اطلعت على التقرير الصحفي الذي أصدرته منظمة سياج عن اللقاء التشاوري والذي عقدته لمناقشة مجريات محاكمة مرتكبي جريمة جمعة الكرامة التي سقط ضحيتها 54 شهيداً ومئات الجرحى من شباب الثورة اليمنية في 18 مارس 2011م، وهو اللقاء الذي حضره بعض أولياء الدم بهيئة الإدعاء الخاص عنهم. وبحسب ما جاء في التقرير فقد أجمع المشاركون في اللقاء على تأكيدهم أنه في حال أثبت القضاء اليمني أنه غير جدير بتحقيق هذه العدالة، فسيتم اللجوء إلى آلية الإنصاف الدولي. والحقيقة أن ما يؤسفني في هذا أن من حضر هذا اللقاء كان لفيف من أهل القانون وأساتذته، حيث كان يجب أن تخرج مقررات قانونية خالصة بحجم القضية، لا أن يخرج ذلك البيان بتلك الصورة المهينة للقانون وللمشتغلين فيه وللقضية وضحاياها.. بتصويرهم للقضاء الدولي كأنه مطية سهلة يقع في شقة بالشارع المقابل للمحكمة الابتدائية التي تنظر القضية في صنعاء يمكن الدخول إليها بسهولة متى ما أراد أهل الضحايا وذووهم. إن مايجب أن يدركه الجميع وفي مقدمتهم أولياء دم من ذهب ضحية هذه الجريمة البشعة أن لجوؤهم إلى القضاء الوطني سيلغي تماماً فرضية اللجوء مستقبلاً للقضاء الدولي ممثلاً بالمحكمة الجنائية الدولية، فعلى اعتبار أن اليمن تخوض سياسياً مرحلة انتقالية بدعم ورعاية دولية فهذا يعني أن النظام الفائت والمتهم عناصره بارتكاب مجزرة الجمعة الدامية لم يعد ممسكاً بمفاصل الدولة، ولم يعد يمتلك القرار والقدرة على التأثير على القضاء، بل وإن عودة أهالي ضحايا هذه الجريمة إلى القضاء الوطني وقبولهم الترافع أمام محاكمة بعد فترة من المقاطعة كل هذا يلغي فرضية الدفع مستقبلاً بأن القضاء الوطني قد تأثر بسلطة الدولة أو الجناة أو ماشابه، مما يضفي على هذه المحاكمة صفة المشروعية بإطلاقها العريض، ويسبغ عليها الشروط الإجرائية المتعارف عليها دولياً ولو في حدها الأدنى مما يضعف تماماً الدفع مستقبلاً بصورية المحاكمة واجراءاتها. وهذا من الناحية القانونية الإجرائية يعني بوضوح عدم مقدرة أهالي الضحايا على إثارة قضيتهم مجدداً دولياً أمام المحكمة الجنائية الدولية تأسيساً على أصول ومبادئ المادة (17) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والمتعلق بعدم قبول المحكمة لنظر قضية ما، إذ لا تقبل المحكمة الجنائية الدولية التحقيق بقضية تم نظرها أو تُنظر في محكمة أخرى غير المحكمة الجنائية. فأي لجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية بعد القبول بالقضاء الوطني وفق التفصيلات السابقة يُعد شطحاً من الخيال وفق العرف القانوني الدولي والمدعوم أخيراً بالنصوص القاطعة التي تسبغ على هذا العرف حكماً قانونياً يتوجب احترامه. ثم وعلى افتراض أن يتم اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية بعد صدور الحكم من المحكمة الوطنية التي نظرت القضية فإن هذا سيصطدم بحاجز قانوني أقوى من الحاجز السابق حيث ينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في المادة (20) على انه لا تجوز محاكمة أي شخص أمام المحكمة عن سلوك كان يمثل جريمة سبق لمحكمة أخرى ان إدانته أو براءته منها باستثناء ما إذا كانت هذه المحاكمة قد اتخذت لغرض حماية الجناة من المسؤولية الجنائية أو أجريت محاكمتهم بصورة لا تتسم بالاستقلال والنزاهة، وسيبدو التمسك بكلى الاستثنائيين وهماً ليس إلا، إذ أن الوضع السياسي الحالي الذي ترعاه الأممالمتحدة باليمن يعدم