كنا ونحن صغار نستمع إلى الأغاني الشعبية الملالي من النساء كبيرات السن ومن يرافقهن في الحقول عند بذر البذور أو في موسم الحصاد كأغنية "عدن عدن يا ليت عدن مسير يوم" للمرحوم أحمد قاسم أو "يا نجم يا سامر فوق المصلى" للمرحوم المرشدي، أو "قل لبن حسان ذي باع المواثيق والعهود". وعندما كبرنا وترعرعنا، وهكذا هو الحال لأبناء منطقة الحجرية عندما يصل سن الواحد إلى اثني عشر عاماً لابد له أن يعصب أمتعته ويذهب إلى عدن باعتبار أن عدن تعتبر لدى الكثيرين منهم أمنية، وبالتالي أسوة بمن سبقهم من الآباء والأجداد. وبمعنى آخر سينقل المرء من القرون الوسطى إلى المدنية والعلم والثقافة وسيضع على معصمه ساعة الأوميجا والرولكس التي كان ثمن الواحدة منها يساوي اليوم قيمة حبة دجاج، ويلبس القميص أو الشميز الدبل كاف الإنجليزي والبدلة (السبوت) الشهيرة والحذاء أو الجزمة الباتا. المهم عندما يصبح المرء في قلب عدن ويعرف عدن، إذا به يستمع إلى تلك الأغاني والملالي- التي كان يسمعها من أفواه النسوان- إذا به يسمعها في الأسطوانات وقد تطورت شعراً ولحناً وأداءً، وهذا يعود للشاعر الدكتور سعيد الشيباني الذي عبر تعبيراً فنياً عن مشاعر الحب والبعد والفراق الطويل للأحباب الذين يتركون قراهم ويسافرون إلى عدن.
أما أغنية "قل لابن حسان ذي باع المواثيق والعهود، وسلم القلعة أمير الجيش يمليها زيود" أو جنود، فقد كانت هذه الأغنية تعبر عن سخط الأهالي على موقف بن حسان مع الإمام وهي تعتبر أغنية سياسية أكثر من الملالي وهذا ما جاء في كتاب الشاعر المرحوم عبد الله البردوني "اليمن الجمهوري" وانتفاضة المقاطرة وكيف كانت الحجرية مقبرة للجيش التركي بقيادة المشير عاصم الشهر أيام الاحتلال التركي، أما السلطات الإمامية في عام 1922 يحن حشدت أشد القوى لإخماد الانتفاضة، حتى استطاعت أن تحتل قلعة المقاطرة عام 1944 بعد خيانة بن حسان جبل حبشي بحيث خدع أبناء المنطقة باسم الدين ودعوته للتصوف، ولهذا ظل الأهالي إلى وقت قريب يرددون هذه الأغنية.
وقد كان السفر إلى عدن بدون هوية طوال تواجد الإنجليز فيها، وقد سهل الإنجليز سفر اليمنيين إلى أنحاء العالم بواسطة البواخر السياحية العملاقة خاصة إلى بريطانيا في ثلاثينيات القرن المنصرم، وقد كونوا أول وأكبر جالية عربية في بريطانيا وشيّد أول مسجد زعيم الأحرار اليمنيين عبد الله الحكيمي.
أما تسهيل الإنجليز لسفر اليمنيين إلى بريطانيا فهذا يعود للحاجة الى العمالة اليمنية في بريطانيا بعد أن شاهدهم الانجليز في موانئ عدن يصولون ويجولون، ويتحلون بالنشاط والدقة في المواعيد على البواخر القادمة والمغادرة عند الذهاب والإياب.
