أن تحيا في فرنسا، ولا شيء آخر. ولا يمكن استنطاق ذلك، وإنما ملاحظته كما يلاحظ الجنائني نمو البرعم. ما ينبغي استنطاقه بالمقابل هو هوية هذه السلطة التي تذهب بنا إلى الحائط، فتطرد أفغاناً تحتل بلادهم، وتفرج عن رجال شرطة تسببوا بموت مراهقيَن، يجرى إنكار سبب موتهما مما يحولهما غير مرئيين». وينهي بأنها «مخجلة هذه الجمهورية التي تدعو أبناء المهاجرين للحياة كشياطين وللموت كملائكة»، على اعتبار أن خاصية غير المرئي تعود للملائكة والشياطين! لا بد من القول إن ذلك القلق، تلك الاستدراكات والاحتياطات، لا تقتصر شرعية التصرف بمقتضاها على التاريخ الغربي وحده، ولا تنطبق عليه فحسب، كما يحلو للبعض قوله في بلادنا. بل ثمة الكثير في هذا النقاش يضيء مفاهيم ومقاربات تصلح لكل الناس وتخصهم. وإلا لأباح توظيف «القومية العربية» كهوية، كل البشاعات التي ارتكبت، وما زالت، باسمها، في الماضي حين كانت صاعدة، وفي الوقت الحالي وهي تعاني من انحطاط. وإن لم نشأ سوى أمثلة قليلة، فلتكن تلك التي تشير إلى عجزها عن اقتراح إطار جامع للتنوع العرقي القائم في منطقتنا، أو تلك التي تحمل سلطات استبدادية (علاوة على كونها «قطرية»)، على الكلام عن «المس بشعور الأمة»، أو ذاك السيل الآخر من الكلام الذي سمعناه مندهشين أثناء منازلة كرة القدم بين مصر والجزائر... ولعل أول الاحتياطات حيال مسألة الهوية/الهويات، ومعها الهوية الوطنية، وتلك العائدة الى تعيين الأمة... هو الاعتراف بتشعبها وتعقيدها. وهو اعتراف يتضمن ما عناه الاعتداد «المضاد» بالهوية (تحويلها من شتيمة إلى عنصر ايجابي)، من قبل جماعات عانت من الاضطهاد ومن التمييز ضدها، كالسود في الولاياتالمتحدة إبان الحركة من أجل المساواة في الحقوق المدنية، أو كالفلسطينيين اليوم، بوجه آلة السحق الإسرائيلية. ولكن هنا أيضاً، فإن التساهل حيال المعايير المزدوجة – من جانبنا هذه المرة – ذو نتائج بشعة، ولا يمكنه أن يبني مقاربة قيمية تصلح لكل الناس، فتصبح عنصرا مكوناً لتراث البشرية.