(1) نواصل هذا الأسبوع مناقشة بعض الدعاوى السياسية التي تمهد الطريق إلى الانفصال أو فك الارتباط.. ومع أن هذه الدعاوى (قد) تصدر عن حسني النية (الذين قيل في الأمثال إن طريق أمثالهم إلى جهنم مرصوفة بحسن النيات!).. وبعضها تصدر عن سوء نيات؛ إلا أنها كلها تفترض في الناس: ضعف الذاكرة.. أو ربما تفترض فيهم غباء مركبا أو تراهن على أن ضيقهم من النظام السابق سيسهم في تمرير الدعاوى المغلوطة وحتى تلك المغرقة في الكذب! من المهم جدا أن يكون هناك نقاش مجتمعي مستفيض؛ خارج نطاق مؤتمر الحوار الوطني؛ يتناول الدعاوى المروجة لحتمية الانفصال وإعادة تشطير الوطن اليمني.. وما لم يحدث هذا الأمر بدون أي موانع أو اشتراطات مسبقة أو إرهاب سياسي؛ فإن ما يحدث الآن لا يعدو أن يكون تكرارا للأزمات السابقة حيث جرت الحوارات تحت تهديد السلاح والحرب.. وفي أحسن الظروف جرت تحت هيمنة طرف سلطوي! لاحظوا – مثلا- كيف أن دعاة الانفصال ومؤيديهم – وأولئك المتفهمين لدوافعهم- يصرون على أن الانفصال خيار سياسي مشروع لا غبار على أصحابه لكنهم في الوقت نفسه يصرخون كالذئاب والوحوش إن عارضهم أحد في تقييم حرب 1994 وتحديد أسبابها والمتسببين بها، وصار مفروضا على اليمنيين كلهم أن يمنحوا عقولهم إجازة لكيلا يتهموا بأنهم أعداء للجنوب والجنوبيين حتى ولو كانوا من أبناء الجنوب، وصار لزاما على الجميع أن يقروا بصوابية موقف فريق علي سالم البيض والقيادات الحزبية والعسكرية التي ساندته في تفجير الأزمة السياسية وتوتير الأوضاع وإيصال البلاد إلى خياري: الانفصال غصبا عنكم.. أو الحرب.. وإن لم يقتنعوا بذلك فهم لا يريدون الحوار الوطني أو يستعدون لحرب جديدة ضد الجنوب والجنوبيين! أي منطق هذا الذي يفرض طرف على خصومه في مشكلة ما أن يقروا أنهم أخطأوا في حقه وعليهم الاعتذار وإلا فلا حوار ولا سلام؟ وكيف سيدخل اليمنيون الحوار الوطني وبعضنا يشترط له شروطا تبشر بفشله مسبقا.. وتتيح لكل من لا يريد نجاح الحوار أن يفبرك مسألة ما لتبرير انسحابه منه والتمترس في الكهوف والخنادق؟
(2) حرب 1994 لم تحدث قبل مئات السنين أو كانت حربا سرية لا يعلم الشعب عنها شيئا (شارك النظامان الشطريان قبل الوحدة في حربين بالوكالة دون إعلان رسمي؛ فالشمال شارك في الحرب العراقية الإيرانية وقدم دعما عسكريا غير مباشر لصدام حسين.. والجنوب شارك في الحرب ضد الثوار الإريتريين وأرسل قوات جوية ومدرعة ومشاة!) حتى ينفرد أناس بتحديد الصواب والخطأ فيها، ومن يجب أن يعتذر ومن عليه أن يلبس مسوح الرهبان والمستضعفين حتى ولو هو الذي قصف المدنيين بصواريخ إسكود وقتلهم وهم نيام! لا تصدقوا الذين يقولون إن الاعتذار سيكون للجنوب وصعدة وليس لحزب أو جهة معينة؛ فحسنو النية من هؤلاء يقولون ذلك لإقناع الانفصاليين بقبول الحوار الوطني وهم واهمون في ذلك؛ لأن المعنيين ليسوا في وادي حل المشاكل أصلا، وهم قد تورطوا في مشروع انفصال جديد ولو كانت نتيجته تفتيت اليمن أو بالأصح الجنوب وشرذمة أبنائه وتحويلهم إلى عصابات تحت