فرضية قدرة أطراف المحاكمة المتهمون على التدخل والتأثير في نزاهة القضاء الوطني واستقلاله كون النظام الفائت الذي كان يمثله الجناة قد انتهى، وانفرط عقده، مما يعني أن المحاكمة تمت وفق العرف الدولي وحتى وإن كانت الأحكام الصادرة من هذه المحاكمة أحكاماً غير منصفة فإن هذا سيفسر حينها في أسواء الأحوال بإنه عائد لتضارب في الاجتهادات فقط. وهذا بتفاصيله يؤكد أن الموضوع ليس بالصورة السهلة التي صورها محامو أهالي الضحايا للرأي العام من أنه إذا لم يحكم لنا القضاء الوطني سنلجأ للقضاء الدولي.. فالأمر أخطر وأدق من هذه الرؤية المسطحة للقضاء الجنائي الدولي.. وعلى هذا يكون أولياء الدم أمام مفترق طرق يقع داخل زاوية حرجة إما اختيار القضاء الوطني ومواصلة مرافعات المحاكمة التي تمت آنفاً أو اتفاقهم جميعاً على اللجوء للقضاء الدولي باعتباره يمتلك ضمانات أكبر لتحقيق العدالة المرجوة التي يعجز القضاء الوطني عن تحقيقها.. ويقتضي هذا التوقف فوراً عن حضور جلسات المحاكمة التي تنظرها المحكمة الوطنية حالياً، كما سيحتاج هذا إلى دعم سياسي من جهات داخلية ودولية، وكذا مجموعة كبيرة من المستشارين القانونيين بمستوى خبراء، وفوق هذا تكاليف مادية باهظة بادئ الأمر. وكل هذا يتعذر حالياً أو على في المستقبل المنظور توفيره. إن التهجير الجماعي والإخفاء القسري وفوق ذلك القتل بالشكل الذي تم في حادثة جمعة الكرامة يجعل من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية أمراً مقطوعاً فيه كون هذه الجرائم كلها تدخل ضمن تصنيف جرائم ضد الإنسانية، التي تختص بها المحكمة الجنائية الدولية إلا أن عودة أهالي ضحايا جريمة جمعة الكرامة إلى المحكمة الوطنية التي تنظر قضيتهم رغم مقاطعتها خلال الجلسات السابقة وقبولهم بالقضاء الوطني لملاحقة المجرمين قد باعد عملياً بين أهالي الضحايا وبين فرضية اختيارهم اللجوء إلى العدالة الدولية تأسيساً على الناحية الإجرائية التي تحكم هذه العدالة بالشكل الموضح آنفاً. لا يمكن لأي قانوني يحترم المهنة ويقدّس العدالة أن يسطّح قضية اللجوء للعدالة الدولية إلى مستوى مخاطبة القضاء المحلي وتخييره بين أن يحكم بما يريده هو حتى وإن كانت مطالبه عادلة أو أن يلجئ للقضاء الدولي لانتزاع هذه المطالب كما فعل موكلو ضحايا جمعة الكرامة، فالقضاء الدولي لم يكن أداة للي ذراع القضاء الوطني ولا يجب أن يعتد به على أنه كذلك. بتصوري إن حضور أهالي ضحايا جريمة جمعة الكرامة مرافعات المحاكمة والترافع فيها يعد اختياراً وقبولاً من هؤلاء بالقضاء الوطني وإقراراً بكل ما يحتمل أن ينصرف من هذا القضاء من أحكام ومقررات فيما بعد، وهو التصرف الأقرب للواقع حالياً وأضحى التراجع عنه مجازفة قانونية ستنتهي بنتائج كارثية، لذلك يتحتم مهنياً وأخلاقياً على موكلي هؤلاء عدم دغدغة مشاعر موكليهم بالعدالة الدولية أو ما شابه بعدئذ، فالواجب المهني يفرض ليهم عرض هذه الحقيقة على موكليهم ومكاشفتهم بها بكل وضوح ومصداقية.. هذا ما وجب مخاطبة الرأي العام به عموماً، وأهالي ضحايا جمعة الكرامة بالخصوص، والذي علينا لهم حقاً كبيراً على اعتبار أن تضحية أبنائهم ممن قضوا أو جرحوا في هذا اليوم هم من كان لهم القدح المعلى في نجاح ثورة التغيير السلمية وفتح أمل جديد لشباب هذه الأمة لأفاق مستقبل زاهر أمام الوطن المكلود رحمهم الله جميعاً، فلزم علينا تأييدهم بكل أشكال العون والتأييد هذا والله المستعان..