قبل عامين كنت أنا لا ليس أنا، كنت ذاك الكائن الذي تم «حيونته»، لا أعرف الوطن ولا التغني بالحرية وعشق البلد، كسّرت كل كاست أغاني ايوب الوطنية، كان يغني اهتفوا للشعب فأردد بعده، يلعن ام الشعب يا غبي، ويستمر، هذه يومي تسير في ضحاها، فأحس أن صوته كما لو كان يأخذني معه للمقبرة.. كنت قد جمعت فلوس بعد أن سرقت واتبهذلت كي أتخلص من تلفوني القديم الذي لا يقبل اصوات الفن، إلا من صوت صاحب البوفية «يا مسوري قدها عندك اربعة ألف حرام طلاق اني شاسرح اندي لك عسكري من القسم.».. توفقت بشراء تلفون يغني ويدندن، ذهبت إلى الدائري فرحاً كي أدخل اغاني واناشيد أبعد الطفش والضيق، كانت اول أغنية للفنان المرشدي الذي غادرنا قبل ايام «نشوان لا تخدعك خساسة الحناش» و«لا تغرد إذا ماتت غسون البال، الموت يا أبن التعاسة يخلق الشجعان» وجدت طريقة إذن لاى الشجاعة التي طالما كان أبي المتمرد عن الحياة يدفعني الى أن أكون شجاعاً، الطريقة الموت إذن، سأموت، لا لا، كيف ستموت؟..
جاء الرد عبر قناة الجزيرة بصوت ليلى الشيخلي حيث ما زلت أطرب لتلك العبارة «هروب الرئيس التونسي ابن علي على متن طائرة..» انتظرت بشغف قدوم الصباح، استيقظت وكالعادة توجهت نحو جامعة صنعاء، ولكن ليس ككل مرة لمقابلة الدكتور أحمد الكبسي أسمع منه منجزات القائد والمشير والرمز علي عبدالله صالح، كانت اول خطوات البحث عن الحرية، بدأنا مجموعة من طلاب الجامعة ومعنا عدد من الحقوقيين والناشطين بعمل احتجاجات تطالب بالحرية والعيش الكريم، استمرت مظاهراتنا الاحتجاجية حتى بدايات فبراير.
قناة الجزيرة مرة أخرى، ولكن هذه المرة في مصر أم الدنيا، حيث وقف عمر سليمان عابس الفم يكتظ وجهه بالشّحب، «قرر الرئيس محمد حسني مبارك» ذهبت مسرعاً صوب بوابة الحرية حيث جامعة صنعاء، وجدتها فارغة إلا من طفش محمد المقبلي الذي كان يتلفت هو الآخر، متى سيهتف الشباب لمصر وبالعقبى لليمن؟..
صعدنا معاً في سيارة هيلوكس كانت تقف امام بوفية الجامعة، هتفنا لمصر، فجأة بدأت الحشود تتوافد، صرخ احد شباب ماوية تعز، مو جالسين تسووا بالباب حق أبّبوفيه يا جن؟، أصحاب البلاد قد نزلوا بالالاف ويهتفوا الان ضد علي عبدالله، وانا فدى لك واتعز حبيبتي، شترك ام الدراسة وانزل الصباح، كل الشباب قالوا «سيعتصموا حتى يسقط النظام»، كانت العفوية فقط مسيطرة علينا، فجأة سمعنا اصوات مرتفعة تهتف لمصر ولإشعال ثورة في اليمن، اقتربت الاصوات منا، وإذا بطلاب جامعة الايمان يملئهم حماس شديد يهتفون لإسقاط صالح.. هكذا كانت أول لحظات رحلة البحث عن الانسان اليمني!
يااااه ما أجملها من لحظات مرت، عامين على أول رعشة عزة وكرامة وحرية، ما زلت أذكر صاحب العمارة وهو يعبر عن خوفه من وجود ورق مرمية بجانب البيت كنت أكتب عليها شعارات الثورة، لحظات عشق حقيقة تلك التي خطيت فيها كلمة حرية لأول مرة في حياتي، كتبتها فكنا جسدي يترجم العبارة بمزيد من الخفة ولم تقصر عيني هي الاخرى وجرت دموعي حتى تبلل شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» بعد أن خطيته في ورقة عادية..
لحظات كانت ايقونة حياتي، وكأني كنت طوال 33 سنة في انتظار هذه اللحظة الجميلة، لحظة انتزاع صورة رمز الاستبداد الذي كانت تزاحمني في الكتب والمجلات والصحف والشوارع حتى في أغلفة السندويتش، كنت أستحضر كل سنيين القهر وتكميم الأفواه وحبس الأنفس والإهدار والبطالة والوجع، وأزداد تماسك وقوة لدرجة أني كنت أحس برغبة شديدة في مواجهة خمسة ألوية من الحرس الجمهوري سابقاً..
