حلت ذكرى ثورة سبتمبر الخمسون هذا العام في توقيت مميز، تتشكل فيه ملامح صراع جديد بين متشيعين لفكرة الدولة الكاملة ومتحايلين عليها يرون في الإمساك بسلطة الدولة ما يغنيهم عن الالتفات لبقية مبادئها ومسؤولياتها. وحري بهؤلاء الذين يواصلون الجدال في هذا الشأن المفصلي الانتفاع من ذكرى ثورة سبتمبر في أنها تذكير بليغ لهم بأن الدولة هي الوعاء الذي خان سبتمبر ولطخ فكرتها حين سقطت الدولة في أيدي رجال لم يؤمنوا بالثورة حينذاك إلا أنها لحظة استرداد وديعة الحكم. تبعاً لذلك كانت مفاعيل ثورة سبتمبر قد شاخت وشوشت الإخفاقات الوطنية المتعاقبة على نصاعة فكرتها ونبلها إلى حد لم تكن قادرة معه على تحفيز أي من معانيها على التجدد والإقناع. والآن بعد أن بعثت انتفاضة فبراير الشعبية الحياة في ثورة سبتمبر صار بمقدور رجال الدولة والسياسيين وزعماء القوى الاجتماعية عقد مصالحة طوعية بين جموع الشعب وفكرة سبتمبر التي قضت عليها خمسة عقود من التسلط والفساد والأنانيات الشرهة. لإنجاز هذا الأمر ينبغي عدم الاستسلام لمقولة إن التاريخ يكرر نفسه ومقاومة تسليم الدولة لغير المقتنعين بفكرتها من وكلاء الجماعات الفئوية. إن على من أشعلوا انتفاضة فبراير الفذة أن يظلوا متيقظين. أما العبرة الماثلة في عيد سبتمبر الذهبي فأسئلته الكبيرة التي تحاصرنا جميعاً وأثقلها ما ينعكس في عيون الملايين الفقيرة والتلاميذ الذين لم يستطيعوا الالتحاق بالمدارس بعد أن ضاقت بهم مجانية التعليم ومجاميع العطاشى التي تتعارك أمام حنفية للفوز بصفيحة ماء في المدن الحضرية والريف على السواء. وكان من الطبيعي لكل ذلك أن يتبدى «سبتمبر» عجوزاً في عيون الجموع الحالمة التي تبددت أحلامها بفعل عقود أرهقت كاهل الفكرة الثورية وتجنت عليها. لكن الثورة التي نقلت بلاداً من القرن العاشر الميلادي إلى القرن العشرين دفعة واحدة تظل غضة ومتجددة لأنها الثورة الفريدة التي كان عليها طي هذه الحقبة الزمنية الطويلة واللحاق بالعالم.