قيادة أمراء الانفصال المتوثبين للعودة لحكم ما تيسر من الجنوب ولو كان مديرية أو جزيرة.. والذي يتجاهل ذلك فليحضر نفسه من الآن ليقدم.. اعتذارا مستقبليا لكل الاتجاهات الجغرافية وليس فقط للجنوب! المفارقة المثيرة أن أصحاب فكرة: (اعتذروا بالغصب!) هم أنفسهم الذين أعفوا أنفسهم من الاعتذار عن الحروب التي شنوها ضد بعضهم بعضا في الجنوب، وابتكروا صيغة التصالح والتسامح التي ملخصها: (هنا قتلنا.. هنا حفرنا.. هنا دفنا وعفوا عن كل ما سلف) دون اشتراط اعتذار المخطئ لا للجنوب ولا للجنوبيين! ولو كانوا حريصين على تجاوز الماضي بإغلاق صفحته لعمموا فكرة التصالح والتسامح لكي نصدق بالفعل أنهم دعاة سلام وتصالح وتسامح! ومن المؤسف أن البعض يصر على تزوير أحداث الحرب وتقديمها على أنها حرب ضد الجنوب واستهدفت الجنوبيين.. والغرض الخبيث واضح فهم إن أقروا بأن الحرب كانت صراعا سياسيا على السلطة؛ بعد فشل الصيغة التآمرية للنظام السياسي الذي تأسس بعد الوحدة؛ لما بكى عليهم أحد ولقيل لهم: ذوقوا نتيجة أفعالكم وتربيطاتكم السرية مع صالح.. لكن تصوير الحرب بأنها حرب ضد الجنوب والجنوبيين يسهم في تزييف وعي البسطاء وجرهم ليكونوا وقودا لأزمة جديدة؛ تساعد الطامعين في العودة للسلطة باعتبارها ميراثا لهم كما كان أمثالهم في النظام السابق يعتقدون! حرب 1994 كانت حربا بدون اتجاهات جغرافية، وكون معظم أحداثها جرت في مناطق جنوبية لا يجعلها ضد الجنوب طالما أن الانفصاليين الأوائل تمترسوا في الجنوب وفرضوا هيمنتهم عليه.. وإلا كان يحق لبريطانيا أن تصف ثورة أكتوبر بأنها ضد الجنوب لأن وقائعها جرت فيه، ولحق لمن كانوا يرفضون الثورة من اليمنيين أن يطالبوا باعتذار بحجة تضررهم من تطوراتها، ولحق للإمام البدر وأنصاره من العنصريين والمغفلين أن يزعموا أن الدفاع عن ثورة سبتمبر استهدف المذهب الزيدي والمؤمنين به ولا بد من الاعتذار لهم!
(3) من دعاوى الخطاب الانفصالي المزيف لوعي الناس؛ القول بأن الشمال لم يلتزم باتفاقيات الوحدة مما يبرر كل ما فعله الانفصاليون بدءا من الأزمة السياسية.. وباستثناء فرضية وجود اتفاقيات سرية انتاج نفق جولد مور بين العليين المخلوعين؛ فلا توجد اتفاقية معلنة خاصة بترتيبات ما بعد الوحدة إلا اتفاقية الوحدة التي تم التوقيع عليها علنا ونشرت على الملأ وليس فيها أي شيء خارج نطاق ما تم بالفعل حتى انتخابات 1993.. لكن خداع الناس مستمر بإصرار أن هناك اتفاقيات لم يتم الالتزام بها، وها نحن بانتظار أن يتفضلوا علينا بنشر نص هذه الاتفاقيات موقعة من قيادات الشطرين حتى نقتنع أنهم كانوا على حق! (4) تبرير الدعوة للانفصال له شطحات كثيرة؛ من بينها أن الوحدة الاندماجية فشلت.. وأن الحرب قضت عليها! والحق الذي نؤمن به أن الوحدة لم تفشل بدليل أننا ما نزال نعيش في دولة واحدة، ونحمل جنسية واحدة، ونتجول من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب بحرية، وكل أحزابنا وفي مقدمتها: الحزب الاشتراكي اليمني؛ تضم أعضاء من القمة إلى القاعدة من جميع مناطق اليمن، وتملك فروعا ومقرات في كل المحافظات.. فكيف تكون الوحدة قد انتهت؟ والأسوأ من ذلك أن يصروا على القول إن الحرب أوجدت انفصالا نفسيا ووطنيا واجتماعيا في اليمن.. فكيف تجتمع الهيئات القيادية للأحزاب (المكتب السياسي أو الهيئة العليا أو اللجنة التنفيذية، واللجان المركزية ومجالس الشورى..) وفيها أعضاء من الجنوب والشمال والشرق والغرب، وتخرج ببيانات حنانة طنانة لا فيها شروخ ولا منازعات، وكلها تؤكد على وحدة الصفوف والقلوب؟ وها هو اللقاء المشترك في هيئاته القيادية يجمع اليمنيين من كل المناطق، وكنا نرى قياداته؛ ومنهم بعض أصحاب هذا الرأي؛ في اجتماعاتها ومؤتمراتها الصحفية ومهرجاناتها كتلة واحدة: الشمالي بجانب الجنوبي، كلهم بجوار بعض، فإذا جاء وقت المساء مضغوا القات بجوار بعضهم، ورأيناهم يشاركون معا في وفود إلى الخارج والداخل، وظهروا في أثناء الانتخابات الرئاسية صفا واحدا دون شروخ أو انفصال! وهؤلاء هم السياسيون.. أما العامة فالعلاقة فيما بينهم كما تعودوها: منها الطيب ومنها السيء ليس على أساس جغرافي ولكن على أساس ما بينهم من أواصر ومصالح.. ونظن أن الامتزاج ازداد بعد 1994 ولم ينقص بسببها لأن الحرب جرت بين قوى سياسية وليس بين المواطنين هنا وهناك.. لأن مواطني الجنوب لم يكن لهم مصلحة فيما حدث يومها وتجسد ذلك في ترك الانفصاليين يلاقون مصيرهم دون دعم شعبي. وفي كل الأحوال يجب التفريق بين المحافظة على الوحدة وبين ما حدث من أخطاء وممارسات في سنوات ما بعد الحرب؛ فحتى ثورتي سبتمبر وأكتوبر لو حاكمناهما بما حدث بعدهما لما احتفل كثيرون بذكراهما ولصارت كل منهما مناسبة حداد تنكس فيها الأعلام ويذاع القرآن دون توقف! ما لا ينتبه له كثيرون أن الذي فشل؛ ومنذ اليوم الأول للوحدة؛ هو النظام السياسي أو السلطة السياسية التي تشكلت فور قيام الوحدة؛ لأنها تأسست على خديعة وتآمر بين قيادتي الشطرين فرغوا بها مبادىء الديمقراطية، والنظام التعددي، والتداول السلمي للسلطة، والحريات النقابية والجماهيرية والإعلامية من مضامينها، واحتكروا كل مظاهر القوة المالية والإدارية والعسكرية لأنفسهم ولحزبيهما! هذا هو الذي فشل وأخفق وانهار مع حرب 1994 ثم استكمل سقوطه بثورة التغيير التي أنهت الصيغة السياسية الفاشلة للجمهورية الأولى التي نشأت بعد الوحدة.. والأمل الآن أن ينجح اليمنيون بإذن الله تعالى أن يؤسسوا الجمهورية الثانية خالية من الغش، والخداع، والتزييف، وأن تكون جمهورية حقيقية لا يتوارث الوطن والشعب فيها: لا حزب ولا فرد ولا قبيلة ولا منطقة ولا طائفة ولا سلالة.. ولا يدعي أحد وصاية على أحد! إذن.. فشل نظام الاستحواذ الثنائي على السلطة والثروة.. لكن بقيت وحدة الأرض والإنسان والقوانين، وتحققت للمرة الأولى منذ قرون وحدة السلطة الحاكمة لكن لأنها كانت سلطة مستبدة فاسدة خائنة للأماني الشعبية فقد أسقطها الشعب بثورة التغيير، وصار ممكنا الآن أن تكون الوحدة القائمة مسنودة بسلطة لا ترى في اليمن وشعبه مجرد ميراث وثروة للتقاسم!