قبل عامين كان صوتي لأول مرة يلامس روح الحرية وسموات الانسانية والعزة وعشق تراب البلد، كانت رحلة بحث عن أنفسنا بامتياز، جاءت هذه اللحظات لتجيب عن سؤال طالما شغل تفكير، من أنت؟ مازلت أبحث عني، وقطعت مزيداً من الاجابة عن هذا التساؤل، لكن إدمان الحب والحرية والعزة واستحضار مآسي القهر، كل ذلك كفيل بإكمال الإجابة.
بدأنا في البحث عن قيمنا الانسانية، كان ظلم العائلة الحاكمة والقهر التي مارستهما ضد الشعب بمثابة مرآة ننظر من خلالها على أنفسنا، لنكتشف أن وحوشاً كان يتدثر بجسد بني البشر يمتلك قرارنا، فبدأنا نحدد منطلقاتنا ومعطياتنا من جديد، وبات كل شيئ يدور حولنا محكوم بوقع الثورة وعقلانية تفكير حاملها السياسي صوب تحقيق فكرتها..
مع هذه الثورة بدأنا نعيد النظر في ما يتعلق بمفاهيم الوطن والعدالة والمواطنة والحرية وبناء الدولة والحب، دشنا بها مرحلة ترميم أنقاض الحياة، وبدأ شباب بعمر الورد يتساقطون، اختلطت دماء طلبة الجامعات والاتحادات والنقابات والاطباء والعسكر وابناء القبائل، وشكلت إرادة شعبية فولاذية لا يمكن لها أن تنقرض..
كانت بداية تستحق أن يكون السرد المثالي لتفاصيلها، واقع لا يمكن قولبته في مفاهيم المجاز والطوباوية.. شجاعة شُبان وشابات يواجهون رصاص الموت بصدور فارغة إلا من قلب يحمل الحب لوطن قادم يحتضننا، يهتفون: سلمية، سلمية، ترافقهم أنغام الثورة: كبرنا على صمتنا فانتفضنا، على الصمت والخوف والانكسار، نفضنا غبار القنوط وعدنا يمانين في الصبر والانتصار.. فكلما كان يشرع البلاطجة في قتل الشباب، يرتفع صوت أيوب طارش: وهبناكِ الدم الغالي، وهل يغلى عليك دم.. كانت الاغاني الحماسية والوطنية تلف معنا شوارع المدن وأرصفتها، أتذكر رقص الشاب يعقوب في جولة عصر مع الموت، كنا نطرب لسماع الموسيقى وصوت عبد الرقيب عباد معاً..
أحس بظلم كبير نمارسه بحق هذه الثورة وتفاصيلها، لا أدب يعكس جمالها، ولا فن يمنهج الحياة طرباً لها!، ثورتنا ثروة عملاقة تستحق الاهتمام، عدونا حالياً من لوك السياسة ومعمعة السلالة، نعيش لحظات مع إبداعات الثورة، فيديوهات كانت تسخر من عمهم عبدوه الجندي، وتهزأ من هبل كبير العائلة، وتبرهن أن خفة دم اليمنيين وفكاهتهم كانتا من أهم أدوات المقاومة السلمية ضد بشاعة النظام، ثورة أبهرت الخارج قبل الداخل، وبات رجال الفكر والسياسية في الغرب يعبرون عن اندهاشهم من شجاعة شبان اليمن، واكتشفنا..
بعد عقود من كرهيتنا لوطن حاضر وتعطشنا لوطن غائب، قرر اليمانيون التصالح مع أنفسهم، واعلنا من جديد انتماءنا لليمن، وصرنا لأول مرة نحس بأننا ننتمي لهذا الوطن واصبح مصدر اعتزاز بعد أن كان الصمت هو الحيلة الوحيدة للهروب من سؤال، أنت يمني ؟..
تقدمت ثورتنا صوب مزيدا من الانتصارات، وبدأ نظام العائلة يشعر بالخطر الحقيقي، ارتفعت حناجرنا بهتافات الثورة، فازدات وحشية النظام القاتل، وتنامت عمليات القتل والتكيل بأجساد الشباب، وبدأ الدم يملأ الارصفة تتناقله شاشات التلفزة، التصق دم الشاب ببنطلون الطفل الذي سقط اباه شهيدا هو الاخر، وسكن دم دكتوري محمد الظاهري في مخيلتي بعد أن التصق بثيابي.. طلاب وأطباء وعساكر وابناء قبائل وعمال غادروا الحياة في عمليات قتل وحشية..غادرونا بعد أن هدوا جدار الخوف ومعهم غادر الخوف والذل، واصبحنا لا نملك سوى الاستمرار والاستمرار فقط..
عامان مضيا، عشنا فيهما حياة بكل جمالها وعشقها وجنونها وعاطفتها وعقلانيتها وتناقضاتها، وتعلمنا منها أبجدية الانسان والتعايش والحياة والحرية والوطن والموت والوجع والجنون والعقلانية.