ولو حاولنا دراسة عدن دراسة دقيقة منذ عشرينيات القرن الماضي وما قبله؛ فالذين عاشوا وترعرعوا فيها هم وحدهم الذين يعرفون طيبة أهل عدن وثقافة ومدنية أهلها. عدن التي غمرت بحفاوتها نصف أبناء الشمال خاصة أبناء الحجرية، عدن التي ثقفتنا، وعلمتنا، وأهّلتنا. إن الروابط ووشائج القربى والمحبة التي تربطنا بأهل عدن لا يمكن أن تنمحي أو تنسى، لقد كانوا يطلقون على أبناء الحجرية "جبالية" بحكم أنهم قادمون من المناطق الجبلية ويطلقون على أبناء المحميات التابعين للقوات البريطانية "البدو" و"ياويلك من البدوي لو تمدن".
ولو نظرنا إلى عدن من الناحية الاقتصادية والتجارية والجغرافية، فعدن تعتبر قلب اليمن في الماضي والحاضر، حيث كان لا يوجد ميناء في الشمال لاستقبال البواخر التجارية وكانت عدن تزود الشمال والجنوب بالبضاعة، حتى أن ناقلات البضاعة في المنافذ البرية كانت لا تتوقف ليلاً ونهاراً، إضافة الى ان عدن كانت تحتضن أكثر من مليوني شمالي يعملون فيها ولا يوجد لهم منافس آنذاك في التجارة والصناعة وسيارات الأجرة والتدريس وفي الشركات البريطانية وقطر البواخر والفندقة.
وكان التعداد السكاني لعام 1955 بإشراف الإنجليز يثبت ما قلناه، وكان سكان أبناء محافظة عدن اثني عشر ألف نسمة فقط وأبناء المحميات ستمائة ألف نسمة، والصوماليون عشرة ألف تقريباً والهندوس واليهود والبينيان والهنود والبهرة وغيرهم خمسة عشر ألف نسمة، وكان يوجد في عدن خمسون جمعية ونادٍ لأبناء المناطق الشمالية، أي كل قبيلة لها جمعية ونادٍ، في التواهي نفسها كان يوجد عشر: جمعية أهالي ذبحان وشرجب وبني غازي والأغبري والمقاطرة.. إلخ.
وقد ساهمت هذه الجمعيات بالدعم السخي بعد قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر وكانت المساعدات تصل إلى صنعاء شهرياً، وسهلت أيضاً سفر الآلاف من الشباب للدفاع عن الثورة وانخراطهم في الحرس الوطني، أما ثورة أكتوبر فقد كان القتال على الأرض في شوارع عدن بحكم كثافة تواجدهم في مختلف الأعمال في الشركات والمؤسسات.
وكانت حياة الناس تتسم بالمحبة والود والتقارب ولا يستطيع أحد نكران هذه الصفات التي جعلت الوحدة الوطنية بين الشمال والجنوب منذ زمن بعيد عكس ما نسمعه اليوم من عبارات يقشعر لها البدن وتدمى لها القلوب، وتجمعنا كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإضافة إلى اللغة والدين تجمعنا الجغرافيا، وتوحدنا من عهود الجاهلية الأولى، فإلى الذين لم يقرأوا التاريخ أقول لهم انظروا إلى هذا البيت من الشعر الجاهلي لعبد يغوث بن وقاص الحارثي، يخاطب الملك اليمني كرب آل وتر: أبا كرب والأيهمين كليهما.. وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا
ويقول تاريخ اليمن القديم أيضاً إن المعافر كانت من لحجوأبين والدثينات والحجرية حتى إب قضاء الشيباني وإلى الطرف الجنوي الغربي إلى شواطئ البحر الأحمر وهذه الأبيات تثبت ذلك: طبقت بالسّيول أبين حتى ... لحجها وهي السماء سواء تلكم أحور وتلك الدّثينا ... ت مع السرو جنّة خضراء ولذبحان فالمعافر فالسا ... حل من غورها ضباب عماء هذه الأبيات تثبت منذ كرب آل وتر والمعافر يعفر بن حسين قبل نهاية القرن الثالث الميلادي منذ عهد شمر بهر ملك سبأ وذي ريدان بن يار ياسر بينهم ملك سبا وذي ريدان.
المراجع : "صفة جزيرة العرب" للهمداني "تاريخ اليمن القديم" لمحمد عبد القادر بلفقيه